حوارات

فاتني أن أقول لكم

حواراتٌ في الشِّعر والحياة

 

298750 10150299414344898 1518166406 n1. لا أريد أن أقع ضحيّة الموضات  الشعرية: حاوره المصطفى المصدوقي

2. الكتابة التي تنبّهنا إلى جوهرنا وعمقنا الإنساني: حاوره منير الشرقي

3. الهامشية الجغرافية كرّست صورةَ أدبٍ مغربيّ هامشي ومجهول لدى المشارقة: حاوره الكنتاوي لبكم

4. أنتمي إلى الشعريّة التي تحمي العمق وتتطوّر داخل جماليات اللغة العربية: حاوره مصطفى تاج

5. الشعر هو الأرض الموعودة وليست قصيدة النثر: حاوره عبد الهادي روضي

6. "نقد الإيقاع" كان نقدًا مزدوجًا للنظرية وللكليشيهات التي تتمّ باسم الإيقاع: حاوره محمد نجيم

7. السياسيون يخافون الشِّعر: حاوره خالد بيومي

8. عندما يلوح المتلقّي ليس كشبح، بل كحافز من حوافز الحبكة: حاوره إدريس علوش

9. طفرة الكتابة تُضيع المعنى: حاوره عبد الدائم السلامي

10. خارطة الشعر المغربي ما بعد الثمانينيات جديرة بالتأمُّل: حاورته ليلى بارع

11. أهتدي بالداخل حيث يصدر هذا الذي يأتي دائمًا: حاورته سناء بلحور

12. الشعر المغربي قطع مع عهود الكفاف والتحرج: حاوره خالد أبجيك

13. الانفتاح على الراهن الشعري كسؤال يتمُّ في الحداثة وعبرها: حاوره نور الدين بازين

14. رغم كل شيء مازلت أومن بضرورة الشعر: يسرا فرزاز

15لا خيار أمام الكُتّاب غير مواصلة مغامرة الكتابة: حاوره سعيد عاهد

16. هجرة الشعراء العرب إلى الرواية "موضة": حاوره شادي زريبي

17. عن الشعر ومآل القصيدة المغاربية الحديثة: حاوره رامي زكرياء

18. "سياسويّون" يتوجسون من الفعل الثقافي: حاورته: سومية ألوكَي

19. هذا الشعر الذي أساؤوا فهمه ومزّقوه كل ممزق: حاوره فيصل رشدي

20. أومن بقوّة الشعر وارتباطه الأسطوري بعذابات الإنسان: حاوره عبد الواحد مفتاح

21. طمّ واقع الثقافة بالزبد وجلس أدعياؤها في أول الصفّ: حاوره عبد الله الساورة

22. علينا أن نتوجّه نحو بناء شعرية مغربية: حاوره نصر الدين شردال

23.  قصيدة النثر تواجه خطابا نقديا سلفيا: حاوره السيد حسين

24. النشر الالكتروني يمثل تهديدًا للورقي: حاوره عبد العالي بركات

25. أتبنّى مفهوم الحساسية في مقاربة التجربة الشعرية الجديدة: حاوره محمد الديهاجي

 

      فيما يشبه تقديمًا..

 

   نحو ثلاثة عقود في صحبة الشِّعر ومحبَّته، أُقلّب نظري في السماء وأرِثُ صمت الجهات. صور، مجازات، شذرات، موسيقى، صداقات ووداعات. كان هذا رأسمالي من بحثي في الشعر، وزادي من المعرفة به والإصغاء إليه. ربع قرّنٍ من تحوُّلي الذي ارتضَيْتُه وكابدْتُه وتعلّمْتُ منه. لم يكن يعنيني من تلك الصحبة إلا أن أكون ذاتي، وأن أراني في مرآة الوجود الذي صار يناديني من بعيد، فيما كانت المرآة تنصع حينًا وتنبهم حينًا آخر، ولولا ذلك ما حفزتني على النظر مليًّا إن صامتًا، وإن دامعًا. ربع قرْنٍ بدأ بخطوة واستحال اليوم إلى مسافة غائرة في وجداني وأشواقي.

  كنتُ في أيّامي تلك أبذلُ إصغاءً من نوع خاصّ، قد يصلني بنقطة التماسّ حيث مكمن الضوء، والماء، والسريرة التي لا تنضب. كنتُ مثل المستغرق في وهم جميل أمام نهر صغير يتخيّله طافحًا بهدير الأمواج وفضّة الزبد، وأخاف أن يأتي من يخبرني بأنّ لا شيء في النهر، فيفسد عليّ وهمي الجميل، ويطرد من مياه مخيّلتي الأسماك والنوارس وأجراس القاع الدافقة إلى الأبد. كان ذلك مبرِّرًا كافيًا لعزلتي، ولتوحُّدي بالشعر وندائه إلى اليوم.

     يرسم الكتاب بين طيّاته لحظة حوارية تتشكّلُ من جملة حواراتٍ أُجْرِيت معي في مراحل متفرّقة؛ منذ عقد ونيّف، من طرف أصدقاء مغاربة وعرب من الشعراء والكُتّاب الذين تتسلّلوا معي إلى مخدع كتابتي، فأتاحوا لي المجال للحديث عن رؤاي وتصوُّراتي، ومقاطع من سيرتي الذاتية، وعن أقانيم تجربتي الشعرية، وعن بحوثي النقدية التي عنيت فيها بقضايا الشعر والشعرية العربية.

   وقد أردتُ من وراء هذه الحوارات التي تضمّ سمت الجدّية إلى روح العفوية، أن أقول شيئًا، وأتبيّن موطئًا لقدمي في ما سِرْتُ/ صِرْتُ إليه، بقدر ما يتقاسم القارئ الكريم معي جزءًا من مشاغلي وانهماكاتي وأسئلتي التي لا تزال تُلحُّ عليّ، وبالتالي سيكتشف أصداءً تتردد بين الحوارات نفسها، كما يتعرف على قدر - يزيد أو ينقص- من سؤال الشعر ومعرفته كما تصوّرتُهما وعملتُ على تطويرهما؛ فإنّ ذلك كلّ وكدي ودَيْدني.

   ومن الطريف أن بعض ما ورد في هذا الحوار أو ذاك شكّل في وقته نواةً لمقالة أو حتى لكتاب بكامله، وبعضه الآخر يختمر ويتبلور تحت تأثير قراءاتي الجديدة؛ فلطالما حملت نفسي على ما أقوله بشيء من محصول علمي، وبكثيرٍ ممّا أسعى إلى معرفته بتؤدة وقلق في آن.

(1)

لا أريد أن أقع ضحيّة الموضات  الشعرية

   حاوره: المصطفى المصدوقي

    س: حدثنا عن بداية علاقتك بالقصيدة، وما الذي جعلك تمارس الكتابة الشعرية؟ 

  • هي بداية كل شاعر وجد نفسه في حياة صعبة أعزل إلا من سريرته الزرقاء التي علمته شرط الوجود أيًّا تكن درجة المعاناة والألم. لذلك، لا أقول إن الصدفة هي التي قادتني إلى القصيدة، بل الضرورة التي تتغذّى على شرطها الإنساني. في هذه الضرورة وجدت نفسي متورّطًا في ضيافة القصيدة، المؤلمة والممتعة في آن. أذكر الآن كيف كانت تلك الأيام الأولى لكتابة القصيدة تتقاسم معي عمري الأول الجميل، وكيف كان يؤرقها، مثل أرقي، الحلم بواقع بديل غير واقع شظف العيش والحرمان الذي عانيته، وذلك من خلال السفر في مفردات الرومانسية المُجنّحة. لا أنسى، هنا، الشاعر من أصول فلسطينية وجيه فهمي صلاح الذي رعى موهبتي الشعرية من خلال برنامجه الإذاعي "مع ناشئة الأدب"، والشاعر محمد بنعمارة الذي كان صوته "في حدائق الشعر" يتصادى مع صوتي اليتيم. بإيجاز، هي لحظة البدايات التي رهنتني بالآتي، في الحياة والكتابة. أفكر في جان كوكتو وهو يصرخ: الشعر ضرورةٌ، وآه لو أعرف لماذا !

س: لا شك أن تجربتك الشعرية على قدر كبير من الأهمية، هل يمكن أن تفصل الحديث عن هذه التجربة؟ 

  • تجربتي الشعرية لا تزال فتية، وأنا يوميًّا أتعلم كيف أنصت إليها، وأكبُّ عليها وأغنيها. بحذر وحساسية أتقدم في دروب التجربة. إذا عدت إلى ما كتبت في ديواني، وفي ما تفرق من شعري تجدني منحازًا إلى شعر القصيدة الذي يتحرك داخل جماليات اللغة العربية، بهذا الشكل أو ذاك. لا يعنيني في الأشكال الشعرية التي أختبرها بقدر عنايتي بالفكرة الشعرية من جهة، وبوعائها حتى يشفّ، بدرجة مهمة، عن شرطها الإنساني والوجودي. لقد كتبت الشعر العمودي، وطورت حاستي الشعرية في شعر التفعيلة، كما أن عملي الشعري يقترب، كتابيًّا وتخييليًّا، من جماليات قصيدة النثر، المشطورة تحديدًا. لنقل هي تجربة تتنامى في عبورها الخاص، وفي انتباهي الخاص. فأهمّ ما يشغلني ألا أقع، مثل كثير من شعراء جيلي، ضحية موضة شعرية ما. أنا ضد الزعم بأن هذا الشكل هو آخر أشكال الشعر العربي، وضد التنميط المعاصر عديم الموهبة والجهد. 

س: ما الذي يقلقك اليوم، ويدفعك إلى الكتابة؟

  • دائما كان الشعر رديف القلق. وما أرهب ما نسمع من أبي الطيب المتنبي نداؤه المهيب: على قلق كأن الريح تحتي. إن القلق، في اعتقادي، حافز القصيدة على ارتياد المجهول في الذات، الأشياء والعالم. القلق شعورٌ مثمر، وهو ليس اليأس. إنه الفعالية التي تنظف الروح الأسيانة مما يطاولها بالرغبة والأمل المزمن. لي في تمجيده هذه الأبيات:

    أمْستْ كمِثْل الرِّغاب نافِذتي     كِلاهُما الحبُّ فيهِ يشْتعِـلُ

   وليْس شوْقُ العُيونِ منْ أملٍ      يَـفْنى إذا حدّقتْ، ويبْتـذِلُ

    ثلاثةٌ في الـرِّياح ما رَقَــــــدوا        أنَـا وحبْرُ البَعيدِ والأَمـلُ

   في هذه الأيام، أنحاز أكثر إلى كتابة تشف عن هموم الذات حيث نصاعتها التي تشف، بدورها، عن عزلتها وهشاشتها. كما أني لا أغفل عن الانشغال، جماليا وأخلاقيا، بقضايا الصراع الإنساني الذي تجتازه أمتي من أجل هويتها، حياتها ووجودها. بهذا المنظور، كتبت عن حبي، وغنائي البسيط، وسعيي المحموم إلى حريتي المنثورة بين التفاصيل حيث يرقد الشيطان، مثلما كتبت، بشكل مواز، عن حدائق بغداد، ورماد جنين، ورؤيا بيروت وتغريبات المهاجرين المغاربة والمتنبي وديك الجن وابن زيدون وأبي العباس السبتي.

   في الحقيقة، يقلقني البحث عن موطئ قدم في عالم مضطرب يسمح لي بالرؤية إلى ما حولي في صفاء وحرية، مثلما يقلقني فهم ما يجري، ومعرفة ما يتبدل من المفردات والقيم. لا أنسى أن أحتفظ بقدر من التفاؤل الذي لا يعمي الرؤية، ويترك الوعد بالحياة في النفس وبين الناس مستأنفًا باستمرار.

س: مَنْ من الشعراء الذين أحببتهم، وأضافوا إلى تجربتك غنى ومعرفة؟

  • أنا أنتمي إلى الشعرية العربية الأعرض التي تضرب بأطنابها في عمق التاريخ واللغة والثقافة، من الشعر الجاهلي حتى أيامنا، والتي لا تزال تجدد آليات عملها الكتابي والتخييلي، وتأويلها الخصيب للذات والعالم. أنتمي إلى النصوص التي تحمي العمق، وتتطور داخل جماليات اللغة العربية. ولهذا، أحببت طرفة بن العبد، والعباس بن الأحنف، والمتنبي، وأبا العلاء المعري وابن زيدون من القدامى، وأحببت أحمد شوقي، وإيليا أبا ماضي، وأبا القاسم الشابي، وعلي محمود طه، وبدر شاكر السياب، وأمل دنقل وأحمد المجاطي من المحدثين، وأحببت محمود درويش، وأدونيس وقاسم حداد وأمجد ناصر من المعاصرين. أحببت، أيضا، النساء الشواعر أغلبهن. وهكذا، أزعم أن الصفحة التي أخط فيها شعري هي، سلفًا، مسودة بحبر هؤلاء الشعراء الذين أتقاسم معهم ميراث الجهد الفني، وميراث حماية العمق، وميراث الوحي في المكان الخطأ. 

س: متى تكتب؟ أقصد هل من طقوس معينة تمارسها أثناء الكتابة؟

 -ليس هناك من وقت معين للكتابة. عليك أن تتوقع مجيء السطر الأول للقصيدة في أي لحظة، ومن ثم عليك أن تحميها من الاستسهال والسطحية بالجهد والموهبة. ولا طقوس للكتابة، أيضا. ما أحرص عليه هو هدوء اللحظة الذي يحفزني علي تدبير ضوضائي الداخلية. أشد ما أكره أن يقتحم علي شخصٌ ما عزلتي إلا ابني ريان في ربيعه الأول. ربما في حضوره ترتيب النظر إلى المكان الخطأ. مكان المجاز أعني. 

س: هل تشعر أنك حرٌ كشاعر؟

  • ديدن كل شاعر من شعراء العربية أو غيرهم هو أن يكون حرًّا، بلا مهانة. أن يكون حرًّا في كتابته، وفي إرادته، وفي صوته، وفي خياراته الجمالية، وفي مواقفه مما يجري حوله. وللشعراء قصة طويلة مع عشقهم للحرية. بالنسبة إلي، أعتقد أني أنتزع حريتي بالتدريج، وأهيىء نفسي لها، وأربّيها على ألا تكلّ في طلبها. وإذا نظرت إلى شعري وجدت فيه تاريخًا من العمل على الحرية يتطور بقدر تطور تجربتي الشعرية ووفق دافعية القول، وضرورة المعني، والمناخ النفسي، وإكراهات الشكل وواقع الناس الذي أحياه. إني أعمل ما استطعت حتى تبقى حريتي الشخصية، وحريتي في الحياة والقصيدة تنبض بلا انقطاع، لأن شاعرًا يعيش ضغط السائد ولا يتجاوز، يشرف على الهاوية ولا يحتج، يرى ما حوله ينهار ولا يتهم، إنما هو يصادر صوته وحريته. أشعر بأن حريتي في عافية لما يكون لي صوتي الخاص، وذائقتي الخاصة.

س: هل أنت راض على مستوي المتابعة النقدية لشعرك؟

  • أرى أن هناك غيابًا غير مسبوق لنقد الشعر، وحيوية الشعراء في مشهدنا الراهن. فقط هناك، في الغالب، نقودٌ يطغي عليها أسلوب المجاملة والمحاباة والتشيع لهذا الطرف أو ذاك. ومثل باقي مجايلي من شعراء المغرب والبلاد العربية، أرى أنه ليست هناك متابعة نقدية جادة لما أكتبه، وأجتهد في كتابته من شعر. أغلب النقد الجاد منصرفٌ إلى الرواد فيما يشبه الاحتفاء بتجاربهم. التجربة الشعرية الجديدة في المغرب مهمّة بالنظر إلى ما تقترحه من جماليات كتابية، ولكنها معرضة للإهمال والنسيان والصمت بسبب غياب النقد، وبسبب فوضي المعايير النقدية. أما الأنطولوجيات التي صارت موضة فإنها فقط تكرس ما هو مكرس، ونادرًا ما تلتفت إلى الأصوات الحيوية والعميقة في راهن الشعر المغربي. ينقصنا نقادٌ يخلصون لهذه التجربة واقفين علي مزاياها ومثبطاتها، وعاملين على تجديد النقاش بخصوصها. في المشرق، هناك نقاد بل شعراء رواد يقومون بهذا العمل مثل عمل الشاعر محمد علي شمس الدين الذي يتابع بالتعريف والنقد إصدارات الشعراء الجدد.

س: يقول الشاعر والناقد الإنكليزي ووردزورث إن كل شعر جيد هو فيض تلقائي لمشاعر قوية ، فماذا تقول أنت؟

  • للشاعر الإنكليزي ووردزورث، بطبيعة الحال، تصوره للشعر الذي يمتحه من المرجع الرومانسي في بداياته المضيئة، ويقوم على العاطفة والخيال. نذكر تعريفه للشعر بأنه الحقيقة التي تصل عبر العاطفة إلى القلب، ونذكر ما قاله عن الشاعر الذي يدرك من جوهر الحياة ما لا يدركه غيره. هذا الميراث من صفاء الرؤية إلي الشعر وفعاليته نتعلمه ثانية من ووردزورث. لكن ما يهمني من شعره هو إعلاؤه لنزعة الأمل والفرح حتى في لحظات الحزن المهيبة. أفكر فيه وهو يقول في إحدى قصائده:

         لا شيء يستطيع أن يعيد لحظة رونق العشب وبهاء الزهرة
         ومع ذلك، فلن نحزن
         بل سنجد القوة فيما يتبقى.

    تلك فعالية القصيدة العابرة للذوات، والنصوص والأزمنة. هي نفسها فعاليتي. أرى إلى الشعر بوصفه فعالية تتجدد كلما أمكنه أن يسأل، وأن يحيي، وأن يتوجه إلى المستقبل. فعاليته في مستقبله. إن الشعر، في زعمي، شرط الإيقاع الإنساني الذي علينا أن نلتزم بمواجهته في كل لحظة من لحظات المصير الذي نتحمله، بحبّ وصبر.

س: الشعر في العالم العربي وصل إلى مرحلة من النمطية حسب بعض النقاد، في رأيكم إلى ماذا تعود الأسباب؟

  • إجمالًا، هناك توجه نحو التنميط ناتج عن استسهال الشعر، وعن ادعاء بأن شكل قصيدة النثر هو آخر أشكال الشعر. تنميط الشكل يؤدي، رأسًا، إلى تنميط الرؤية، الحساسية والمتخيل. حتى داخل شكل قصيدة النثر نفسها هناك تنميطٌ يصدمنا، لأن فيه تفقيرًا لكل الإمكانات التي ظهرت من أجلها هذه القصيدة، وبررت وجودها بقوة. إن وضع شعرنا اليوم باتت تميزه النمطية، ومن المثير للقلق أن هذا الشعر الذي مثل، في حد ذاته، ثورة علي النمطية في الشعر العربي وجد نفسه يعيد إنتاجها. هناك ظاهرة تكرار وتشابه للأساليب والرؤى تصيب الكثير من الشعراء بعيدًا عن العمل في الاختلاف والتفرد. لنقل إنها أزمة شعراء وليس أزمة حركة شعرية. في المقابل، هناك تجارب شعرية رائدة تشق عبورها الخاص، وتسند الحركة الشعرية، وتجعل شعريتنا المعاصرة قابلة للتجدد والعطاء.

س: كيف ترى مستقبل القصيدة في المغرب؟

  • صار الحديث عن مستقبل الشعر يثار بحدة هذه الأيام، وأكثر هذا الحديث غير ذي شأن، وأكثر ما أخشى أن يحل الحديث عن الشعر محل الشعر نفسه. ومع ذلك، يبقى السؤال ضروريًّا بالنسبة إلى حالتنا العربية. في أوربا وأمريكا لا تطرح المسألة المقترحة عن مستقبل الشعر بالحدة نفسها، ولكن لكون الشعر هو إرثنا الثقافي والجمالي الضارب بأطنابه في أعماق التاريخ والحضارة، والهاجع في اللاوعي الجمعي فإن المسألة تأخذ طابعا إشكاليا بقدر ما نعاني منها.

 في المغرب، يمكن لنا أن نناقش المسألة من زاوية أخرى بالقياس إلى الخصوصيات التاريخية والثقافية، ولكن إذا اقتصرنا علي ما هو ملح ومستعجل فإنه يجوز لنا أن نتحدث عن مستقبل ما للشعر بالنظر إلى ما تعرفه القصيدة المغربية الحديثة من وعي جديد، وأفق جديد، وإمكانات جديدة تسهم بها الحركة الشعرية التي تفصح عن تململ حيوي وواعد. ودعني أقول إن هذا المستقبل محفوفٌ بالمخاطر لأنّه المغامرة نفسها، وأشدّ ما يشغلني، هنا، هو بعض المعيقات التي قد تعرضه للعماء، وتحرف مجراه العمودي؛ وأهمها: تراجع الاهتمام بقراءة الشعر وتداوله حتى في أماكنه الطبيعية مثل المدرسة، تحول الفعل الشعري إلى نشاط نخبوي ضيق، وعدم تشجيع ودعم المؤسسات لنشر الشعر، وتجاهل دور الشاعر ورد الاعتبار لقيمه في المجتمع. إلى جانب تهميش العميق والحيوي الذي يمثله الشعري، والإعلاء من شأن الاستهلاكي، السطحي والآني الذي تروج له وسائل الميديا في سياق العولمة. وليس أخيرًا غياب النقد، وشرط الحرية، وشيوع الظواهر والقيم التي تشيع الفوضى والأنانية والسلطوية التي تحركها أوهام السبق والريادة.

   وأرى أن أمام بيت الشعر في المغرب، باعتباره جمعية ثقافية ذات نفع عام، مسؤولية ثقافية وأخلاقية يعززها بشراكته الحضارية العميقة مع مؤسسات الدولة للنهوض بأوضاع الشعر المغربي، والتأريخ لشجرة نسبه الحقيقية، والعمل علي زرع مناخ التضامن والمحبة بين الشعراء المغاربة حتى تبقى جوانحهم تنبض، في ليل الوجود، بأرواح تبرهن على أن المستقبل هو- دائمًا- منذورٌ للشعر، ويظل كذلك بسبب قدرته المدهشة على بث الحمية في المعاني الإنسانية والوجودية الأساسية للشرط الإنساني.

*القدس العربي، 5 و6 أبريل/ نيسان 2008 .

(2)

      الكتابة التي تنبّهنا إلى جوهرنا وعمقنا الإنساني 

       حاوره: منير الشرقي

س: لو استيقظتم يوما ووجدت نفسك وزيرا للثقافة، ما هو أول شيء ستقومون به؟

  • إذا كان بالحقيبة مالٌ كثيرٌ فلا بأْس، وأوّل ما أسعى إليْه هو النّهوض بمشروع المجتمع الثّقافي، مجتمع المعلومات والمعرفة الّذي يعمل على تحصين الإنسان المغربيّ من اليأس والإحباط، ويفتح إنسانيّته على إمكاناتٍ مهمّة من الحلم والأمل بالغد. ولن يتمّ ذلك إلّا بتكريم مثقّفيه وأدبائه وشعرائه وفنّانيه لأنّهم الرأسمال الرمزي، ولسان الفضاء العمومي الغنيّ بالأسئلة والمواقف المتيقّظة بروح العصر، والرّاسخ بهويّته ذات الأضلاع البلّورية: الأمازيغيّة ـ العربيّة ـ الإسلاميّة بشكل غير قابل للفصل، خارج كلّ مناورة أو إيديولوجيا تعيق ضرورة هذا المشروع. وحتّى ذلك اليوم فإنّي أتّهِم.

 س: ما هي وظيفة الكتابة اليوم، في عالم مليء بالمفارقات. ووسائط أمست تزاحم حضور حميمية الكتاب؟

  • في هذه الأوقات العصيبة من ثقافتنا يتأكّد الدّور الطبيعي والطليعي للكتابة، الكتابة بما هي الحركة المستمرّة، الحيويّة أكثر التي تحملنا على التّفكير والحلم، وعلى الانتباه لجوهرنا وعمقنا الإنساني، والاهتمام بما حولنا من اختلاطات الحياة العابرة. لهذا، فكلّ كتابةٍ حقيقيّة وضروريّة هي تلك الّتي تتوجّه إلى المستقبل، خارج الأوهام الّتي تروّج لها «الموضات» وتُغري بها مرضى الاستسهال والتّسطيح. وفي ظلّ صعود وسائط الميديا وشاشاتها الافتراضيّة، وما تُمارسه من إغواء وجاذبيّة على الجيل النّاشئ من الكتّاب، فإنّه لا يزال للكتاب الورقيّ دوره وقيمته، بل يتقوّيان ويتسلّيان مع نظم التّكنولوجيا بالاستفادة من ثمارها. يدلّنا على ذلك العناوين المتزايدة الّتي تقذفها المطابع كل يوم،وما تلقاه من اهتمام جمهور القرّاء وثقتهم. وهذا يعني أن الكتاب الورقيّ والمطبوع لا يزال هو الشكل السائد والجدير بتقديم المعرفة الإنسانية. شخصيًّا، لا أستطيع أن أتذكر لحظة في حياتي لم أكن فيها شغوفًا بالكتب، وبأغلفتها وشكل كعوبها، وبالورق الذي طبعت عليه، وبرائحتها الفاغمة، وبإحساسي المثير بها وأنا أضمّها بين ذراعيّ.هل من حميميّة أجمل من هذا؟

 س: ما هو طقسك الخاص في الكتابة؟

  • ليس هناك من طقس معيّن في الكتابة. عليك أن تتوقع مجيء السطر الأول للقصيدة في أي لحظة، ومن ثم عليك أن تحميها من الاستسهال والسطحية بالجهد والموهبة. ولا أوهام للكتابة، أيضًا. ما أحرص عليه هو هدوء اللحظة الذي يحفزني علي تدبير ضوضائي الداخلية. أشد ما أكره أن يقتحم علي شخصٌ ما عزلتي إلا ابني ريان في ربيعه الأول. ربما في حضوره ترتيب النظر إلى مكان الوحي الخطأ.

س: الوطن.. أي صورة ترسمونها حوله، وهل ثمة تعريف للوطن اليوم؟

-الوطن هو اليوتوبيا الّتي نبحث عنها في دواخلنا وعلاقاتنا و وذكرياتنا وجراحاتنا، وما فتئنا، نحن المسحورين به، نُوجِد له أصابع نصافحه بها، وزيًّا نُلبسه إيّاه، وحدائقَ خضراء نتكلّم فيها إلى روحه حتى لا نضيع في الأفواه الّتي تلوكه كلّ يوم، وتسحقه باسمنا. لنقل، بعبارة أخرى، إنّ الوطن هو البلد الأم، والمنشأ، والانتماء، والهويّة، والثّقافة، والمكان الذي يوفّر لنا الأمان والحرية والرفاهية والعدالة، والأهم من هذا كلّه يتيح لنا الأمل في مستقبل أفضل. لا يتم ذلك إلا باقتسام عادل للثروات، وبالديموقراطية الّتي نحسّ بها كعلامات ترقيم بين جمل حياتنا

س: ما هو الكتاب الذي قرأته فأثّر في مسار حياتك الأدبية؟

  • قد يكون، على الأرجح، كتاب "الأعمال الكاملة" للشاعر نزار قباني.

 س: حلم مستعد أن تقايض حياتك به؟

  • حياتي الأخرى الّتي أطمح إليها، هنا والآن.

س: طلب منكم كتابة رسالة عاجلة، الى من توجهونها؟

  • إلى أبي الطيب المتنبّي، أُخْبره فيها أنّنا افتقدناه كثيرًا، وأنّ الحداثة في الشّعر لا تعني، بأيّ حال، التقدّم في الزمن، وأنّ كافور الإخشيدي يبيع أبياتك بالتقسيط على أبواب بغداد، وأنّ سماءك تُباع في المتحف.

س: هل لازال للمثقف اليوم وظيفة ودور طليعي في واقعه؟

  • نعم، لا يزال ودائمًا. لا يمكن أن يعيش المجتمع الإنساني بدون هذه الفئة الّتي تمثّل الطليعة. لكنّنا، مع ذلك، نلاحظ أنّ كثيرًا من مثقّفينا لم يفهموا من التحوّل الحاصل في واقعنا إلّا مسايرة العزف نفسه، في استخذاء مخيّب للآمال. إنّ النّقد، والتنوير، وتدبير الاختلاف، والقدرة على التحليل، وتحرير المعنى وسياساته الملتبسة، والمشاركة غير المهادنة للأفكار داخل الفضاء العمومي، والدفاع عن الحريّات وحقوق الناس المهضومة في قوتها وكرامتها اليومية، والعمل على حماية العمق من الاستهلاكي والسطحي هي رأسمال كلّ مثقف حقيقي وضروري لنا إذا أعاد الثقة بنفسه، وراجع أدوات عمله في الرؤية إلى الأشياء التي تتجدد حولنا، باستمرار.

 س: هل أنتم مع حوار الحضارات أم حوار الثقافات؟

  • هو الحوار نفسه، بشكل غير قابل للفصل. عندما نتحدث عن حوار الحضارات فنحن نعبّر بشكل أكبر عن حوار الثقافات، لأن مفهوم حوار الحضارات يقودنا، ذهنيًّا، إلى البحث في الثقافة. لقد صار لمثل هذه الأسئلة ملحاحيّتها إذا استحضرنا السياق الّذي أنتجها،على الأقل بعد سقوط جدار برلين. ولا أفهم لماذا أصرّ صموئيل هنتنغتون على إطلاق فكرته سيّئة الذكر "صدام الحضارات"، التي رافقَتْها موجة حقد وكراهية وتعصّب، بل كانت من وراء كوارث ومفارقات قبل أن تقع. إنّها سوداء، متشائمة بمستقبل الإنسانية، وقائمة على الصراع بدل إمكانات الحوار المتعدّدة. الحوار ضروريّ ومستعجل وندّيّ في المجالات الحيوية للإنسان من مثل الفلسفة والفكر والاقتصاد والتديّن واللغة والأدب والفنّ، بين الإسلام والغرب أساسًا. لا يمكن أن نتقاسم هذا الكون والقيم الّتي رعاها العقل البشري منذ القديم في زخم الصور المخيفة، والتهديدات المستمرّة والأكاذيب المخلّة بالأعراف. لن يكون مثل هذا المناخ الرهيب والمقيت إلّا مرتع المتطرّفين وفرصتهم السانحة. لكن لحسن الحظ فإن الأغلبية في هذه الجهة أو تلك تميل إلى الاعتدال والحوار والتواصل الثقافي والتفاعل الحضاري فيما بينها، لإيمانهم بأنّ المستقبل هو لحوار الحضارات والثقافات وتفاعلها فيما بينها لا لصدامها وتناحرها مثلما آمن بذلك البرابرة والمغول، وصدّقهم توماس هوبز صاحب (الإنسان ذئب الإنسان).

 س: في أرشيف ذاكرتكم، ما هي أجمل ذكرى تحتفظون بها؟

  • عندما وجدتُ، ذات صباح، بين يديّ صبيًّا صبوحًا من امرأة كريمة: ريان، ابني البكر.

 س: إذا قررتم السفر خلال هذا الصيف، ما هي الوجهة التي تفضلونها؟

  • الجديدة، المدينة الّتي ترعاها أساطير البسطاء بعد شروق الشّمس.

 س: في النهاية، من أنتم؟

-باحث عن الشعر وعبره. أمّا من أنا، مرّة أخرى؟ فتلك مشكلة أخرى! 

* الاتحاد الاشتراكي، 28 يوليوز/ تموز 2008.

(3)

الهامشية الجغرافية كرّست صورةَ أدبٍ مغربيّ هامشي ومجهول لدى المشارقة

حاوره: الكنتاوي لبكم

س: البدايات الشعرية والروافد المؤثرة في تجربتك..

  • تاريخ كتابتي للشعر بدأ في اللحظة التي أحسسْتُ فيها برغبة طافحة في التعبير كأيّ شاعر وجد نفسه في حياة صعبة أعزل إلا من سريرته الزرقاء؛ أفليس هذا هو مأتى الفنّ وغايته؟ لهذا، لا أقول إن المصادفة هي التي قادتني إلى القصيدة، بل الضرورة التي تتغذّى على شرطنا الإنساني. في هذه الضرورة وجدت نفسي متورّطًا في ضيافة القصيدة. أذكر الآن كيف كانت تلك الأيام الأولى لكتابة القصيدة تتقاسم معي عمري الجميل والصعب في آن، والتي كان عليّ أن أتعلّم آداب ضيافتها. واليوم، لا تزال تجربتي الشعرية فتيّة تستمرّ في التعلّم والإصغاء إلى زمنها كيما تبقى متيقّظة وحيّة. ولعلّ الروافد التي شكّلت أقانيم تجربتي، فيما أرى، متنوّعة ومتجاذبة، منها ما يعود الى التراث الشعري العربي، ومنها ما يمتح من اتّجاهات الشعر الحديث والمعاصر: بدءًا من الغنائية التي أعمل عليها باستمرار بجذريْها العاطفي والرمزي، وانتهاءً برفْد المتخيّل الذي يدفع بالذّات إلى أقصاها في مخاطبة المطلق عبر وجوهٍ وحيواتٍ وعوالم متعدّدة. وعلى العموم، أنا أنتمي إلى شجرة الشعرية العربية الأعرض التي تضرب بأطنابها في عمق التاريخ واللغة والثقافة، ولا تزال تجدد آليات عملها الكتابي والتخييلي، وتأويلها الخصيب للذات والعالم.

س: الانتماء إلى الثقافة المغربية وحضوره في إبداعك..

  • داخل هذا الانتماء الأعرض، أتعلّم كيف أنصت إلى ثقافتي المحلّية التي هي جزء أساسي ومختلف داخل الثقافة العربية الإسلامية، بين ضفّتي المتوسط. من ثقافتي المغربية بجذورها الأمازيغية والإفريقية والأندلسية أسترفد متخيّلًا مصطخبًا يدلّني على التنوّع الذي يُلهمنا الحياة التي نتوجّه إليها، ويجعل الهويّة التي نتكلّمها أو نحلم بالعبور إليها دائمة التحوّل. من هنا، يهمّني التعبير عن روحيّة الشعر المغربي وروائحه وأمكنته ورموزه وهواجسه. ولا أفهم شاعرًا مغربيًّا لا يعبّر عن ذلك، ويظلّ مغتربًا في الأشباح بحثًا عن حداثةٍ مزعومة أو خلاصٍ كاذب. ومن الدالّ أن أذكر، هنا، أنّ أوّل قصيدة دشّنت بها ديواني الأوّل موسومة ب"مرآة أبودا وما فاض عنها في اللغة الأمازيغية"، وهي تعني رغبة الذات العارمة في البوح بموجوديّتها ومعيشها؛ مثلما سوف تجد في الديوانين اللاحقين أيقوناتٍ وروائحَ تتداخل وتتخارج من الزمن المغربي وذريّاته.

س: فكرة المشرق العربي وتأثيرها في الساحة الثقافية، وإمكانية حديثنا عن زحف مغرب عربي ثقافيا..

-بغضّ النظر عن النقاش في ثنائية مشرق ـ مغرب، التي بدأ التداول في شأنها منذ ثلاثة عقود ونيّف، وبمنأى عن مبدأ المفاضلة بينهما الذي يتعالى على التاريخ، فإنّه يمكن القول إنّ بين المغرب والمشرق عناصر ثقافية وحضارية مشتركة ومختلفة في آن، فلا هما عالم واحد متجانس، ولا هما منفصلان بإطلاق. بالنسبة لنا نحن المغاربة نعتبر أن المشرق العربي أسدى لنا، عبر التاريخ، خدمات حضارية وثقافية جليلة لا تُنكر، مثلما أنّه صدّر لنا أزماته السياسية، حتى بتنا نردّد مع أحمد شوقي:

      نصحتُ ونحن مُخْتلفون دارًا    ولكنْ كلّنا في الهمِّ شـرْقُ

لكن التساؤل الآتي: من يعرف أكثر عن الآخر: المغرب أم المشرق؟ يفرض نفسه، هنا، بشدّة. فإذا كان الأدب المشرقي أدبًا محتفى به دائمًا في المغرب لعوامل شتّى، فإنّ الهامشية الجغرافية كرّست صورةَ أدبٍ مغربيّ هامشي ومجهول وغير متّضح الهوية لدى المشارقة المتحفّظين، إلى جانب التحدّي الأدبي  الأندلسي أو لعنة الصاحب بن عباد القائل ب "بضاعتنا رُدّت إلينا". أمّا اليوم فإنّ لعبة المركز والأطراف قد تغيّرت، وبات المشارقة يطلبون عناوين الكتب من المغرب، ويدعون أدباءه الذين زاحموهم في الجوائز والصفوف الأمامية وشارات جوقة الشرف، بل إن المغاربة باتوا يعرفون عن المشرق أكثر مما يعرفه المشارقة عن المغرب. وفي زعمي، أن هناك حراكًا ثقافيًّا عارمًا في البلدان المغاربية سوف يكون انعكاسٌ لافتٌ في مجمل المشهد الثقافي العربي، إذا أتيح له الدعم من لدن المؤسسات المعنية.

س: أوضاع اتحاد كتاب المغرب ورؤيتك الخاصة للخلاص من الأزمة..

  • لقد طُرحت مجموعة من التساؤلات الصعبة والمثيرة للجدل حول طريقة تدبير وتسيير اتحاد كتّاب المغرب الذي وصفه أعضاءٌ من داخله بأنه تحول إلى وكالة تجارية أو مِلكيّة خاصة عقب فشل مؤتمره الثامن. يُحزننا أن يتحوّل هذا التنظيم إلى ذلك، بعد أن كان مُساهمًا في الحراك الثقافي، ولم يفتّ في عضده نظام الحكم الذي همّشه طيلة عقود لاعتبارت سياسية لها علاقة بالوضع العام. لا أفهم لماذا الفشل اليوم، وقد أتيح له هامش مهمّ من الحريّة والمناورة والدعم بعدما صار الاتحاد يتمتّع بصفة جمعية ذات نفع عام. هل أتت عليه عدوى الأحزاب التي أتلفتْها الذلّة، وضربت بروح المواطنة وقيم الحداثة عرض الحائط؟

في كلّ الأحوال، هناك حاجة ملحّة إلى تغيير الهياكل المسيّرة للاتحاد سواء على المستوى المركزي أو على مستوى الفروع، مثل الحاجة إلى مراجعة صيغته الحالية وأسلوب تدبيره للشأن الثقافي، وذلك حتّى يكون بيتًا لكلّ أدباء المغرب الفاعلين لا الأدعياء، وحاضنًا لأفكارهم ومشاريعهم، ومعبّرًا عن وجدان أمّتهم وروح عصرهم,

س: دواوينك الشعرية كيف تنظر إليها بعد صدورها، هل بعين الرضى، أم الطموح لما هو أفضل؟

  • كلّ عملٍ شعريٍّ اِنتهيْتُ منه يصير في ملك القارئ، ولا أزعم أنّ الصيغة التي خرج بها إلى دائرة التلقي هي الصيغة المثلى. وقد حصل مرّات أن عدْتُ إلى نصوص منشورة، ولاسيما في الديوان الأول، فراجعْتُها مبنىً، وبلورْتُها معنىً. هناك قلقٌ يسكنني في كتابتي التي تحمل بذرة نقصانها، منحازًا فيها إلى شعر القصيدة الذي يتحرك داخل جماليات الحداثة التي تشفّ، بدرجة عالية من الهشاشة، عن شرطها الإنساني والوجودي. لكن هناك ـ بشهادة من قرأني ـ تطوُّر في تجربتي وسيرورة عابرة لمجمل أعمالي الشعرية. لقد كتبت الشعر العمودي، وطورت حاسّتي الشعرية في شعر التفعيلة، كما أن عملي الشعري يقترب، كتابيًّا وتخييليًّا، من جماليات قصيدة النثر، المشطورة تحديدًا. لنقل إنّ أهم ما يشغلني ألا أقع ضحيّة الموضات الشعرية وليدة الاستسهال والتنميط المعاصر الذي يهزأ بالموهبة وشرف الجهد الفنّي.

س: جائزة ديوان الشعرية وأثرها في مسارك الشعري..

  • إنّ جائزة رفيعة وجادّة مثل جائزة ديوان الشعرية التي تمنحها مؤسسة شرق ـ غرب، لا يمكن للظافر بها إلّا أن يسعد، ويُدرك أنّ زيت روحه الشعرية يضيء في أمكنة أخرى، وأنّ من حباه الله الموهبة وشرف الكلمة يحظى بحبّ الناس الذين يأنسون عزلته. ولقد تأثّرت بشهادات اللجنة كمثل شهادة الناقد والشاعر البحريني د.علوي الهاشمي أو الناقد العراقي د.عبد الرضا علي أو الشاعر اللبناني شوقي بزيع، الذين حكموا برأيٍ شريف ونزيه في شخصي وفي حقّ مجموعتي الفائزة "ترياق" التي صدرت، قبل أيّام، في دبي عن ديوان المسار للنشر. ولا يمكن لهذه الجائزة بشهاداتها الثقيلة إلا أن يكون لها، بلا شكّ، أثرٌ في مسار تجربتي الشعرية، بعد أن أشعرتني بالمسؤولية وأخلاقيات الكتابة في هذه اللحظة العصيبة من ثقافتنا العربية.

س: المسابقات الشعرية العربية التلفزيونية وتنامي هذه الظاهرة، هل تراه جيّدًا، أم له سلبيات أكثر على التلقي النمطي للشعر عبر الكتب والمجلات؟

  • بغضّ النظر عن المواقف والمواقف المضادة التي أثارتها المسابقات الشعرية العربية التلفزيونية، وعن تسمياتها المتنازع حولها، يمكن أن نتّفق مبدئيًّا أن مثل هذه البرامج عملت على تعريف الناس بشيءٍ اِسْمُه الشعر، مثلما بدأت تُروّج لثقافةٍ شعرية داخل فضائنا الإعلامي الذي يشهد انحسار الهامش الثقافي والجمالي، وتزايد الرداءة والتّسطيح الذي يستخفّ بالعقول.

 ومثل هذه المسابقات، إذا كان همّها النهوض بالشعر بدل المتاجرة به، سوف يردّ الاعتبار للقصيدة العربية، ويُغني الحركة الشعرية بأسماء جديدة وواعِدة، كما يرتقي بمستوى الذائقة الفنية للناس ويحفّزهم على العودة إلى مظانّ الشعر ونقوده القديمة والحديثة.
*وكالة أخبار الشعر العربي، 25 يوليوز/ تموز 2009.

(4)

أنتمي إلى الشعريّة التي تحمي العمق وتتطوّر داخل جماليات اللغة العربية

 حاوره: مصطفى تاج


س: كيف ابتدأت قصتك مع الكتابة، وكيف انزحت للشعر بالذات؟ وما الإكراهات التي واجهتها على دروب البدايات؟

  • أتاح لي الصفّ الدراسي واجتهادي فيه أن أتعرّف، بعد كتاب الله، على كتُبٍ أخرى بما في ذلك المصوّرة التي كانت تقذف بي في أحلام اليقظة والعوالم العجيبة، مثلما واجهْتُ لأوّل مرّةٍ نصوصًا من الشعر في مادة المحفوظات، وتفتّقتْ موهبتي في موضوعات الإنشاء التي كنّا نُؤْمر بها، فأسرْتُ بمخيّلتي وخطّي الجميل أساتذتي وأضرابي في الفصل من الحسناوات والكسالى معًا. لكنّ قدرًا جميلًا كان بانتظاري في محطّة ما، بعد أن عاركتْني الحياة وزاد وعيي الشقيّ بها وقلّت الرفقة، إذ قادتْني يداي ـ لا أدري صدفةً أم هِبةً ـ إلى كتاب "ميزان الذهب في صناعة أشعار العرب" الذي كان بمثابة كتاب مقدّس، ثمّ قادتْني خُطاي إلى مكتبة، فاقتنيْتُ دواوين من الشعر ممّا يدّخر صاحبها منه، وكانت علاقتي بالشعر بدأت تتوطّد من سماعه وقراءته بين برامج إذاعية وملاحق ثقافية.

   أذكر أنّي اقتنيْتُ "رباعيات الخيام" بترجمة أحمد رامي، "الملاح التائه" لعلي محمود طه، "الحياة الحبّ" لإبراهيم محمد نجا، "الأجنحة المتكسرة" و"الأرواح المتمردة" لجبران خليل جبران، و"ديوان ابن زيدون". كما استعرت "أغاني الحياة" لأبي القاسم الشابي، و"ديوان إيليا أبي ماضي"، و"ديوان بهاء الدين زهير"، و"أحلى قصائدي" لنزار قباني. وقد فعلت فيّ هذه الدواوين فعل السّحْر، وقدحت ذهني، ووشمت وجداني، فصارت رؤيتي ـ نتيجةً لمقروئيّتي ـ رومانسيّةً وحالمةً ومتفائلةً.

لقد أحسسْتُ في قرارة نفسي، بعد سنواتٍ من اغترابي النفسي والوجودي، أنّي عثرْتُ على أصفيائي من الشعراء، فقرأْتُ ما خطّوه بكلّ جوارحي، وأذرفت معهم دموع هذه التجربة أو تلك، وارتفعْتُ وإيّاهم إلى مدارج الحلم والخيال.

لا أنسى أن أذكر، هنا، الشاعر من أصول فلسطينية وجيه فهمي صلاح الذي رعى موهبتي الشعرية من خلال برنامجه الإذاعي "مع ناشئة الأدب"، والشاعر محمد بنعمارة الذي كان صوته "في حدائق الشعر" يتصادى مع صوتي اليتيم.

هي، إذن، بداية كل شاعر وجد نفسه في حياة صعبة أعزل إلا من سريرته الزرقاء التي علمته شرط الوجود أيا تكن درجة المعاناة والألم. لذلك، لا أقول إن الصدفة هي التي قادتني إلى القصيدة، بل الضرورة التي تتغذى على شرطنا الإنساني.

س: في ديوانك الأول "لماذا أشهدت عليّ وعد السحاب؟" تبدو الذّات عنيدة في حرثها للُّغة والرؤيا بحثًا عن الخروج والانعتاق. عن أيّ تجربةٍ صدرت أشعارك في هذا الديوان؟

  • تكشف نصوص "لماذا أشهدْتِ عليّ وعد السّحاب؟"، وهي مجموعتي الأولى، عن ملامح من السّيرة الشعرية لذاتٍ تعيش تجربة خاصة، وتعبر عن قلق وجودي. ذات متشظية، مسكونة بالأمكنة ومحاصرة بالتخوم. وبما هي كذلك، تحاول هذه الذات الفكاك من أسرها لتحلق بعيدًا في رحابة السماء حيث النور والحقيقة، لكن هناك أشياء أثمن تجعلها تنشدُّ إلى شرطها الإنساني ـ الأرضي.

في فضاء القصيدة، تعاين الذات الشاعرة وضعًا فادحًا ينعكس على بنية التشظي الثاوية خلف التجربة، مثلما ينعكس في تعدّد الموضوعات التي كانت تشغل الذات بوصف تجربتها تجربةً للعبور والانعتاق. ذلك ما أتاح لها التعبير داخل لُغةٍ بين قديمة وحديثة، صافية وحادّة، بكلّ تلويناتها المعجمية وتأويلاتها الممكنة.

وعلى كلّ حالٍ، إذا كانت تجربة الذات في المجموعة بمثابة متاه، فإنّها سرعان ما تتحوّل إلى أفق للرّغبة عندما ترعى الذّات مخاضات الوعد، فيما هي تشرق عبْر أصوات الطّبيعة الصّادحة، ومراقي الحبّ، وتخوم الحياة المتناثرة بين الأمكنة الهاربة.

س: هل يعكس ديواناك اللاحقان "ما يُشْبه نايًا على آثارها" و"ترياق" استمراريّةً للديوان الأول، أم يُحدثان قطيعةً معه؟

  • دائمًا ما يسكنني قلقٌ من نوعٍ خاصّ بإزاء كتابتي الشعرية. كلّ نصّ أفرغ منه يحمل بذرة نقصانه، وبالتّالي يُديم علاقتي بقلق الكتابة. لكن دائمًا ما كنتُ منحازًا إلى شعر القصيدة الذي يتحرك داخل جماليات الحداثة التي تشفّ، بدرجة عالية من الهشاشة، عن شرطها الإنساني والوجودي. لكن هناك ـ بشهادة من قرأني ـ تطوُّر في تجربتي وسيرورة متحفزة تعبر مجمل أعمالي الشعرية.

لقد كتبت الشعر العمودي، وطورت حاسّتي الشعرية في شعر التفعيلة، كما أن عملي الشعري يقترب، كتابيًّا وتخييليًّا، من جماليات قصيدة النثر، المشطورة تحديدًا. لنقل إنّ أهم ما يشغلني هو رفْد المتخيّل الذي يدفع بالذّات إلى أقصاها في مخاطبة المطلق عبر وجوهٍ وحيواتٍ وعوالم متعدّدة. كلّ عملٍ شعريٍّ أُراهن عليه هو، في نظري، لانهائي، أي يتمّ في الآتي داخل جدل الاتصال ــ الانفصال.

س: من خلال دواوينك الشعرية، هل يمكن القول إنّك تنتمي إلى مدرسة شعرية محددة؟

  • أنا أنتمي إلى الشعرية العربية الأعرض التي تضرب بأطنابها في عمق التاريخ واللغة والثقافة، من الشعر الجاهلي حتى أيامنا، والتي لا تزال تجدد آليات عملها الكتابي والتخييلي، وتأويلها الخصيب للذات والعالم. أنتمي إلى النصوص التي تحمي العمق، وتتطور داخل جماليات اللغة العربية. وإنّي أزعم أن الصفحة التي أخط فيها / عليها شعري هي، سلفا، مسودة بحبر أؤلئك الشعراء من المتبتّلين في محراب العربيّة وهيكل الحبّ، والذين أتقاسم معهم ميراث الجهد الفني والعمق الذي يتهدّده اليوم جهل الميديا.

س: ماذا يعني لك التتويج المشرقي بعد حصولك على جوائز من لبنان والعراق والإمارات العربية المتحدة، بما في ذلك جائزة الشارقة في النقد الأدبي للعام 2009 عن كتابك "تحوُّلات المعنى في الشعر العربي"؟

  • يعني لي الكثير. في بلد مثل المغرب عليك أن تبذل مجهودًا لافتًا لتلقى الاهتمام ممّا يحبّون ويرغبون فيما تكتب، ويشجّعونه حقيقةً. هنا، حيث لا قيمة فيه للثقافي داخل الإعلام الرسمي وسواه، يصبح مجهودك ذا معنى، ويحفر في مجرى عكس السائد. لقد سرّتني الجائزتان، ولفتتا النّاس إلى شخصٍ يكتب خارج المؤسسة وسلطتها السالبة. ثمّ لا يخفى على أحد ما للجائزتين معًا من قيمة ثابتة، حتى لا تنعتها بسمات الجوائز الضالّة والمُجاملة والمُغرضة.

س: ألهذا السبب نتعرّف على كتاباتك من خارج المغرب؟

  • لولا ما سمعتُ يومًا عن أن الثقافة المغربية ذات بنية رصاصية لا يمكن اختراقها إلا من الخارج، لكنتُ قد انتهيْتُ، ولم يُسمع لي صوت. قرّائي اكتشفوني أوّلًا في جريدة "القدس العربي" التي تصدر من لندن، ثمّ قرأوا نتاجي الأدبي في أكثر من منبر غير مغربي، وتعرّفوا عليّ أكثر بعد نيلي الجائزتين من بغداد والشارقة كمركزين ثقافيّين بالمشرق.

س: هل للأمر علاقة بما يسود الوسط الثقافي المغربي؟

  • فتحْتُ أنا وأبناء جيلي، من الذين رأوا النور في زمن السبعينيّات، أعيننا على مؤسسة الأدب، واكتشفنا كيف كانت هذه الأخيرة يسودها مناخ غير سليم، وكان ينخرها واقع من الولاءات الحزبية والإيديولوجية والعشائرية التي كانت تُسيء للأدب، وتوقه إلى تجديد نفسه ورؤيته وعلاقاته بالعالم. ونتيجة لذلك، أذكر أنّ عددًا من أفراد هذا الجيل انقطع عن حلم الكتابة وانصرف إلى كفاف خبزه اليومي، بل منهم من قضى من الكمد أو انتهى إلى حافة الجنون.

وأعتقد بأنّنا اليوم بتنا نلمس اتساع هامش الحرية والنشر، وتململ المؤسسة نحو الأحسن في إعادة تدبير علاقتها بفضاء الكتابة والإبداع، في ضوء الانقلابات التي يشهدها العالم من انهيار الأيديولوجيات إلى ثورة التكنولوجيا الرقمية.

س: سبق لك أن صرّحت بأنّ النقد المغربي بدأ يتعافى من طغيان النقد الصحافي والإخواني بظهور مجموعة من النقاد ذوي حساسية جديدة في الرؤية والمنهج. في هذا الإطار، ما هو تقييمك لتجربة النقد الأدبي، ونقد الشعر تحديدًا؟

  • دائمًا ما نسمع من المشارقة قولهم إنّ النقد يوجد في المغرب، لكنّنا بتنا نشكو من غياب النقد، ونقد الشعر تحديدًا. لم يخض النقد بعد في قراءة واكتشاف التجربة الشعرية الجديدة بالمغرب. فإذا كانت تجارب شعرنا السابقة قد أُثيرت حولها نقاشات، واحْتُفي بها من قبل الدارسين بنسبٍ معقولة، مثلما كانت أصواتها مكرَّسة وذات رمزيّة بحكم ارتباطها بمشاريع ومؤسسات كانت تعتبر الموضوع الشعري، الرِّسالي تحديدًا، امتدادًا لخطابها، فإنّ تجربتنا الشعرية الراهنة تتكلَّم اليُتْم، وتُواجه العماء، مثلما أن كثيرًا من أصواتها لم تُسمع، أو لا تُسمع إلا بالكاد.

من هنا، يُجهل، حتى الآن، ممّا فيه اعتبار داخل الراهن الشعري. وليس هناك من مسوِّغ، ألبتّة، أن يظلّ نقد الشعر المغربي كما هو، وأن يثبت خطابه على ميدان هيمنة السلط والكليشيهات، فلا يُراوح مكانه. يجترّ النصوص نفسها، والأسماء نفسها، والمصطلحات نفسها، وهواء الحياة نفسه. وإذا لم يعد هناك ما يقوله، فإنّ عليه أن يتغيَّر، لأن الخطاب حول الشعر يتغيَّر لما يتغيَّر الشعر نفسه. لكنّه لا يتغيَّر، انتقائيّ وشكلاني وحاجب. لا ينظر إلى الأراضي الجديدة التي يحترثها الشعر المغربي، بقدر ما ينظر إلى نفسه وانسجامه الخاص. ولهذا يظلّ هذا الشعر مجهولًا في كلّ مكان.

باتت هناك حاجةٌ ملحّة ومستعجلة لنقد حقيقيٍّ وصارم له هاجس الانتماء إلى هذا الراهن الشعري، يدرس خصوصيّاته، ويُقايس إضافاته النوعية ضمن تيار الحداثة الشعرية، ويكشف ما يتحكّم به من قوانين وأسئلة متنوّعة ومركّبة.

 إنّ راهن الشعر المغربي ينتظر من كافة المعنيّين، ولا سيما من هؤلاء النقاد المتنبهين ممن يمتلكون حساسية جديدة في الرؤية والمنهج، أن يشرعوا في صياغة أجوبة لأسئلة من بينها مثلًا: أيهما أولى، الكتابي أم الإنشادي في مجتمع ذي أغلبية أمية؟ أيّ زخم يمكن أن تضفيه المعرفة الفلسفية على الممارستين الشعرية والنقدية بالمغرب؟ وأي موقع محتمل، في خارطتنا الشعرية، لشعراء قادمين إلى الشعر من معارف وحساسيات وهوامش نصّية لافتة؟ أيّ متخيَّل يمكن أن يرخيه مصطلح الكتابة الشعرية النسائية؟ بل أيّ متخيل شعري وطني يجب أن نهندسه بصدد شعراء مغاربة يكتبون بلهجاتهم المحلّية [الأمازيغية، الحسانية والعامية]، أو بلُغات الدول التي تُضيّفهم في المهاجر بأوروبا وكندا وسواهما؟

س: بصفتك ناقدًا كيف تنظر إلى خارطة الشعر المغربي المعاصر، لا سيما وأنّك اعتكفت على مقاربة مجموعة من الدواوين التي صدرت حديثًا؟

  • تلوح لنا الخارطة التي اختطّها الشعر المغربي من ما بعد الثمانينيات وإلى الآن، جديرة بالتأمُّل، لأنها شكّلت بتضاريسها المتنوعة آفاقًا جديدة، وقطعت مع ما سبقها، بقدر ما كرّست وعيًا جديدة بالمسألة الشعرية برُمّتها، بعد أن رفعت عنها السياسي والإيديولوجي، ويمّمت بوجهها شطر المغامرة، حتّى أنّ ما كان مُتخفِّيًا ومأمولًا يصبح أكثر حضورًا في تجربة الراهن.

في راهن الشعر المغربي نُصغي إلى هذه الحداثة، المتحوّلة باستمرار. تتبلور متخيّلاتٍ جديدة، وترتجف حياة الأيدي بالقول الذي يُمضي سؤاله الخاصّ في هذه اللحظة بالذّات، وهي جميعها لشعراء من أراضٍ وأوفاقٍ وحساسيّات مغايرةٍ ترتاد أفقًا شعريًّا، وتفتح في ردهاته وعيًا جديدًا بالمسألة الشعرية برُمّتها. ولقد صار بإمكاننا أن نتبيّن ملامح التجربة الجديدة التي تتفاعل في الراهن الشعري،

وقد تأثّرت بعوامل سياسية وسوسيوـ ثقافية متسارعة وضاغطة، محلّيًا وعربيًّا وعالميًّا: (أحداث 84 و90 التي فجّرها واقع القمع والظلم، سقوط جدار برلين، حرب الخليج، انهيار الإيديولوجيات الجماعية، صعود التكنولوجيات الجديدة، إلخ). ولعلّ أهم هذه الملامح التي يمكن أن نشير إليها هي: صعود قصيدة النثر التي باتت لسان حال الشعراء الجدد الذين لا يُخفي قطاعٌ كبير منهم رغبته في الحرية، وإن كان ذلك لا يخفي تهافته على كتابتها، ثمّ الاهتمام بالذات في صوتها الخافت والحميم وهي تواجه بهشاشتها وتصدُّعها الأشياء والعالم والمجهول، إلى جانب العزوف عن المعضلات التاريخية والسياسية الكبرى، والعكوف، بدلًا من ذلك، على ما تعجّ به الحياة اليومية من اختلاطات ومشاهدات وتفصيلات وعلائق خفية.

وأيًّا كان، يحقُّ لنا، في العقد الأول من الألفية الثالثة، أن نتكلّم عن ألفيّةٍ شعرية مغربية جديدة بما للزمن من استحقاقاتٍ، تأتي عبر ما تراكم في مجال النّوع الشعري والإضافات التي شهدتها القصيدة العربية المعاصرة.

س: اِحتفى بيت الشعر في المغرب مؤخّرًا بالتجربة الشعرية الجديدة، وكنت أنت واحدًا من الثلاثة المحتفى بهم. ما رأيك في هذه التجربة؟ هل حقّقت إضافات، أم لا تزال تراوح مكانها؟

  • كان احتفاء بيت الشعر بهذه التجربة رمزيًّا وذا دلالة بعيدة، فهو اعترافٌ من المؤسسة بوجود تجربة شعرية جديدة في المشهد الثقافي المغربي اليوم من جهة، وتأكيدٌ على قيمة التجربة وراهنيّتها وأهميّتها في النهوض بأوضاع الشعر ووظائفه الجديدة، لما تمثّله من حساسيّات ووعي وانفتاح على أفق مغاير في الكتابة. وكنْتُ أشرت في شهادتي التي قدّمتُها بمناسبة الاحتفاء إلى "التجربة الشعرية الجديدة" في المغرب قد فجّرت جماليّاتٍ كتابيّة جديدة، وعكست فهمًا جديدًا لآليّات تدبُّر الكيان الشعري، ممّا يمكن للمهتمّ أن يتتبّعه ويتقرّاه في دواوين شعرائها، التي شرعت في الظهور منذ أواخر التسعينيّات، ونُشرت على نفقتهم الخاصة بسبب غياب الدعم والعماء الذي ووجهوا به، أو في إطار سلسلة "الإصدار الأول" الذي أطلقته وزارة الثقافة، ثمّ بيت الشعر. من تلك الجماليّات نذكر الانهمام بالذات في صوتها الخافت والحميم، والنزوع المستمرّ، في إطار قصيدة النثر، إلى بساطة القول الشعري، الانفتاح على السرد وجماليّاته البانية، كما الاعتناء بالكتابة الشذرية وبهوامش الجسد وفضّ مسمياته المختلفة.

لكن يجب أن نعترف بأنّ نصوص التجربة في كثيرٍ من هوامشها لم تسلم من تشوُّهاتٍ في الخلقة والنموّ لا تزال تُعاني منها حتّى اليوم، طالما أنّها كانت معرضة للإهمال والنسيان والصمت بسببٍ من أنّ النقد انصرف عنها إلى شعر الروّاد بأسلوب اطمأنّ إليه من المجاملة والمحاباة، وإذا التفت إليها ظلمها ودفع في اتّجاه تأويلها تحت هذه اليافطة أو تلك، بنيّة النبذ والسخرية. لكنّ قليلًا من أفراده من عبر إيقاع التحوّلات وفكّر في ذاتيّته خارج الخطاطات المعروضة، فخرج ظافرًا بقصيدته، وأكثريّتهم حاصرت نفسها في ضرب من التنميط عديم الموهبة والجهد الفني، فتشابهت تشابه الرمل.

س: بمناسبة اليوم العالمي للكتاب، كيف تقيم المشهد الثقافي المغربي؟ وهل لجهة سوس ماسة درعة خصوصية معينة في هذا المشهد؟

  • لا حاجة لنا للتذكير بيوم خطير مثل هذا اليوم في حياة الشعوب واستمرارها. وبالنسبة لنا، يؤسفنا أن نقول إنّ المغرب لا يزال حتى اليوم متخلّفًا عن الدخول إلى عصر الكتاب، حيث يصير للكتاب معنى الواجب والضرورة في المدرسة، والمقهى، والباص، وشاطئ البحر وسواه من أمكنة الحياة والعمل. فالمجتمع المغربي، كما تدلّ على ذلك الإحصائيات، ليس مجتمعًا قارئًا، لأنه ليست لدى أفراده تربية على عادة القراءة ومحبّتها، حتى بالنسبة لمن يفترض فيهم ذلك. هناك بلا شكّ، مشكلات حقيقية مرتبطة بجذور وعلاقات بنيوية، وتتطلّب أفقًا حقيقيًّا في التحليل والمعالجة؛ ومن الطبيعي أن يتأثّر المشهد الثقافي العام بهذا تأثُّرًا سلبيًّا. لكن مثقّفي المغرب، برغم كلّ شيء، قد بذلوا من أجسادهم وزيت أرواحهم مجهودًا عظيمًا في النهوض بثقافة بلدهم، والتعريف بقيمة منجزها وميراثها المادي والرمزي في بلدان عربية وأجنبية، حتى استحقّوا الاحترام والثناء.

وعلى مؤسسات الدولة وهيئات المجتمع المدني الثقافية والتربوية والإعلامية أن تعي مسؤولياتها وتتبنّى المشاريع الثقافية خارج الفلكلرة والأجندة الموسمية. وفيما يخصّ المشهد الثقافي بالجنوب المغربي، يمكن أن نعتبر الهوامش أكثر حراكًا وحيوية من الحواضر، حيث تشعّ من خلف الكراسي المتقادمة والمداشر والفجاج أمكنة للثقافة بمختلف تجلياتها وتعبيراتها اللغوية والجمالية. ولا زلت أقول إنّ الجنوب قارّة لو بُعِثت من رقادها لتغيّر وجه المغرب الثقافي والجيو-سياسي.

س: هل أنت من الذين يزاوجون بين الكتابة الورقية والكتابة الالكترونية؟ وكيف تدبّر المسافة بينهما؟

  • نعم، أنا بين هذه وتلك، في مسافة تتكلّم صيرورة - ذاتي. إن النصّ الذي يولد أمامي إلكترونيًّا ليس كالذي يُكتب ورقيًّا، سواء في مضمونه أو بنائه أو شكله. الإلكتروني عندي متعجّل وفضفاض وموسوم بالهشاشة وقابليّة الاندثار، فيما الورقي متماسك ومتّزن ومكتوب برويّة ومشطوب عليه مرّات. لهذا السبب، دائمًا ما هرعتُ إلى الورق لمّا يرد عليّ أوّل بيت في القصيدة، حتى أحميه وأوجد له فضاء تعبيريّته الخاص، لاسيّما في حالة القصيدة المركّبة التي تتطلّب جهدًا إيقاعيًّا ومعماريًّا.

وإذا كان الأمر يتعلّق بالشذرات أو نصوص الومضة، فإنّي غالبًا ما التزمْتُ الإلكترون وتعيّشتُ من عماء الشاشة وجهًا لوجه. وقد حدث أن كتبت النصّ الواحد على شاشتي الكومبيوتر والورق معًا، ولطالما كان لهذا النصّ طعم خاصّ. ومن المهمّ أن نحدّد اليوم الكتابة بالمادّة التي تكتب عليها والحامل الذي يحملها، حتى ندرك المفهوم الذي صار لها في العصر الرقمي، بقدر ما يجعلنا نفكّر كيف أنها تغيّرت تبعًا لموادّها وحواملها الجديدة، وباتت تجسّد تقاليد وخصائص وأساليب مختلفة بين زمن الكتابة الإنتاج وزمن التلقّي والتفاعل مع النصوص.

كلمة أخيرة:

 كان كارل ساغان يقول: لمجرّد أن تنظر في كتاب، سوف تسمع صوتًا لشخص آخر، ربّما مات منذ ألف سنة. أن تقرأ يعني أن تُبْحر في الزّمن. 

*جريدة العرب الدولية، 06 ماي/ أيار 2010.  

 

(5)

الشعر هو الأرض الموعودة وليست قصيدة النثر!

حاوره: عبد الهادي روضي

س: هل لازال ندى الدفلى يسكرك فترقص وارثًا صمت الجهات؟

  • لقد ذكّرتَني بشذرةٍ من قصيدة كتبتُها، أوحاها إليّ خاطِرٌ من زمنٍ عصيٍّ في تجربتي داخل الكتابة. نعم، لا يزال هذا النّدى. يَعودني في أوّل الليل، وإذا تأخّر إلى الصباح نهضتُ مع حجيجٍ عابرين إلى الشّعر، حيث لا أحدٌ هناك إلّا آخري. أمّا الدّفْلى فإنّها ما فتئت تتلوّن بأصداء التراب، وتتراقص والريح على الأجناب، وليست من حيث هي كذلك. مشروع، لا وجود ولا عدم.

س: يقول أحد الشعراء المغاربة الثمانيين: (إن الكتابات التي توالتْ بعد الثمانينيات تفتقد لكثيرٍ من الخيال). إلى أي حد يمكن اعتبار هذا الحكم منسجمًا مع تجربة الكتابة الجديدة الذي أنت أحد أسمائها؟. ثم ألا تعتبر مثل هذه الأحكام قاصر في رؤيته إذا ما أدركنا نصوصًا غير مفكر فيها تكتبها أسماء شعرية تحتمي بالهامش؟

  • مثل هذا الحكم هو حُكم قيمة، بلا شكّ. حكم متعسّف وظالم، يكشف أحد الوجوه السلبية في ثقافتنا التي يسودها عزف الكورال المنفرد، وتنتشر فيها آليات الإقصاء والنبذ المانعة لكلّ أصيل وجديد نشاز. هناك دائمًا رغبة في أن تبقى السُّلط المنتفعة على ميدانها، وتُبْقي على انسجامها الخاص مع ماضيها وخطابها. في أكثر من مناسبة، أكّدتُ أنّ التجربة الشعرية الجديدة في المغرب فجّرت جماليّات كتابية جديدة، وعكست فهمًا جديدًا لآليّات تدبُّر الكيان الشعري، ممّا يمكن للمهتم أن يتتبّعه ويتأمله في دواوين شعرائها، التي شرعت في الظهور منذ أواخر التسعينيّات، ونُشرت على نفقتهم الخاصة بسبب غياب الدعم والعماء الذي وُوجهوا به، أو في إطار سلسلة "الإصدار الأول" الذي أطلقته، على علّاته، وزارة الثقافة فيما بعد. وداخل سنوات التجربة هاته، نكتشف أنّ العلاقة التي كانت تحكم سابقًا المركز (الممثّل بالمحور: الدارالبيضاء ـ الرباط ـ فاس) بالهامش (الممثّل بأطراف كثيرة في الشمال والوسط والجنوب)، قد تلاشت فعلًا، بل صار الهامش مركزًا، وغدت حساسيّات الفعل الشعري تقدم إلينا من مدنٍ مثل وجدة وتطوان ومراكش وطاطا وآسفي وسواها. صرنا اليوم نتعرّف على شعراء مهمّين أنضجوا تجاربهم في الهامش وخارج بهرجة الأضواء التي يُناور بها الإعلام الحزبي والرسمي من حين إلى آخر.

س: هذا الحراك شعري الذي تشهده الهوامش مقابل تراجع المراكز التقليدية ممثلة في المؤسسات الثقافية الرسمية. ألا يمكن أن يمس هذا الحراك بالبعدين الفكري والجمالي للقصيدة الجديدة في المغرب؟

  • أجل، أن تقدم النصوص والتجارب من جغرافيّات بكر وجديدة، مشروطة بمتخيّلات ترفد حياتها وأشكال تعبيرها من الجبل والصحراء والبادية، لهو أمْرٌ من البلاغة بمكان أن يُنتبه إليه ويدرس. نعثر على هذا الشرط الجغرافي، بوضوح، في الشعر الغنائي بالأمازيغية والحسانية، واليوم صرنا نجد شيئًا من هذا في الشعر المكتوب بالفصحى، الآتي إلينا من هذه الهوامش والشّعاب المنذورة للعراء. الوعي بالمكان ضروريّ في بناء الشعر والشعرية، وكلّ إمكانات التجديد تتمّ من هنا وعبره. ولسنا في حاجة إلى التأكيد على أنّ مثل هذا الوعي يجعل أنساغ القصيدة تتأثّر بأبعاد المكان فكريًّا وجماليًّا، بشكل يؤثر، إلى حدٍّ ما، في المسألة الشعرية برمّتها. في هذا السياق، يجب أن نستحضر القولة المأثورة المضيئة عبر التاريخ، وفي زمن مُعولم وتجميعي كهذا، أنّ الشاعر ابن بيئته. لا أقلّ ولا أكثر.

س: بلا شكّ، تلاحظ مدى تنامي وتيرة الإصدارات الشعرية في المغرب. كيف تقرأ هذه الوتيرة؟ وإلى أي حد يمكنها أن تكون عامل إخصاب للقصيدة المغربية في سيرورتها؟

بلا شكّ، توالي الإصدارات الشعرية بهذه الوتيرة لافت للنظر، لكن السؤال عن قيمة الأعمال، وعن طبيعة إضافاتها، وعن الاتجاهات والحساسيات الشعرية التي تنتمي إليها، يظلّ مؤجلًّا إلى حين تداولها ومقاربتها، وذلك في غياب توزيعها وغياب تقاليد تقديم الأعمال الجديدة في الأماسي من لدن المؤسسات الثقافية ودور النشر والنقّاد. لكن ما أعرف أنّ أغلب دواوين الشعر أصدرها أصحابها على نفقاتهم الخاصّة التي يدفعونها لدور النشر، والأخيرة ما يهمّها هو الدّفع أكثر ما يهمّ إن كان هذا شعر أم لا، فمن النادر أن تجد داخل هذه الدور لجانًا لقراءة الشعر أو ما شابه ذلك. هذا أمرٌ حاصل للأسف، ويكاد يشكّل خطرًا على الشعر وقيمه الجمالية والإنسانية، إذ يبلبل أوضاع المشهد الشعري، ويميّع ما هو شعري، ويقدّمه في شكل لايليق به إلى جمهور القرّاء. هل نعود من جديد إلى قول ما قاله العقّاد: كلّما كثر الشعراء قلّ الشعر؟

لكن ما يجب أن نعترف به هو أنّ المغامرة الشعرية التي نحيا غمارها مهمّة ولافتة للنظر، وتمثّل عامل إخصاب للقصيدة المغربية في سيرورة تحديثها، وأن نعترف بأنّ حجيجًا من أفرادها قد عبر إيقاع التحوّلات وفكّر في ذاتيّته خارج الخطاطات المعروضة، إلّا أنَّها لم تسلم في بعضٍ من نصوصها من تشوُّهاتٍ في الخلقة والنموّ من جهة، وفي بعضها الآخر من التنميط عديم الموهبة والجهد الفني، فتشابهت تشابه الرمل من جهة ثانية، وذلك بسبب من أنّها كانت معرضة للإهمال والنسيان والصمت، وبسببٍ من أنّ النقد انصرف عنها إلى شعر الروّاد بأسلوب اطمأنّ إليه من المجاملة والمحاباة، وإذا التفت إليها ظلمها وصنّفها تحت هذه اليافطة أو تلك بنيّة النبذ.

س: هل القصيدة مازالت مطلوبة بالتعبير عن الجماعة والانخراط في تناقضاتها؟
  دائمًا ما كانت القصيدة كخطابٍ شعريٍّ مخصوص، بالرغم من سمت الفردانية المتّشح به، في قلب الجماعة الإنسانية، مًعبّرة عن الجمعيّ وتناقضاته، وإلّا لما فهمنا لماذا يخشى السياسيُّون الشعر، ولا هذه العلاقة الحادّة التي كانت تتوتّر بين طرفي الشعر والسلطة بأنواعها. لكنّنا نلمس اليوم تغيُّرًا في معنى هذه العلاقة وترتيباتها، بعد أن انتقل توصيل الشعر وتلقّيه من الفضاء العمومي إلى الأمكنة المغلقة من مثل المقاهي الثقافيّة والنّوادي اللّيلية والمجالس الخاصّة والحميمة، متساوِقًا مع انحسار دور المجلات الأدبية الفاعلة، ومنابر النشر الحرة، وضمور محفّزات الجدل والمعارك الأدبية، فيما دخلت التّقنية على الخطّ بوسائط مغايرة. وطُرِح السّؤال ثانية: هل نشهد تراجعًا في دور الشعر، ومن ثمّ الشعراء؟ هل يعني الأمر انسحابهم من المتن الى الهامش، واستقالتهم من اختلاطات الحياة اليوميّة؟ وتساوق الأمر أيضًا مع أوهام الحداثة، ولاسيّما فيما يتعلّق بتصوّر الشّعر ووظيفته، حتّى بدا الادّعاء بأنّ الشّعر "كائن لا اجتماعي" مغريًا للكثير، حتّى بالنسبة للشعراء المنشغلين بـ"الموضات" الرّائجة. لا يمكن لنا، والحالة هذه، أن ننكر اجتماعيّة القصيدة حتى ولو امتلكت قدرًا ما من الاستقلالية والتفرّد، لأن كتابتها لا تتحقق إلاّ بعملية إدماج بين الشّخصي واللّا شخصي، بين الفردي والجمعي، وأنّ العلاقة بين رؤية الشاعر والوسط الاجتماعي ليست علاقة انعكاسٍ آليّ، كما يزعم كثيرون.

في الواقع، يمثّل الشعر، والفنون عمومًا، ذلك المرصد والمختبر الذي يُظْهر أكثر من أيّ ممارسة اجتماعيّة بأنّه داخله يتحقّق الذّاتي بقدرما يتحقّق الجمعيّ. بهذا المعنى، لا يمكن لنا أن نخوض في حداثة القصيدة، أنّى كانت، بمنأى عن الأخلاقيات والتاريخ، وذلك حتّى في استغراق اهتمامها بالذّاتي. إنّ كتابة القصيدة حتّى في الهامش تظهر سياسيّة أكثر من المتن، وفي نصّ العصيان أكثر من الـمُجْمع عليه.

س: قلت في ما مضى: إن الشعر صيرورة مفتوحة على المستقبل. ماهي ملامح هذه الصيرورة؟ وما هي هواجسها الشعرية والإنسانية؟

  • في هذه الأوقات العصيبة من ثقافتنا يتأكّد الدّور الطبيعي والطليعي للكتابة، الكتابة بما هي الحركة المستمرّة، الحيويّة أكثر التي تحملنا على التّفكير والحلـــــــــــم، وعلى الانتباه لجوهرنا وعمقنا الإنساني، والاهتمام بما حولنا من اختلاطات الحياة العابرة. لهذا، فكلّ كتابةٍ حقيقيّة وضروريّة هي تلك الّتي تتوجّه إلى المستقبل، خارج الأوهام الّتي تروّج لها "الموضات" وتُغري بها مرضى الاستسهال والتّسطيح. نعم، الشعر صيرورة مفتوحة على المستقبل، وهي ما تفتأ تغتذي على اللّانهائي في الإنسان والكون، وإلّا لما صمد كلّ هذا الوقت شعر طرفة والمتنبي والمعري وابن زيدون وجلال الدين الرومي وهوميروس ونوفاليس وشكسبير وسواهم.

س: هل قصيدة النثر هي الأرض الموعودة للشعراء على تعدّد حساسياتهم الجمالية؟

  • الشعر هو أرضهم الموعودة، وليست قصيدة النثر. لا يمكن أن يحلّ إمكان قصيدة النثر محلّ الشعر نفسه. أرض الشعر ليست أرضًا خلاءً، والأيادي التي احترثها كثيرة ونداءاتها متجاوبة منذ القديم. كلّ أشكال الشعر العربي لها الحقّ أن توجد على هذه الأرض، طالما أنّها تتدفّق في خير اللغة العربية وجمالها. لقد حلّ النقاش حول قصيدة النثر وتسميتها وشرعيّتها، وأكثره غير ذي شأن، محلّ الشعر نفسه؛ وأكثر ما نخشاه أن تتحوّل قصيدة النثر، وهي حقٌّ لا نريد به باطلًا، إلى مشجب يعلّق عليه الأدعياء وعديمو الموهبة ملابسهم الحقيقية، ويتخفّون بدلًا عنها وراء ثياب الإمبراطور.

س: بماذا تتحقق الشعرية انطلاقًا من تصوراتك النظرية والجمالية؟

  • الشعريّة نسبيّة ومتحوّلة. في كلّ الثقافات العريقة بما في ذلك الثقافة العربية لا نعثر على مفهوم وحيد ومحدّد للشعر والشاعر، وهو ما يجعل استحالة تعريف الشعر أمرًا مزمنًا ليس فقط بين هذه الثقافات، بل حتّى في الثقافة نفسها. وإذا عُدْنا إلى الشعرية العربية وجدنا أن مصادر الفعل الشعري كانت، دائمًا، محطّ سجالٍ بين الشعر والنقاد، وإن كانت المؤسسة تحاول أن تُخفي ذلك، وتُظهر إلى السطح ما ترغب فيه وتُقوّيه.  

  بالنسبة إلي، أعتقد أنّ الشعرية تتحقّق من كيمياء اللغة التي تُكتب بها، وعبر إيقاعها المحايث لأشكال تعبيرها المتنوّعة، من ذات إلى ذات، ومن نمط إلى آخر. هذا يتطلّب من الشاعر، إلى جانب موهبته، المعرفة بالشعر وتذوّقه والإصغاء إلى زمنه.

لا أثق في شاعرٍ يجهل بتراث أمّته الشعري العظيم، ولا يمتح إلّا نزرًا ضئيلًا من معجمها الغنيّ ومن خزين ثقافتها الثرّ، ولا يُحاوِر الآخر ينفتح عليه من منطلق ذلك. بعض الشعراء أُتيح لهم مثل هذا الاعتبار فقرّت أشعارهم في وجدان الناس وأحبُّوها، وبعضها الآخر تقرأ ما يكتبونه وكأنّه شعر مترجم لا روح فيه.

س: تخلص نصوصك الشعرية للرؤيا وللغة الشعريتين. ماهي المصادر التي تستقي منها تلك الرؤيا واللغة؟

  • الرؤيا، اللّغة، ثمّ الإيقاع. أنا أعتقد أنّ هذا الأقانيم الثلاثة بمثابة الضرورة بالنسبة إلى كتابتي الشعرية، فهي تحضر في كلّ نص من نصوص بدرجات مختلفة ومتقاطعة، وتتبادل الأدوار بمقتضى الخطاب وأجروميّة الذات. المصادر التي أستقي منها هذه الأقانيم متنوّعة، ولعلّ أهمّها المصدر التراثي الذي يُتيحه لي اطّلاعي الدائم على مدوّنة الشعر القديم، والمصدر الحداثي الذي استفدتُه من قراءاتي لتجارب الشعر الحديث العربي، وغير العربي مترجمًا أو في لغته الأصلية، ثمّ المصدر الذّاتي الذي تأتّى لي من معاناتي في أثناء سيرتي وتجربتي في الحياة وطبيعة علاقتي بمحيطي الشخصي والاجتماعي.

س: كيف تؤاخي بين ممارسة القصيدة والتنظير لها؟ وأيهما الأولى لديك؟

-أنا مُمارسٌ للشعر، وهو الأوّل والأَوْلى؛ لكن لا أدّعي أنّي مُنظِّر للشعر. التنظير للشعر يتطلّب خبرة كبيرة به وعملًا يتّجه بالنقد نحو إبستيمولوجيا الكتابة التي ترتبط، في تصوُّري، ببناء المفاهيم التي تكون نتاج تفاعل بين الممارسة ونظريّتها. لا زلت أعتبر نفسي دون ذلك، إلّا أنّ عملي على نقد الشعرية العربية وتأويل النصوص والتجارب الشعرية الجديدة مُهمّ في هذا الاتّجاه. من المعنى إلى الإيقاع.

  يبدو لي اليوم أنّ أوَّل مسألة يمكن أن تُثار وتشكّل موضوع نقاش هو التساؤل عن وضعية كلّ خطاب حول الشعرية، وخاصة حول اللغة الشعرية، والبحث في الكتابة كفعاليّة لمعرفة نوعيّة تتم داخل العلاقة الضرورية مع الممارسة. ولهذا الاعتبار، أهمّ نقاد الشعر ومنظّريه هم الشعراء أنفسهم، الذي يعرفون أنّ الكتابة تذهب نحو ما لا تعرفه، نحو ما ليس لها، أي نحو مُمْكنها الذي تتنصّت عليه النظريّة.

س: فزت في السنوات الأخيرة بعدة جوائز عربية مهمة. ماذا قدمت لك تلك الجوائز؟ وهل الجائزة حافز للكاتب بالضرورة؟

-إنّ أيّة جائزة رفيعة وجادّة مثل جائزة الشارقة للإبداع العربي، وجائزة ديوان الشعرية التي تمنحها مؤسسة شرق ـ غرب البرلينية، لا يمكن للظافر بها إلّا أن يسعد، ويُدرك أنّ زيت عزلته يضيء في أمكنة أخرى من العالم. لقد تأثّرت بشهادات المُحكّمين في الجائزتين، من مثل علي جعفر العلاق وعلوي الهاشمي وعبد الرضا علي وشوقي بزيع، ومنحتني ثقة أكبر بتجربتي في الكتابة كأيّ شابّ في بدايات مشروع حياته الكتابي. مثل هذه الجوائز تمثّل حافزًا للكتّاب على الإبداع والاستمرارية بلا شكّ، وذلك في غياب دعم المؤسسات الثقافية لمشاريعهم، وتردّي وضعهم الاعتباري، وتقهقر صورتهم الرمزية في المجتمعات العربية.

س: ماهي الطقوس التي تستدعيها لكتابة قصيدة أو نص ما؟

-لا طقوس بالمرّة. مَثَلي مثل الذي يحتمي بظلال ذاكرته وماء مخيّلته لا يحتاج إلى طقوس. عليك أن تتوقع مجيء السطر الأول للقصيدة في أيّة لحظة، ومن ثمّة أن ترعاه وتحميه من الاستسهال بجهدك، وترغب فيه بشهوتك، فإنّ الشهوة نِعْـم المعين. ولا لديّ أوهام للكتابة أيضًا. ما أحرص عليه هو واجب الإصغاء الذي يحفزني على تدبير عزلتي الكثيرة في غضون ذلك.

س: باختصار بماذا توحي لك الأسماء والعناوين التالية؟

عبد اللطيف الوراري:

هذا الذي يأخذ مكاني كلّ يوم، وينطق باُسمي، مع أنّي ما أفتأ ابتعد عنه في كلّ ولادةٍ جديدة، لأكون آخري.

الجديدة:
تلك الحكاية التي يرعى عزلتها البسطاء، بعد غروب كلِّ شمس. ولا أعرف إلى أين يتوجّهون بعد شروقها.

 ترياق:
هو عنوان ديوانٍ لي اكتشفْتُ به عبورًا مختلفًا وأطرافًا من شهوة شعري، بعد الذي وجدتُه من سحاب كاذب، ومن نايٍ لم يرشدني إلّا إلى نفسي.

 ناس الغيوان:

أعيد هذه الأيّام سماعهم، إنّهم سحرة وأجلّاء. من أصواتهم الجريحة والمسكونة بحجيج الحبّ والأمل يقدم صوتي البعيد. إنّه لأمر بالغ الأثر أن يظلّوا ناصعين في ذاكرة الشعب ووجدانه، برغم كلّ شيء.

 عبد الله راجع:

هو شاعر، ومن حملة لوائنا إلى المستقبل.

 إدريس الملياني:

هذا الشاعر المغربي.

 القصيدة:

هي نداء الحياة باستمرار.

 المرأة:
لا معنى لها خارج الحبّ، وخارج العطاء.

 الطفولة:
مَنْ مِنّا يسْتَعيد تلك الكلمات،

ولا يَحِنُّ إلى ما أوْحَتْ لنا به

أيّام الفجر؟

ذلك ضَوْءٌ

نقرؤُه في باطنِ اليد

ولا نُصافحه،

من ساعة امتهان الحياة.

*جريدة (الزمان)، 24 مارس/ آذار2012. و(القدس العربي)، 15 ماي/ أيار 2012.

(6)

"نقد الإيقاع" كان نقدًا مزدوجًا للنظرية وللكليشيهات التي تتمّ باسم الإيقاع 

حاوره: محمد نجيم

س: بمناسبة صدور كتابكم الجديد “نقد الإيقاع، نريد أن نسألكم ما هو الجديد الذي أتى به في مجال الدراسات العروضية والإيقاعية؟

هذا الكتاب هو استمرارٌ للجهد الخلاّق الذي بذله علماء العروض المحدثون من العرب والمستشرقين خلال القرن العشرين، في دراساتهم متفاوتة القيمة للعروض وإيقاع الشعر العربي؛ فنحن لا ننكر الاهتمام المتّصل في ثقافتنا العربية، منذ فجرها إلى اليوم، بعنصر الموسيقى في الشعر، إلا أنّه على الرّغم من وفرة الدراسات والبحوث حول الشعر العربي، فإنّ سؤال الإيقاع، كموضوعٍ واقعيٍّ، لا يزال مكبوتًا وغير مفكّر فيه داخل خطاب الشعر ونظريّته، بدلًا من الزجّ به في العروض وقياساته. إنّ الإيقاع، كمفهومٍ ودالٍّ نصّيٍّ، يبدو لنا اليوم إشكاليًّا أكثر من أيّ وقْتٍ مضى.

  من هنا، رأينا أنّ إعادة بناء الموضوع المتعلّق بسؤال الإيقاع تدخل، بالضرورة، في سياق إعادة قراءة نظريّة الشعر العربي بمرجعيّاتها المتنوّعة وهوامشها المختلفة، النقدية والبلاغية والفلسفيّة؛ وذلك بعد نقده في إطار علم العروض العربي من مكانِ يجعل بحثنا متجاوبًا مع هاجس بعض الدراسات الجديدة التي تمّت في الموضوع نفسه، بقدر ما ينفتح على أوفاق الأنواع الأدبية وتحليل الخطاب ونقد الإيقاع، ويعمل على إدماجها في سيرورة القراءة والتأويل. وهكذا ينزع البحث بإشكاليّته، إذن، إلى تأمَّل مفهوم الإيقاع في الدراسات ذات الصلة، وآليّات تلقّيه من طرف عروضيّين، وعلماءَ بالشِّعر، وبلاغيّين، وموسيقيّين، وتجويديّين، وفلاسفة؛ بمقدار ما ينزع إلى تأمُّل إمكانات عمله في الشعر العربي بتعبيرات متخيَّله المختلفة( الرجز، القصيدة، الموشّح والزجل). ولقد كان من جُمْلةً من الأسئلة التي أرّقتنا وضوّأت مسارات إشكاليّة البحث، مثل: كيف دبّر علم العروض علاقته بأشكال الشعر العربي؟ وما هي القيمة التي أضافها الخطاب البلاغي والنقدي العربي في وصفه لعروض الشعري العربي، وتثميره إيّاه، ضمن تحليله لجماليّاته وعناصر بنائه النصِّي؟ وهل استطاعت تحليلات علماء الشعر البلاغة والموسيقى أن تنقل علم العروض من “مجرّد معرفة صحيح أوزان الشعر من انكسارها” إلى نوع من المعرفة العلمية” التي لا تُسعفنا في ضبط البنية الوزنية فحسب، بل في التمييز بين الوزن والإيقاع؟ وبالتالي، هل يجوز لنا أن نتحدّث عن نظريّة للإيقاع” في كتب الشعر والشعريّة العربية بمرجعيّاتها المتنوّعة؟

س: هل وقفت على وعي مبكّر وحقيقيّ لدى علمائنا القدماء بخصوص مفهوم الإيقاع؟

  • يمكن لنا القول إنّنا وجدنا لدى علمائنا القدامى وَعْيًا مُبكّرًا بأهمية المصطلح وقيمته في بناء العلم، فوضعوا تآليف كثيرة بهذا الشأن تحتفي بالحدّ والتعريف، مثلما وجدنا بينهم تَمايُزًا في مدلول المصطلح من حيث مرجعيّته وآليّة اشتغاله، إلا أنَّه ـ مع وفرة المصطلحات في علم العروض ـ لم يرد (الإيقاع) عند العروضيّين بشكل يثير التساؤل والحيرة: هل يُعْقل أنّ عِلْمًا جعل المشكلة الإيقاعية داخل الشعر في صلب اهتمامه لا يصطلح بالتسمية على دالّ الإيقاع؟ لهذا، ربطنا المسألة بالفكر الجمالي لدى هؤلاء العلماء وغيرهم في حقولٍ لها صلة مباشرة بالإيقاع اللفظي في الشعر، وهو الفكر الذي غلب عليه الطابع الحسّي في رؤيته للعالم، وفي تذوُّقهم للجمال وانفعاله بصوره انفعالًا حسّيًا. ومن ثمّة كان هذا الفكر يشتقُّ مصطلحاته من البيئة التي يحيا فيها، ومن الاستعارات التي كان يحيا بها، دون أن يرتقي إلى خبرة المفهوم وتعقُّده. ولأنَّ دالّ (الإيقاع) بقي في الكمون، ولم يُطْرح في سياق النقاش النقدي الذي طال بلاغة الشعر العربي لدى القدماء، فقد تعرّض أكثر من غيره لغموضٍ شديدٍ والتباسٍ بمفهوم (الوزن) الذي طالما أخذ مكانه وعبّرَ بالنيابة عنه. لقد ساد الاعتقاد فترةً طويلةً بأنّ الإيقاع ليس إلّا حصيلة للوزن والقافية، فانْحَصرَ الهمُّ النقدي بدراسة الأوزان والقوافي في القصيدة العربية لاستخلاص موسيقى الشعر وإيقاعاته، مّا جعل هذا النمط النقدي في إحراجٍ كبيرٍ نتيجة التطوُّر الذي تمَّ في بنية القصيدة.

س: لكن الإيقاع كمصطلح نجده، ابتداءً من القرن الرابع للهجرة، يرد عند القدماء بمن فيهم ابن طباطبا العلوي مثلًا؟

  • نعم، ورد المصطلح عند ابن طباطبا العلوي في (عيار الشعر)؛ والمثير في الأمر أنَّه لم يجعل من (الإيقاع) مصطلحًا مُطابِقًا للوزن، بل جامعًا لعناصر القصيدة، وذلك عندما كان يتحدّث عن أنّ “للشعر الموزون إيقاعًا يطرب الفهم لصوابه وما يرد عليه من حسن تركيبه واعتدال أجزائه”. غير أنّ لفظ الإيقاع هو، في الأصل، من مصطلحات علم الموسيقى، يتردّد كثيرًا ـ كما أثبتنا ذلك في الكتاب، في كتب الفلاسفة والموسيقيّين من علماء المسلمين، وندر أن نجده في كتب غيرهم من علماء العروض واللغة والشعر والبلاغة الّذين شقَّ عليهم أن يتمثّلوا الإيقاع بقوانينه في اللغة من حيث هي أصوات، وفي الدلالات التي لهذه الأصوات، ويجدوه في ألفاظها وجُروسها وصورها ما يعنيه لديهم إيقاعًا. لذلك، بدا من السهل تحديد الإيقاع ودراسته في الموسيقى وكشف القوانين التي ينغلق عليها، بقدر ما أن الموسيقى فنٌّ زمانيٌّ؛ وفي المقابل، بدا من الصعوبة بمكان تعيين الإيقاع اللفظي وتسميته باسمه في الشعر بوصفه فنًّا قَوْليًّا، لكنَّ القوانين التي استكشفوها وعملوا على إبرازها من خلال دراستهم للشكل فقد تمثّلتْ الإيقاع في تعبيراتٍ جماليّة، من دون أن تُسمّيه. وإذا حصل أن وجدناهم يستعملون مصطلح (الإيقاع)، فيكون للتعبير عن موسيقى الشعر، وإذّاك يكون مصطلحًا منقولًا من علم الموسيقى إلى علم العروض.

س: لكنّنا لا نشكّ، قيد أنملة، في الشعر والموسيقى يلتقيان في خاصية الإيقاع ومادّته التي هي الصوت وامتداده في الزمن؟

-صحيح، أنَّ (الإيقاع) في الموسيقى يكون “غاية في ذاته” ويحمل طابعًا غفلًا بالمعنى؛ بينما يرتبط الصوت في بنية اللغة بعلاقاتٍ ذات أبعاد متنوّعة، وهو ما يفرض على الوزن الشعري أن يكون منتظمًا بكيفيّة مخصوصة ويجعله نظامًا إشاريًّا معقّدًا ينطوي على عالمٍ من الدلالات والصور المحسوسة. الإيقاع في الشعر هو أكثر خفاءً، ولا مرئيّ؛ ولهذا، نفهم لماذا حصل الالتباس عندهم بين الإيقاع والعروض، ولم يستسيغوا وجود الإيقاع إلاّ في الموسيقى، ولم يلحظوه في الشعر إلاّ من خلال الوزن، ولا يتعدّى إلى غير الوزن. مع ذلك، فقد فطن القدماء، بِنسبٍ متفاوتة القيمة، إلى مبدأ الإيقاع ممّا لمسوه في الشعر من عناصر الانتظام والتساوي والتوازي والتكرار والتغيُّر، وهي القوانين نفسها التي تنتظم القصيدة وتتمثّل فيها؛ فدائمًا ما كانت بنية الإيقاع، بمعنى أو بآخر، تُشكِّل أوّل المظاهر المادّية المحسوسة للنسيج الشعري الصوتي وتعالقاته الدلالية.

س: في ضوء هذه الأفكار المتنوّعة التي لملمتها وناقشتها داخل بحثك، هل يجوز أن نتحدّث عمّا يمكن أن نسميه “نظرية” في إيقاع الشعر خاصّة، والإيقاع العربي برمّته؟

  • حقيقةً لا يسع الباحث وهو يتنزّه في بستان تراثنا الأدبي والثقافي إلاّ أن يُحيِّي الجهود المدهشة التي بذلها علماؤنا القدامى في مستوياتٍ ورؤىً مختلفة، من أجل بلورة مفهومٍ خفيٍّ وزئبقيٍّ مثل مفهوم الإيقاع الذي دلّوا عليه بعبارات متنوّعة ومتباينة بحسب الأوضاع المحلّلة وأوضاع التلقّي وآليّاتهِ (العروضية، البلاغية والموسيقية ـ الفلسفية). لكنّ تلك الجهود، مع الأسف، ظلّت متفرِّقة ولم يحصل بين أصحابها حوارٌ نظريّ شامل يتجاوز الصعوبات المنهجية والمعرفية القائمة والمفترضة، فلم تظهر أيّة نظريّة حاولت أن تُقدّم إطارًا مُوحّدًا لدراسة الإيقاع، وتبدأ ممّا توقّفت عنده نظريّة الخليل وتفوّقت فيه داخل إطار علم العروض. وهكذا، فقد كانت “نظريّة” الإيقاع الوحيدة والمتاحة هي “النظرية القَدَميّة” التي كانت تُقدّم الوزن، وتُقارِبه “زمانيًّا” بوصفه هو الأساس، وليس الإيقاع. وهكذا ظلّت أنساق النّظْم مُجرَّد معايير مُتّفق عليها تُنظِّم الوحدات غير الدالّة: التفاعيل، وعدد المقاطع. ومثل هذه الخُطاطة لا تُؤثِّر في ماهية الصوت، ولا المعنى، بحيث إنّ الوزن الشعري نفسه يبدو في جوهره مُستقلًّا عن المعنى.

 لقد أقام الخليل بن أحمد الفراهيدي نظامه على أساس المتحرك والساكن، وقام باستقراء ناقص للشعر العربي أسّس في ضوئه قواعد العروض العربي المعياري التي شكّلت “نظرية” في إيقاع الشِّعر العربي، ثُمّ تحوّلت إلى “معتقد” جامد، بعد أن باتت فرضيّاتها مُقرّراتٍ ذهنيّة ضاغطة وسابقة عن الواقع الشعري وتجديداته. باتتِ “النظريّة” مجرّد نظريّة للبيت، وتُطْرح صراحةً كـ”نظريّة مجرَّدة للإيقاع”، أي نظرية الإيقاع المجرَّد. وهكذا لم تستطع أن تُطوِّر نفسها، فتخلّفت عن تتبُّع حركة التطوُّر الإيقاعي ووصف كشوفاته التي تمّتْ في أكثر من عصر، في المشرق والمغرب. لقد كان التصوُّر العروضي “المُجرَّد” لإيقاع الشعر العربي هو السائد، وهو ما ساهم في الحيلولة دون تبلور التصوّرات الأخرى الممكنة. وكان بعضٌ من هذه التصوّرات يتفتّقُ ويعِدُ بنتائج مذهلة، لكنّها انتهت إلى عصرٍ بدا غير مُهيّئ لاستقبال الأعمال الواعدة واستثمارها، بعد أن تفشّتْ في فضاء الثقافة العربية العالمة آليّات النقل والاجترار والتلخيص.

س: يكتشف المتتبّع للكتاب أنّك لم تتطرّق لكلِّ أشكال الشعر العربي المعروفة إلى اليوم، هل يفهم من هذا أنّ مشروع بحثك لا يزال مستمرًّا؟

-بالفعل، لم أتناول في بحثي الذي أعدّ الكتاب الصادر جزأه الأوّل، إلا أشكال الشعر العربي القديم، وهي الرجز والقصيدة والموشّح والزجل، وذلك بموازاة مع ما كان يظهره القدامى بإزاء كلّ شكل من هذه الأشكال من اهتمام متفاوت القيمة والوظيفة ببنيتها الصوتية ـ الإيقاعية، بشكل سمح لنا بكشف تعبيراتهم الجمالية نحوها وضبط آليّات تلقّيهم لها، وبالتالي وعيهم بـ(الإيقاع). وسوف نواصل، بإذن الله، البحث في شكلين شعريّين آخرين ظهرا في بحر القرن العشرين، هما الشعر الحرّ وقصيدة النثر، وذلك بموازاة مع بحثنا في أطر البحث العروضي واللساني الحديث وقضاياه المعرفية. لأنّ البحث هنا يقع في الذهاب ـ الإياب بين النظرية والممارسة، وهو بقدر ما يكون نقدًا للنظرية وأطرها يكون نقدًا للكليشيهات التي تتمّ باسم الإيقاع. لنقل، إذن، إنّ المشروع لا يزال قائمًا، وهو كلُّ غايتي وكدي في دروب البحث ومغامرته.

س: وصلتنا أصداءٌ طيبة عن الكتاب، لا سيما من المشرق، في حين لم يُولَ أيّ اهتمام له/ به في المغرب. هل معنى ذلك أنّ الكتاب هُمّش مثل بقية الكتب الأخرى التي تأتي عكس السائد والمحتفى به الذي يساير عزف الكورال؟

  • لنقُلْ إنّ هناك (كُورالًا) يُهمّش أو يُعرض عن كلّ من لا يساير عزفه. لسوء حظّ الكتاب أنّه جاء في وقت خفت فيه البحث الجادّ والمبتكر الذي كان يتمُّ في حقل الدراسات العروضية والإيقاعية من لدن الدارسين عربًا ومستشرقين، من أمثال إبراهيم أنيس ومحمد شكري عياد وكمال أبو ديب وعبد الله الطيب ومحمد العمرى؛ وفي وقت صار فيه الإعراض عن الإيقاع والجهل به ضربًا من الموضة بزعمهم أنّ الإيقاع هو العروض الذي يذكّرهم بالشعر التقليدي وهو لا يعنيهم في شيئ ما دام قد وجّهوا ركائبهم نحو قصيدة النثر التي صارت (حمارًا) لمعظم أدعياء الشعر، وهي حقٌّ أريد بها باطل. وهكذا، إذا تأمّلت معي ما يقال اليوم في الدراسات الشعرية، تجد أنّه صار قولًا مكررًا ومملًّا وغامضًا في الشعر الذي سلخوه عن وظائفه الرئيسة، وخارج أقنومٍ رئيس لا يستقيم به القول دون الاهتمام بالإيقاع الذي يُمثِّل عصب القصيدة العربية؛ ولعلّ ذلك يُمثّل وجه أزمة الشعر العربي اليوم إنتاجًا وتلقّيًا.

  ويسرّني أن أنوِّه برأي بعض الشعراء والنقّاد الذين اطّلعوا على الكتاب، بمن فيهم علي جعفر العلاق وشوقي بزيع وإدريس الملياني وحميد سعيد وسعيد يقطين ورشيد يحياوي وعبد الجبار العلمي.

س: محمد مفتاح بكتابه الأخير الموسوم بـ(مفاهيم موسعة لنظرية للشعر) ربّما أعاد الاعتبار للدراسة العروضية ـ الإيقاعية. أليس كذلك؟

  • صحيح. كتاب د. محمد مفتاح الذي أشرتَ إليه لا يعيد الاعتبار فحسب، بل يلقي مهامًّا جسامًا على الباحثين الجدد الذي يتوجّهون إلى هذا النوع من الدراسات العالمة، وهو الذي انفتح، وأبان للكارهين للإيقاع ومناوئيه أن الإيقاع يتوهّج حتى داخل قصيدة النثر إذا كان الشاعر يصل كتابته حقيقةً بشهوة الابتكار ومعرفته بجماليّات اللغة العربية وخواصّها البنائية والفنّية، وليس الشاعر الذي لا علاقة له بتراث أمّته الشعري والثقافي.

س: إلى جانب اهتمامك بـ(نقد الإيقاع)، كرّست جزءًا من مجهودك النقدي للشعر والشعرية في المغرب من خلال دراساتك عن شعراء معاصرين وظواهر نصية وجمالية عرف بها هذا الشعر راهنًا. ما هي في نظرك أهمّ ما يميّز الشعرية المغربية بروافدها ولغاتها وجمالياتها وحساسياتها المختلفة والمتعارضة في آن؟

  • في راهن الشعر المغربي نُصغي إلى حداثته المتحوّلة باستمرار، وهي لشعراء قادمين من أراضٍ وأوفاقٍ وحساسيّات مغايرةٍ ترتاد أفقًا شعريًّا وتفتح فيه وعيًا جديدًا بالمسألة الشعرية برُمّتها، وذلك من أواخر الثمانينيّات إلى اليوم. فخلال هذه العقود الأخيرة، شهدنا حركة نشر ملحّة ومطّردة للشعر المغربي بكلّ أشكاله وتعبيراته، بحيث تضاعف الإنتاج الشعري بشكلٍ لافت. كما ارتبط الارتفاع الكمي للإنتاج الشعري المغربي بديمومة توسًّع بنية منتجي الأعمال الشعرية من الجنسين معًا، حيث انتقل عددهم من أقلّ من المائة شاعر وشاعرة إلى المئات، ونعوز هذا الارتفاع إلى ازدياد دور النشر، وتعايش مختلف الأجيال الشعرية جنبًا إلى جنب، وظهور قصيدة النثر التي بدت وسيلة تعبير الجميع حتّى لمن هم خارج تصنيف الشعراء. مثلما امتدّت جغرافيا الشعر المغربي لتشمل هوامش وأطرافًا جديدة، بل تعدّت لتشمل المهاجر في أوربا وكندا، إذ بات يلاحظ أنّ هناك العشرات من الكتّاب والشعراء المغاربة الذين يكتبون باللغة العربية أو بلغة الدول المضيفة أو بهما، وهم بلا شك يُشكّلون قيمة مضافة لأدبهم الوطني الأصلي.

لكلّ هذه الاعتبارات، نقول إنّها كانت مرحلة انعطاف كمّي بارز، ونوعيّ بلا شكّ، في مسارات الشعر المغربي المعاصر، فما يحكمها هو الاختلاف والتعدُّد، وبالتالي جاز لنا أن نقول إنّ الشعر المغربي اليوم غابة لم تُطلق كلَّ أغصانها.

  وإذا جاز لنا أن نستقرئ السمات الشعرية الأساسية الكبرى التي ترتدّ إليها في الشعراء وتجاربهم، أمكن لنا أن نحصرها إجمالًا في ما يلي: الاهتمام بالذات في هشاشتها وصوتها الخافت والحميم، وبالتالي تذويب الملفوظ الشعري وشخصنة الموضوعات والصور والمواقف من الكتابة والعالم والوجود، مع ما يفرضه الأمر من عزوف مستحكم عن المعضلات والهواجس السياسية والاجتماعية الكبرى. إلى جانب ما نلمسه من ميل إلى بساطة القول الشعري، وانفتاح على السرد وجماليّاته البانية، واعتناء بالكتابة الشذرية بما يسمح بإدخال اللغة الشعرية في شبكة علائق أيقونية ومعجمية ورمزية جديدة تقلب نظم بناء الدلالة، الذات والمتخيَّل.

س: يلاحظ من مقارباتك للأعمال الشعرية المغربية خاصة، والعربية عامة، اعتمادك على منهج الشعرية وفروضها المعرفية والإجرائية؟

  • بالفعل؛ فإذا عدنا إلى هذا الكتاب وجدنا أنّ المعنى تتمّ مقاربته داخل علاقاته المحايثة والمتحولة بدوالّ النص الشعري، من دون الفصل بينها، بما في ذلك الإيقاع، واللغة، والتناص، وإنتاج الدلالة، وبناء الذات وفضاء الكتابة. وفق هذا التصوُّر الذي يرفد مصادره من الشعرية النقدية المعاصرة، فإنّ الأمر لا يتعلق بالتفكير في ما هو الأدب، بل في ما يصنعه؛ وهذا ما يستدعي استبدال مشكلات الماهية بمشكلات التاريخية، كما يقول هنري ميشونيك نفسه. وبما أنّها دراسة للغة الشعرية بالمعنى الواسع، فإنّ الشعرية بقدر ما هي تحاول أن تعرف ما تُؤسس له وتخلقه معرفةً تامّة، تستتبع أكثر فأكثر عملًا معرفيًّا للعلاقات بين كلّ مُمارسةٍ للغة ونظريّتها في اللغة. هكذا تقود الشعرية إلى نظريةٍ نقديّةٍ للعلاقة بين الفلسفي والسياسي وكلّ ما هو فعل لغويّ، والقصيدة تحديدًا.

س: هذا ما يطالعه القارئ من خلال كتابك “تحوُّلات المعنى في الشعر العربي” الفائز بجائزة الشارقة للإبداع العربي. ما رأيك في الحراك الثقافي الذي تعرفه الإمارات العربية المتحدة؟

-لقد سبق لي أن زرْتُ الإمارات أكثر من مرّة، ووقفْتُ بأمّ عيني على الصروح الثقافية العظيمة التي شيّدتْها الدولة وترعاها باستمرار، والإشعاع الثقافي والزخم الفني والجمالي الذي تصرفه في مناحي الحياة اليومية وتُرقّي به ذائقة الأفراد في المجتمع، وذلك بفضل حرص الإرادة السياسية وانخراط الأنتجلنسيا المحلّية والعربية من كتّاب وشعراء ومفكرين وإعلاميين وفنّانين، عدا فاعلية استراتيجيّات التخطيط الثقافي وشموليّته. ولا شك في أنّ ذلك الإشعاع أضاء عتمة هائلة من وجودنا العربي المعاصر، وبعث الأمل من جديد في إعادة بعث نهضة عربية حقيقيّة تثق في العقل العربي، وتستفيد من المال المتدفّق وتنامي التحدّيات، وتقف في وجه موجات الغزو الثقافي الشّرِه عبر تعزيز الحفاظ على الهويات الثقافية المحلية ودعم غناها واستمراريّتها. وأُفكّر، بجدٍّ، كيف سيكون عليه حال الثقافة العربية اليوم لولا هذه المساهمات الجادّة والمأمولة التي قدّمتها هيئات الإمارات العربية المتحدة ودوائرها ومؤسساتها الثقافية والفكرية والفنية، عبر البرامج والجوائز والأنشطة والأدوار الثقافية والإعلامية التي خلقتها وأحسنت تدبيرها، على الأقلّ في العقد الأخير من زمننا.

س: في سياق هذا الحراك الثقافي، أريد رأيك في الحركة الشعرية التي تعرفها الإمارات، بوصفك مُتابعًا للتجارب الجديدة في الشعر العربي المعاصر؟

-هي تجربة تقدّم علامة عافية عن نفسها، نلتقطها من خلال نصوص شعراء أساسيّين داخلها، من أمثال إبراهيم أحمد إبراهيم وأحمد العسم وخالد البدور وسعد جمعة وعبد العزيز جاسم وحبيب الصايغ وكريم معتوق، وليس آخرهم أحمد راشد ثاني الذي رحل عنّا وهو في أوج عطائه الفنّي. فالشعر الإماراتي المعاصر، أسوة بمثيله في دول الخليج والمغرب العربي، تطوُّر بشكل أثار اهتمامي واهتمام كثيرٍ من الدارسين، بمن فيهم بحّاثة عراقي رصين مثل صالح هويدي الذي أنجز دراسة تطبيقية في “الخطاب الشعري الحديث في الإمارات”، ويُقدّم عبرها نماذج نصّية جديدة وأسماء اختطّت لنفسها أسلوبًا مائزًا لإيصال أصواتها وتجاربها الشعرية. وما يثير انتباهي أكثر هو أن شعراء الإمارات لا يكتبون بسويّة واحدة ولا يجمع بينهم مفهوم وحيد للشعر شكلًا ولغةً وتخييلًا؛ فأنت تجد القصيدة العمودية تتعايش مع قصيدة التفعيلة وتستفيد من منجز قصيدة النثر، وبجانب هذه الأنواع الكتابيّة، تجد القصيدة النبطيّة بألقها وإنشاديّتها. وإذا كان هناك من تدافُعٍ بين هذه الأشكال برمّتها فهو يعكس مشهد الاختلاف والتعارض الذي يُميّز الحركة الشعرية في الإمارات ويُطوّرها باستمرار. كما يثير اهتمامي صعود الشعر النسائي، بل طرافته بسبب ما أظهرته الشاعرات الإماراتيّات من صَوْتٍ جريءٍ ووعيٍ فنيٍّ تكشفه ما تعتمدنه من رؤى وتقنيات كتابيّة، وأذكر في هذا الصدد ظبية خميس ونجوم الغانم وميسون صقر والهنوف محمد ومنى مطر، تمثيلًا لا حصرًا.

الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الإماراتية، 03 ماي/ آيار 2012.*

(7)

السياسيون يخافون الشِّعر

 حاوره: خالد بيومي

س: أسهمت بطريقتك الخاصة في السؤال الخاص بتحديث الإبداع الشعري والدرس النقدي، كيف تشكل لديك الوعي بأهمية ذلك؟

  • هو الوعي نفسه بالحياة وشرطها الإنساني الصعب، دائمًا ما كان الإبداع الأدبي والفنّي، بما فيه الشعر، ينشأ من رحم المعاناة. هكذا، فبداية تشكُّل وعيي بالشعر وكتابته، كانت في بادئ عهدها خربشات وخواطر ثمّ أبيات تحاول أن تجد لها نظامًا أو قوانين كانت تُدرّس لنا، ينطلق من هنا . إنّها بداية كلّ شاعرٍ أو باحثٍ عن الشعر وجد نفسه في حياة صعبة، أعزل إلا من رغبته وسريرته التي تعلمه أن يخضع طريقه بشرط الوجود، أيًّا تكن درجة معاناته . لذلك، لا أقول إن الصدفة هي التي قادتني إلى القصيدة، بل الضرورة التي تتغذّى على شرطها الإنساني والوجودي في آن . 

س: الملاحظ وجود تحول معرفي وجمالي داخل تجربتك الشعرية، في البداية كان هناك ذلك التشبع الأيديولوجي، لكنك عدت مؤخرًا وبقوة لتتوحد بالذات وإشراقاتها وتحولاتها في علاقتها بالتاريخ، كيف تفسر هذا التحول؟

  • صحيح، وإلا ما معنى أن تكتب من دون أن تكون لديك هذه الرغبة في أن تتحوّل باستمرار، في قصائدي الأولى، التي قرضتها على نظام البيتين وبات اليوم أغلبها إمّا ضائعًا أو غير منشور في ديوان، كان لديّ مفهوم مبذول لمعنى الالتزام الذي يجد تعبيراته الأثيرة في قضايا جماعية وقومية، بما في ذلك قضية فلسطين والعراق تحديدًا، في سياق انشغالي الفكري والجمالي، كمواطن مغربي، بقضايا الصراع المرير الذي تجتازه الأمة من أجل إثبات هويتها واستحقاق حياتها ووجودها، لكن من غير أن يرقى الأمر إلى ما تُسمّيه ب “التشبع الأيديولوجي” . هذا المفهوم تطوّر، مع الوقت، إلى صيغة أن يكون للالتزام واجبٌ إنسانيّ تتّخذه الأنا الشعرية للتعبير عن رؤيتها الخاصة للعالم، حتى وهي تسرح في فضاء الأيقونة التاريخي والرمزي، كأن تتلفّظ بأنا- بغداد، أو أنا - القدس، أو أنا - المعتمد بن عباد، وسوى ذلك . إنّها ذات فرديّة بقدر ما هي جمعيّة . ذات التّلافُظ إذا جاز القول . منذ ديواني “لماذا أشهدْتِ عليّ وعد السحاب؟” أجتهد في كتابة هذه الذات وأصغي إليها، وهي بمقدار ما تكتب ملامح من سيرتها الشعرية المسكونة بالأمكنة والمحاصرة بالتخوم والأسئلة، تشفُّ عن عزلتها وهشاشتها من جهة، وعن تشوُّفها الشاق عبر معراج الذكريات والأشواق إلى المطلق . إنّها تُقاوم حتى لا تتلهّى عن حماية الأمل الذي يوقظ ولا يعمي الرؤية، ويترك الوعد بالحياة ولغتها قائمًا باستمرار . لقد صار قلق الكتابة، حقيقةً، يتلبّسني أكثر من ذي قبل . 

س: لديك العديد من الدراسات عن الإيقاع والشعرية العربية، كيف جاءت قراءتك النقدية لهذا المنجز؟ وهل يتعلق الأمر بقراءة خاصة لتاريخيته وأهم تحولاته المعرفية والجمالية؟

  • تولّد الاهتمام لديّ بالمنجز النقدي والبلاغي للشعرية العربية من دراستي الجامعية، بموازاة مع اهتمامي الشخصي بتجارب الشعر العربي الحديث التي كانت تنادي عليّ من أمكنة بعيدة . أنجزتُ بهذا الخصوص دراستين، هما: “تحوُّلات المعنى في الشعر العربي”، و”نقد الإيقاع: في مفهوم الإيقاع وتعبيراته الجمالية وآليّات تلقِّيه عند العرب” .

   في الأولى، درستُ المعنى في الشعرية العربية قديمها وحديثها، مبرزًا كيف انتقل الاهتمام من تراتبية المعنى وأسبقيّته في شعريتي البيان والتخييل من خلال التشديد على المقصديّة ووضوح الدّلالة أو على المحاكاة والتأويل النفساني، إلى الاهتمام بدلاليّة الخطاب في سياق ما تمّ إبدالات معرفية وجمالية تأثّر بها بناء المعنى وآليّات اشتغاله في الشعر الحديث، وما ترتَّب على ذلك من أزمة تلقِّي المعنى الجديد .

   وفي الثانية، قادتني قراءتي للشعر العربي وشغفي بموسيقاه إلى لملمة كثير من القضايا التي تتّصل بالعروض والإيقاع في الشعر العربي ونظريّته، مبرزًا كيف تطوّر تأمُّل مفهوم الإيقاع في الدراسات ذات الصلة، وتطوّرت آليّات تلقّيه من طرف عروضيّين، وعلماء بالشِّعر، وبلاغيّين، وموسيقيّين، وتجويديّين، وفلاسفة، وقد كانت تعبيراتهم الجماليّة نابعة من تأمُّل إمكانات عمله في الشعر العربي بأشكاله المختلفة (الرجز، القصيدة، الموشّح والزجل) . ومثلما في تحوُّلات المعنى، كان انشغالنا النظريّ يصدر في منهج التحليل عن تصوُّرٍ ينظرُ إلى الإيقاع متلبّسًا بتاريخيّته، حيث قوانين الإيقاع وآليّات عمله، داخل الشعر العربي، ليست واحدة، كما أنّ زمن بروز بعض أشكاله وظواهره يظلّ مُرْتبطًا بالتحوُّلات التي تُصيب هويّة القصيدة العربية بتنوُّع أنماط بنائها . وهكذا، فالمنهج الذي نعتمده ونراقبه هو منهج الشعرية عبر إستراتيجية الذّهاب  الإياب بين النصّ والنظرية .

س: تتابع عن كثب التراكم الكمي والكيفي الذي تشهده القصيدة المغربية على وجه الخصوص، ما تقييمك النقدي باعتبارك قارئًا لهذا التراكم؟

  • لقرون طويلة، مع الأسف، كرّست الهامشية الجغرافية وبعض كتب تاريخ الأدب العربي صورةَ أدبٍ مغربيّ هامشي ومجهول وغير متّضح الهوية، وهو ما جعل أغلب إخواننا المشارقة لا يعرفون شيئًا عن أدبنا، والحقّ أن هذا الأدب، أسوةً بغيره من الآداب الإنسانية، عرف تطوُّرًا مُهمًّا، بما في ذلك تطوُّر القصيدة المغربية الحديثة التي أمكنها، منذ الاستقلال في خمسينيّات القرن العشرين إلى اليوم، أن تُسْمع صوتها وتفرض حضورها، وبالتالي لم يعد النبوغ مُقيمًا في تفاصيل التاريخ وشوارده، بل لافتًا وجالبًا للإعجاب والمكرمة بحقّ . لقد تضاعف الإنتاج الشعري بشكلٍ لافت، وارتبط الارتفاع الكمي للإنتاج بديمومة توسًّع بنية منتجي الأعمال الشعرية، حيث انتقل عددهم من أقلّ من المئة شاعرًا إلى المئات، وضمنها تأكّد الحضور القويّ للصوت الشعري النسائي الذي رفد خطاب الكتابة الشعرية بمتخيّل جديد ووشمه بتلويناتٍ وصيغ وتعبيرات جديدة كان في حاجةٍ إليها . ونعوز هذا الارتفاع إلى ازدياد دور النشر، وتعايش مختلف الأجيال الشعرية جنبًا إلى جنب، وظهور قصيدة النثر التي بدت وسيلة تعبير الجميع حتّى لمن هم خارج تصنيف الشعراء . مثلما امتدّت جغرافيا الشعر المغربي لتشمل هوامش وأطرافًا وأراضي جديدة في المنافي بأوروبا وكندا والولايات المتحدة . ولم يعد لسان الكتابة الأدبية، شعرها ونثرها، محصورًا في لغات كالعربية والأمازيغية والفرنسية، بل تعدّاها إلى لغاتٍ أخرى مثل الهولندية والإسبانية والانجليزية والألمانية . لكلّ هذه الاعتبارات، نقول إنّ القصيدة المغربية اليوم تشهد مرحلة انعطاف كمّي بارز، ونوعيّ بلا شكّ، في مسارات شعرنا وثقافتنا الحديثين معًا. 

س: هل تعتقد أن قصيدة النثر قد تمكنت رغم الجدل النقدي حولها من تجذير حضورها في الأدب المغربي؟

  • يتقاسم فضاء القصيدة المغربية اليوم نمطا قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، في ما انحصر نمط القصيدة العمودية في فضاء مناسباتٍ قومية ووطنية معيّنة وآنية، بسبب ما يفرضه ذلك النمط من إشباع ثابت ولا واعٍ لوجدان الجماعة . وقد بدا يثبت، باستمرار، أنّ قصيدة النثر باتت لسان حال الشعراء الجدد الذين لا يُخفي قطاعٌ كبير منهم تهافته على كتابتها بغير علم أو عن حسن نيّة إذا جاز القول . من هنا، لا يخفى على المتتبّع للحركة الشعرية الواقع الطاغي الذي أخذت تحتلّه قصيدة النثر التي تعني كلّ شعر خارج شرط الوزن والقافية، حتى وإن كانت هذه القصيدة لا ترتقي إلى مستوى الشعرية . الكلّ يكتب، ولكن لا سجال نقديًّا يضيء ويوجّه ويسمّي الأشياء بأسمائها، بلا ادّعاء ولا محاباة . وأعتقد أنّ هذا الواقع نجده في كلّ البلاد العربية، كأنّ هناك إجماعًا على واقع “الرعب في الآداب” .

س: كيف تتخلق بداخلك القصيدة؟ وكيف تنقلها إلى الكتابة؟ هل تتدخل باعتبارك ذاتًا في سيرورة تشكل القصيدة من خلال التنقيح وإعادة الصياغة؟

-عليّ أن أتوقع مجيء السطر الأول للقصيدة، كإشراقة، في أيّ لحظة، ومن ثمّة عليّ أن أرعاه وأحميه من الاستسهال بما أمكن جهد فنّي . وأحبُّ هنا أن أذكر ما كان الشاعر الألماني ريلكه يقوله في “دفاتر مالت لوريدز بريج” عن العمل بصدد القصيدة، إذ إن أبياتًا من الشعر ليست، كما يعتقد بعضهم، مجرد أحاسيس، إنها تجارب ويجب أن تكون ذكريات تعرف نسيانها، وأن يكون لها صبر شديد في انتظار عودتها، وهو ما لا يتمُّ إلا عندما تصير في دمنا ونظرتنا وحركتنا، ولا يحدث هذا إلا في ما يمكن أن يأتي، أي في الساعة الأندر، حيث تشرق بين ظهرانينا الكلمة الأولى للبيت. 

س: كيف تقرأ شكل الانعكاس بين الشعرية نفسها كصورة فنية وبين شعر الموقف والشعر السياسي؟

  • لنتّفق أوّلًا على أنّ الشعر هو، قبل كل شيء، عمل فنّي . لذلك من المهمّ أن نؤكّد القيمة الفنّية في الشعر وعبره، غير أنّ الشعر ليس خطابًا لازمًا، بل هو متعدّ يعكس زمن الذات الكاتبة ورؤيتها وموقفها من العالم والأشياء . وإذا عدنا إلى تاريخ الشعر العربي وغير العربي وجدنا أنّ أهمّ الشعراء الذين خلّدهم الزمن هم من نقلوا عبر شعرهم جوهر التجربة الإنسانية في صراعها المرير مع السلطة، أو الموت، أو المرض، أو النبذ الاجتماعي، أو عذاب الحبّ . إن الشعر سياسة، وإلا لما كان السياسيّون يخشونه ويتفّهونه عبر أساليب الدعاية الشعبوية في وسائل الإعلام وبرامج التلفزيون . لكنّ أنّى لهم أن يُخرسوا صوت شاعرٍ لسان حاله ما عبّر عنه الشاعر الفرنسي يوجين غيفيلك، بقوله: “إن المرأة لتلهمني أكثر مما تلهمني الإضرابات” .

س: كيف حال علاقة اللغة بالشعر في هذا العصر، هل ما زال الشعر يثري اللغة في هذه اللحظة الراهنة؟

  • أعتقد أنّ هذا أحد الأسئلة الجوهرية التي تهمُّ وضع الشعر والجدوى منه، وعلى نقّاد الشعر ودارسيه أن يضعوها في صلب انشغالاتهم النظرية والمعرفية . بالنسبة إليّ، أرى أن الشعر كان دائمًا مصدر ثراء للغة، وكان علماء النحو واللغة والتفسير يرجعون إليه لتأكيد البعد التعليمي والجمالي في الشعر، كما كان الشاعر مسؤولًا على حماية العمق في اللغة . غير أنّ العلاقة اليوم تبلبلت بين الشعر واللغة، فلم يعد مصدرًا لإثراء اللغة وابتكار صيغها، بسبب تراجع دوره في المدرسة والمجتمع من جهة، وطغيان التكنولوجيا وطابعها التسطيحي والآني من جهة أخرى، بل إنّ قطاعًا غير قليل من الشعراء أنفسهم يشعر بأنّ اللغة التي يكتبون بها متشابهة تشابه الرمل، وبعضهم يرتكب الأخطاء في اللغة والنحو . إنّ الشعر فنٌّ لغويٌّ إذا لم يحافظ على جوهريّته، فلا أعتقد أنّ حاجتنا إلى الشعر ضروريّة إلى هذا الحد .

س: كيف تجد التلقي الشعري بعد ثورات الربيع العربي؟

    - لو حدث هذا الربيع العربي قبل هذه الفترة بعقود لكانت درجة التلقّي والتفاعل أكبر ممّا هي عليه اليوم، أي أيّام كان الشعر يُستقبل بحفاوة، وكان الشعراء يُشخّصون الصراع بين السياسي والثقافي في الشعر العربي الحديث، وكانت موضوعاتهم القومية والاجتماعية تُمثّل ضغطًا متصاعدًا على نصوصهم الشعرية، حتى أدمنت الذّائقة على التعامل معهم بوصفهم الصوت السياسي للثورة العربية في كل تجلّياتها من أجل التغيير والتقدم والرفاه الاجتماعي . لكن ثورات الربيع العربي حدثت بعد أن خفت ذلك الصوت، وشهد الشعر تراجعًا، وغدت الشقّة تتوسّع بين الشعراء والجمهور الّذي أحسّ بأنّهم كانوا يبيعونه الزيف والكذب، وأنّ ما وعدوا به لم يجلب إلا المأساة، كما أحسّ الشعراء أنفسهم بالخيبة واللاجدوى والشعور بالفاجعة من فشل المشروع الثوري والنهضوي، وتشرذم الكيانات السياسية الوطنية، وانطفاء روح العقل والنّقد، ومن لا جدوى “بحار المعرفة السّبعة” الّتي رفدوها نحتًا من لحمهم ودمهم . ومع ذلك، عندما اندلعت شرارة الثورة من تونس، وردّد الجميع فيها قصيدة “إرادة الحياة” لأبي القاسم الشابي، عاد الوعي من جديد بأن الشعر هو، بالفعل، المعبِّر الحقيقي عن الوجدان الجماعي العربي . ولقد قرأنا خلال هذه الأشهر الأخيرة من عمر الربيع العربي “شعرًا ثوريًّا”  على علاته  ساخنًا كأنّه خرج للتوّ من الأتون، أتون التاريخ والأسطورة . وشاهدنا كيف عادت الذاكرة الشعرية تجد لها صدىً في الوجدان الجماعي، من خلال إقبال الناس على قراءة شعر الشابي ونزار قباني ومحمود درويش وأمل دنقل وأحمد فؤاد نجم، وتكريمهم رمزيًّا في المنتديات الافتراضية والمهرجانات الشعرية . وأعتقد أنّ ثورات الربيع سيكون لها تأثير عميق في روح الشعر العربي، بعد أن تهدأ آثار الزلزال وتختمر في دمنا وروحنا ونظرتنا.

*الملحق الثقافي لجريدة (الخليج) الإماراتية، 4 يونيو/ حزيران 2012.

(8)

عندما يلوح المتلقّي ليس كشبح، بل كحافز من حوافز الحبكة!

حاوره: إدريس علوش

س: ماذا تكتب الآن..؟

  • أكتبُ نَقْدًا في راهن الشعر المغربي، موزّعًا بين رصد ظواهر وقضايا فنّية مشتركة، وبين الإصغاء إلى تجارب مخصوصة ومائزة تنتمي إلى خارطة هذا الشعر بمختلف أجياله وحساسياته ورؤاه إلى الذات والعالم. ذلك النقد ممتدٌّ في الزمن وسخاء التأمُّل، وقد أوشكتُ على الانتهاء منه في مشروع كتاب.

س: إلى أي حد يسعفك هذا الفصل في الكتابة..؟

  • ابتداءً من فصل الشتاء أشعر بمزاج خاصّ للكتابة وعبرها، يتجاوب مع ما في الخارج من بروق وأمطار ورياح تصل السماء برحم الطبيعة، كأنّما الكتابة امتدادٌ لمخاض وتجربة وأثر ما. هنا، تكون لك قدرة على الانضباط لما تكتبه، بلا تراخٍ ونأمة كسل. قد يحصل أن تشطب وتعاود الكتابة، وهو ما يُشبه قَلْبًا لأرض بندوبٍ كثيرة.

س: أي فصل من فصول السنة يلهمك أكثر؟

  • لا أستطيع أن أميّز بين فصل وآخر، بيد أنّ روحي تهفو إليه وتحنُّ، وأعتقد بأنّه فصل الربيع.

س: أي شعور يعتريك عندما تنهي نصك..؟

  • لنقل هو شعورٌ متناقض؛ فأنت تفرح لأنّك انتهيتَ من كتابة نصّ توافرت فيه نسبة عالية من التجويد الفنّي، وأنت تحزن لأنّك لا تريد أن تنتهي منه، إذ بينك وبينه سرّة قد انتسجت مع دبيب الذكريات والمشاعر والآمال، كانت تتنامى بين أصابعك مثل ماء أو هسيس.

س: وأنت تكتب هل تستحضر المتلقي..؟

  • في مرحلة متقدّمة من العمل يلوح لي المتلقّي، ليس كشبح، بل كحافز من حوافز الحبكة.

س: هل تمارس نوعًا من الرقابة على ذاتك وأنت تكتب..؟

  • لا أقول رقابة، بل شرطًا. إنّنا مشروطون بزمننا ولغتنا وثقافتنا، ولا أعتقد بأنّ كاتبًا حقيقيًّا بوسعه أن يكتب خارج شرطه. بهذا المنظور، يكون لما نكتبه ونسهر عليه من ضوء أرواحنا معنى وقيمة يشتغلان باستمرار في الوعد بالكتابة. أمّا الرقابة، بمعناها الضيّق، فإنّها نقيض الحرية، ونقيض الكتابة بالتالي.

س: إلى أي حد تعتبر الكتابة مهمة في حياتك..؟

  • هي مُهمّة بمعانٍ كثيرة، لأنّها تُخرج الكتيم إلى العلن، وأنّها تتيح لنا فسحة للبوح والتعبير عمّا يُخالجنا ويقلقنا ويُبْهجنا في حياةٍ صعبة نعيشها ونتدرّب على محنها كعلامات ترقيم تتحسّسها هشاشتنا، وأنّها تمنحنا شيئًا من الأمان وبصيصًا من الأمل. إنّ الكتابة، ولاسيما كتابة القصيدة، ضرورة بالنسبة لي، وليست ترفًا إلّا لمن يجعلون ما يكتبونه في أرشيف الأدراج المظلمة.

س: الكتابة، ما تعريفك لها..؟

  • أن تعيش لتكتب؛ أن تكتب ما بدا لك محلومًا به لِيُعاش بمعنى آخر.

س: إلى أي حد أنت راضٍ عما كتبت..؟

- بنسبة ما تدفعني لمواصلة الكتابة والسعي إليها باستمرار. هناك مسافة غائمة بين الرضا والقلق تنكتب فيه ذواتنا هي التي تجعل ما نكتبه ناقصًا. جماليّات النقصان.

س: عادة هل تعيد قراءة ما كتبت قبل اتخاذك لقرار النشر..؟

- دائمًا. لا أتعجّل في النشر. هناك ما يجب تنقيحه، أو إعادة كتابته، أو الشطب عليه، أو استبداله وإزاحته. أنا من الكتّاب المحكّكين (يضحك). اِتّخاذ مثل ذلك القرار ليس تافهًا ولا أقلّ مما تنشره ولا أين تنشره. إنّه حياةٌ أو موت.

*جريدة (الاتحاد الاشتراكي)، 29 نونبر/ تشرين الثاني 2012.

(9)

   طفرة الكتابة تُضيع المعنى

   حاوره: عبد الدائم السلامي

س: يلاحظ المتتبّع لشعرك وجود تحوُّل معرفي وجمالي إلى حدّ أن نتحدث عن خواصّ تعبر تجربتك الشعرية،. هل تتّفق مع القول بأنّ ذلك يتمُّ انطلاقًا من عمل الذات وإشراقاتها في علاقتها بالفضاء واللغة والتاريخ، بشكل غير محدود؟

  • أزعم أنّ ذلك الانتباه دقيق إلى حدّ معقول. في ديواني"لماذا أشهدت عليّ وعد السحاب؟"، والديوانين التاليين "ما يُشبه نايًا على آثارها" و"ترياق"، كنتُ حريصًا على تطوير حاسّتي الشعرية داخل الغنائية التي تهجر ميدان "السنتيمنتالية" لتحتضن مُتخيّلًا ناهضًا يدفع بالذّات إلى أقصاها في مخاطبة المطلق عبر وجوهٍ وحيواتٍ وعوالم متعدّدة. فلا يعنيني في الكتابة التي أُكبّ عليها بقدر عنايتي بإيقاع الذات والعمل عليه داخل البناء النصّي الذي ترفده موسيقى هامسة من الإيقاع، ويسهم فيه تنويع التراكيب، مثلما عنايتي بالتصوير الشعري وإدارته في إطار من الحوار الخارجي الذي يستبطن الحالات الشعرية المختلفة، وهو ما يُطْلق ذاتيّتي ويشفُّ عن إشراقاتها وشرطها الأنطولوجي، وعن تشوُّفها الشاق عبر معراج الذكريات والأشواق إلى المطلق. إنّها تُقاوم حتى لا تتلهّى عن حماية الأمل الذي يوقظ ولا يعمي الرؤية، ويترك الوعد بالحياة ولغتها قائمًا على الدوام. لقد صار قلق الكتابة يتلبّسني أكثر من ذي قبل، في عصرٍ قياميٍّ كهذا.

س: هل يُواصل ديوانك الجديد "ذاكرة ليوم آخر" هذا الانتباه، أم أنَّه يُحقّق طفرة ويحدث انشقاقًا في التجربة؟

  • هذا الانتباه لا زال، لكن لا معنى أن تكتب بدون أن تكون لديك رغبة في أن تتحوّل باستمرار. ذلك قلق الكتابة الذي يهجس بروح التجربة ويشرعها على صمت الجهات. مفهوم التجربة نفسه يتطوُّر إلى صيغة أن يكون للكتابة شرْطٌ إنسانيّ تتّخذه الأنا الشعرية للتعبير عن رؤيتها الخاصة للعالم، حتى وهي تسرح في فضاء الأيقونة التاريخي والرمزي، كأن تتلفّظ بأنا- بغداد، والقدس، ومراكش؛ أو أنا- المعري، والمعتمد بن عباد، وأبي العباس السبتي، إلخ. ذلك هو أنا- الوعد باللغة. ذات التّلافُظ إذا جاز القول. ففي الديوان يتمُّ الإصغاء إلى الفردي بقدرما إلى الجمعي بشكلٍ غير قابل للفصل. الطفرة تحدث في هذه المسافة من "ضياع المعنى" حيث يمكن لأنا الكتابة أن تنكتب باستمرار.

س: يُلفي قارئ دواوينك الشعرية الأربعة ميلًا فيها إلى تهشيم عمود الاستعارة التقليدية وتفجير إيقاعاتها. لكن في "ذاكرة ليوم آخر" هناك توجُّه يراهن على تزمين الشعر بشكل يشي بالحسّ المأساوي للزمن النفسي والفيزيقي للذات الشاعرة، أو عليها بالأحرى؟

  • أجل، يشعر القارئ بأنّه مغمور بإيحاءات الزمن الذي يتمّ نقله بالتقسيط إلى أن يصير بالكثافة التي تُؤذي في الصميم. وبما أنّ البوصلة توحي، في الغالب، بضياع المعنى كأليغوريا لضياع معنى الحياة والعالم والتّاريخ، إلا أنّ التزمين سرعان ما يظهر بديلًا عن المعنى المبحوث عنه، إذ هو فاغرٌ فاه في كلّ جهة. لكن ما يهمُّ الذات ليس ما يدلُّ عليه الزمن، بل ما يتركه عليها من ندوب، من ندب الشعر إلى ندب الخطوة: "أسفل السهو، أعلى النُّدوب".

س: وهذا ما انعكس بشكلٍ واضح على لغة التجربة..

  • بلا شكّ في ذلك. بموازاةٍ مع سيرورة البحث عن المعنى وفيه، تتخفّف اللغة وتمثيلاتها الذهنية والرمزية من "قرينة البراءة"، وتعمل على مكبوت الأنا/ الآخر وتقسيطه عبر شذراتٍ لا تقول أكثر ممّا تُشير، ولا تُثبت أكثر ممّأ تعكس. ليس المقصود بهذا المعنى، تبرئة ساحة الذات من معركة تعجُّ بالجثث، بل تضويئها بخلفية تتصادى مع تجارب التاريخ المنسي و"ينابيعها النضّاحة باليتم الفردي والإنساني"، لأجل أن تبقى اللغة وسيطًا لا حجابًا.

س: في ديوانك تزاوج بين قصيدتي التفعيلة والنثر، هل تريد أن تستمزج تجربة البحث بشكْلٍ يخلق "إيقاعًا ثالثًا" متخفِّفًا من الغنائية والنثرية معًا؟

  • كما اللغة، يحاول الإيقاع أن يتقفّى أثر التجربة ويتجاوب معها، لذلك ينوّع مصادر اشتغاله عبر اللغة وخارجها، إذ لا يعنيني التوقيع بقدرما الجَرْس الذي يلفت القرينة من غفلتها، ويبعث شتيت المعنى من سقطه المهدور. نلمس ذلك بأشكال متنوّعة ومُشظّاة من نصّ إلى آخر، ومن شذرة إلى آخرى، حيث يعبر الإيقاع في اللغة مدركًا ومحسوسًا وباترًا ومرئيًّا أو غير مرئيٍّ. وسواء كان داخل قصيدة التفعيلة أو قصيدة النثر، فإنّ الإيقاع مُفكّرٌ فيه كأثر لا كعلامة، وهو يتّكئ، باقتصاد بليغ وعبور هامس، على مجمل "اللونيّات" و"الفراغات" التي تأثر عن توتُّرات اللغة وتجاويفها في علاقتها بملفوظ الأنا. من ثمّة، يمكن لنا أن ننعت هذا الإيقاع، تجوُّزًا، بأنّه "إيقاع ثالث"، لا هو إيقاع الوزن الذي يتردّد على مسافات منتظمة، ولا هو إيقاع النثر السيّال كيفما اتّفق.

س: وما قصّة بيتي المتنبي الذين تفتتح بهما ديوانك الجديد؟

  • لا أنظر إلى المتنبّي كأب، بل كعلامة ترقيم ليس لها شبيه في متوالية الشعر العربي. والعودة إليه دائمًا ما تأخذ شكْلَ إصغاء أكثر من احتفاء أو مجرّد ذريعة. إنّه من تلك القلّة الهائلة التي لا تزال مصدر إلهام، وشعره إلى اليوم يخرق جدار الزمن. ما يهمُّني في بيتي المتنبّي:

               يُقاتِلُني عَلَيْكَ اللّيْلُ جِــــدًّا     ومُنصَرَفي لَهُ أمضَىى السّلاحِ

               لأنّي كُلّما فـــــــارَقْتَ طَرْفي     بَعــيدٌ بَيْـــنَ جَفْنــي والصّـــباحِ                                                                                                  

هو هذا الانتباه، الحدس بالزمن ومعاركته بهشاشة الحالم الذي يعبر ليل القصيدة بطعم الخيبات وشرط الجراح. لكنّه من كتب "أناه" في تناقضاتها بصدق وبلا تردُّد ومداهنة.

س: هل أنت مع من يقول إنّ شعر المتنبّي أكثر حداثة من أغلب شعرنا "الحديث"؟

  • المتنبّي أكبر من هذا القول، وهو لا تنفعه مزايدات أو تجميلات أحد. إنّه وحيد شعره، و"المعجز" بعبارة أبي العلاء المعري.

س: إلى ماذا تُرجع عزوف الناس عن قراءة الشعر الآن؟  وهل يمكن اعتبار سيطرة التكنولوجيا بعوالمها الافتراضيّة على المعيش اليومي سببًا من أسباب تراجع الشعر وضمور التخييل في نصوص الشعراء الجدد؟

  • في الوضعية التي يعبرها الشّعر راهنًا، نحتاج إلى شيء من الرويّة، وإلى إعادة وضع سؤال الشعر في سياق التحوّلات المتسارعة، ومشاغل الكائن الجديدة. بدلًا من أن نسأل هل تراجع دور الشّعر فيحياتنا، يجب أن نعرف هل هناك شعرٌ أم لا، كما يجب أن نعرف هل أدرك الشّعراء سياسات القصيدة في زمنها، بمعنى هل انتبهت إلى الحاجات الروحية والجمالية للإنسان المعاصر؟ وهل ذهبوا هم أنفسهم إلى أمكنة أخرى لبحث الشّعر ومقاربته؟ نطرح هذه الأسئلة من ضمن أخرى متشعبة لنؤكّد على ضرورة الشّعر، وأهمية كتابتَه التي تهتمّ بالمستقبل وتُصغي إليه. ويفرض علينا الفضاء الاتصالي المُعَوْلم الوعي بلحظتنا الراهنة بما يعنيه من تعاطٍ خلّاق ومثمر مع الوسائط الجديدة من أجل التعريف بالشعر ونشره في الفضاء العام. لكن يجب الانتباه إلى أن الشّعر لا يبحث عن دوْرٍ جماهيريّ، أو بالأحرى يُبْحث له عن مثل هذا الدّور، ولا وهم التّمثيل والمحاكاة، ولا عن خطاباتٍ تعزّز الإجماع الكاذب. إنّ الّذين يَرْبطون الشّعر بحالة الطمأنينة، وببلوغ الخلاص إنّما يتحاملون على الشّعر، ويكرّسون فهْم العامّة له كشيْء ساذج وعديم الجدوى. قوّة الشّعر في هشاشته الّتي لا تُزهر إلاّ في العتمة، وترقص على حوافّ الكارثة. وتنبت في الشقوق، وتدبّ بين تصدُّعات الروح. إنّه هذا السفر العابر في الجوهريّ، وفي الشعائر الهامسة، وفي طقوس الحبّ والجمال والغناء، وفي لحظات التأمل والإصغاء إلى الزمن والإحساس به وسخاء الطبيعة. لا أقلّ ولا أكثر.

س: ما رأيك في من يتحدث عن "النص الجديد" بوصفه ثورة ثالثة في الشعر العربي، وذلك انطلاقًا من تغيّر حامل الكتابة الإلكتروني- الرقمي؟

- لست مقتنعًا بهذا الزعم. في كلّ عصر يمكن لنا أن نتحدّث عن نصّ جديد يستوعب روح العصر. حدث هذا مرارًا في العصر العباسي، وفي الأندلس، وخلال القرن العشرين بأكمله. الأصوب أن نتحدّث عن حساسية جديدة في الشعر تنسجم مع ما يعرف العصر، وتتأثّر بروحه وأصدائه في دورة حضارية جديدة. كلُّ أنواع الشعر تستوي في هذا الحامل كما تتساوى في استخدامها للوسائط الجديدة التي لن تضيف شيئًا إلى الجوهري في الشعر وحقيقته وينابيع حلمه الضاجّة بالحياة. ليس كلّ نص إلكتروني أو رقمي نصًّا جديدًا، وإلا ذكرنا ذلك بكاريكاتور نظرية داروين الذي أعطته للإنسان وقد تحوّل إلى مسخ برأس كبير وأطراف قصيرة تتدلّى منه.

*جريدة (العرب)، 19 فبراير/ شباط 2013. و(المساء) المغربية، مارس/ آذار 2013

(10)

خارطة الشعر المغربي ما بعد الثمانينيات جديرة بالتأمُّل

حاورته: ليلى بارع

س: (ذاكرة ليوم آخر) هو آخر أعمالك الشعرية، الذي وقّعته بالمعرض الدولي للكتاب، هل يمكننا أن تحدثنا عن الجديد فيه من حيث البناء والإيقاع؟

  • يلاحظ المتتبّع لشعري وجود تحوُّل معرفي وجمالي إلى حدّ أن نتحدث عن خواصّ تعبر التجربة برُمّتها. فانطلاقًا من عمل الذات وإشراقاتها في علاقتها بالفضاء واللغة والتاريخ، بشكل غير محدود، ثمّة كتابة متحوِّلة. لا يعنيني في الكتابة التي أُكبّ عليها بقدر عنايتي بإيقاع الذات والعمل عليه داخل البناء النصّي الذي ترفده موسيقى هامسة من الإيقاع، ويسهم فيه تنويع التراكيب، مثلما عنايتي بالتصوير الشعري وإدارته في إطار من الحوار الخارجي الذي يستبطن الحالات الشعرية المختلفة. إنّها كتابة تُقاوم حتى لا تتلهّى عن حماية الأمل الذي يوقظ ولا يعمي الرؤية، ويترك الوعد بالحياة ولغتها قائمًا على الدوام. إنّ ديوان «ذاكرة ليوم آخر» يُحقّق طفرة ويحدث انشقاقًا في التجربة، وفيه يتمُّ الإصغاء إلى الفردي بقدرما إلى الجمعي بشكلٍ غير قابل للفصل.

كما اللغة المغمورة بإيحاءات الزمن الذي يتمّ نقله بالتقسيط إلى أن يصير بالكثافة التي تُؤذي في الصميم، وبالذكريات المنقوعة بماء الأمل، هنا الإيقاع الذي يحاول أن يتقفّى أثر الذاكرة ويتجاوب معها، لذلك أعمل على تنويع مصادر اشتغاله عبر اللغة وخارجها، إذ لا يعنيني التوقيع بقدر ما يعنيني الجَرْس الذي يلفت القرينة من غفلتها، ويبعث شتيت المعنى من سقطه المهدور. نلمس ذلك بأشكال متنوّعة ومُشظّاة من نصّ إلى آخر، ومن شذرة إلى أخرى، حيث يعبر الإيقاع في اللغة مدركًا ومحسوسًا وباترًا ومرئيًّا أو غير مرئيٍّ.  وسواء كان داخل قصيدة التفعيلة أو قصيدة النثر، فإنّ الإيقاع مُفكّرٌ فيه كأثر لا كعلامة، وهو يتّكئ، باقتصاد بليغ وعبور هامس، على مجمل «اللونيّات»  و«الفراغات» التي تأثر عن توتُّرات اللغة وتجاويفها في علاقتها بملفوظ الأنا. من ثمّة، يمكن لنا أن ننعت هذا الإيقاع، تجوُّزًا، بأنّه «إيقاع ثالث»، لا هو إيقاع الوزن الذي يتردّد على مسافات منتظمة، ولا هو إيقاع النثر السيّال كيفما اتّفق.

س: كيف يمكنك أن تنفلت من قلم الناقد في أعمالك الشعرية؟

  • بالأحرى، هناك تجاوبٌ بين الشعر والنقد، إذ هما فعاليّتان تتحاوران في الذهاب-الإياب داخل معماري الكتابي، ولا يقعان على طرفي نقيض. فكل منهما يلبي حاجةً نفسيةً، علاوةً على ما ينهضان به من أعباء المعرفة والتأمل. وأحاول –بقدر ما أستطيع- أن أحتفظ بالتوازن الخلّاق بين الفعّاليتين معًا. كتابة القصيدة تحتاج-أوّلًا- إلى استغراق شبه كُلّي ينقطع إلى أسرارها وما يفعله دبيبها في الروح والوعي، لكنها لا تنفصل تمامًا عن اشتراطات التي الكتابة تدبّر بؤر تشويشها وتخلّصها من زوائدها، كما لا تنفصل عن خصوصيّات الجنس الذي تنكتب في ضوئه. ثمّة عبء البوح وعبء المعرفة. أما في لحظة الكتابة النقدية فأنا أذهب إلى النصوص وأقترب منها مصغيًا إلى فرادتها وشعريّتها، بانفتاحي على تجربتي ومقروئيتي التي راكمتُها بجوار القصيدة، وعلى أدوات النظرية التي أنتقي منها ما يفيد عبوراتي إلى تلك النصوص ولا يثقل عليها بداعي المنهاجية. أنا، ناقدًا، مسكونٌ بالشعر، وبمعرفة الشعر. وبداخلي ثمّة فرح داخليّ، يحركني للكتابة عن هذا الشاعر أو ذاك، وعن هذا الديوان أو ذاك.

س: ما رأيك في الحكم القائل بأنّ النقد الذي يكتبه الشعراء يظلُّ مختلفًا عن النقد الأكاديمي الصارم؟

  • هو كذلك. مختلف ومغاير في لهجته وأفقه. وإذا رجعنا إلى تاريخ النقد الحديث وجدنا أنّ أهمّ الكشوفات والإضاءات التي أفادت شعرنا العربي وقدّمته إلى جمهور القراء، تمّت على أيدي شعراء نقاد، من أمثال: أدونيس، يوسف الخال، صلاح عبد الصبور، علي جعفر العلاق، محمد بنيس، تمثيلًا لا حصرًا. أهمّ نقاد الشعر ومنظّريه هم الشعراء أنفسهم، الذي يعرفون أنّ الكتابة تذهب نحو ما لا تعرفه، نحو ما ليس لها، أي نحو مُمْكنها الذي تتنصّت عليه النظريّة. بطبيعة الحال، هذا لا ينتقص من نقاد أكاديميّين متمرّسين ساهموا بقدر وافر في الرقيّ بالذائقة النقدية. لكن يبدو لي أن نقد الشعراء هو أكثر سلاسة وأكثر كشفًا، يعنى بإبداعيّة اللغة ومحسوسيّة الرؤية في التحليل. وإن كان يهمُّه هو الآخر المعرفة بالمنهج، لكنّه لا يصير مريض النظرية، غارقًا في شكليات البحث والنزوع السكولائي.

س: بصفتك ناقدًا، كيف تنظر إلى مهرجان شفشاون هذه السنة، من حيث احتفاؤه بالشعر المغربي الحديث؟

  • كعادتها، ومنذ 1965 عام تأسيسه، لم تخذل شفشاون اللقاء بالقصيدة المغربية عبر فعاليات المهرجان الوطني للشعر المغربي، وقد شارك فيها وأحياها ثلّةٌ من شعراء أتوا من كلّ شِعْب وشِعْر. وقد بدا واضحًا، عبر الجلسات الشعرية الثلاث التي توزّعت بين دار القصبة ودار الثقافة بفضائهما المعماري التاريخي الفاتن، كيف اختلفت نصوصهم الشعرية وتفاوتت قيمتها ووظيفتها، بقدرما اختلفت أشكالها بالنسبة إلى صيغ تدبيرها للكتابة ونوعيّتها، وأجبال كاتبيها. لكن لوحظ الحضور المتوازن بين قصيدة التفعيلة بإشراقيّتها ودفق إيقاعها كما اقترحها - مثلًا- عبد الكريم  الطبال وأمينة المريني ومحمد علي الرباوي والزبير خياط، وبين قصيدة النثر بنزوعها إلى اليومي ورؤيتها اللوذعية كما اقترحتها أصوات من الحساسية الجديدة من قبيل عبد الجواد الخنيفي ومخلص الصغير وحميد زيد. فيما اقترحت وفاء العمراني وإيمان الخطابي وأمل الأخضر نصوصًا تتكئ على صيغة المؤنّث المفعمة بالعطر الأنثوي الذي سرى في جسد اللغة ونبض بالعاطفة والشهوة وبوجدانها الخصب الذي يتكلّم مجازات التاريخ الشخصي الموجع.

  والمؤمّل اليوم من جمعية أصدقاء المعتمد، الجهة المنظّمة للمهرجان، أن تعمل على إبداع صيغ جديدة لفعاليّاته وتطويرها بالانفتاح على مزيدٍ من "الحساسيات الجديدة"، وطباعة أنطولوجيات شعرية ووقائع الندوة النقدية للمشاركين فيه كلّ عام، وإدماج فنون بصريّة وموسيقية مصاحبة للقراءات الشعرية ليس فقط في الفضاءات المغلقة، بل حتى الخارجية منها (حديقة، ساحة، مشهد طبيعي..) في بلدة طبيعية غنية وساحرة مثل شفشاون. ولكن من الواجب على وزارة الثقافة والجهات ذات الصلة أن تدعم هذا المهرجان بقوّة وبلا تردُّد، ليس لأنّه أعرق مهرجان شعري، أو لأنّه يمثّل ذاكرة حيويّة للشعر المغربي الحديث، بل بوصفه وجهًا بازغًا لذائقتنا وإبداعنا وحبّنا للفنّ والجمال، وعلامة دالة على حيويّة ثقافتنا اليوم.

س: بموازاة القراءات الشعرية، انعقدت الندوة النقدية في موضوع: "القصيدة المغربية.. إلى أين؟" شارك فيها خيرة نقاد المغرب.في نظرك، إلى أين تسير القصيدة المغربية الحديثة؟ وهل تستجيب للتحولات الجارية في عالمنا اليوم، لا سيما وأنّ لديك كتابًا يصدر قريبًا بعنوان:"حساسيات جديدة في الشعر المغربي المعاصر"؟

- في الحقيقة، شخّصت مداخلات النقاد من مثل نجيب العوفي وبنعيسى بوحمالة ويوسف ناوري ومحمد المسعودي، عبر منظورات مختلفة، واقع القصيدة المغربية وأعطابها ورهاناتها. كما أنّ المداخلات لم تمرّ بدون أن تثير آراء الحضور وتساؤلاتهم التي أغنت محور الندوة العريض، إذ فيهم شعراء وباحثون خبروا مضايق القصيدة. ويظلّ من الزعم القول إنّالمداخلات أجابت عن سؤال مصير القصيدة المغربية، بقدرما أنّها لململت جوانبه وفتحته على تهوية جديدة عبر سيرورات القراءة والتأويل.

  وفي اعتقادي الذي تسنده متابعتي المستمرة لراهن الشعر المغربي، يبدو لي أن الخارطة التي اختطّها الشعر المغربي منذ ما بعد الثمانينيات وإلى الآن، جديرة بالتأمُّل، لأنها شكّلت بتضاريسها المتنوعة آفاقًا جديدة، وقطعت مع ما سبقها، بقدرما كرّست وعيًا جديدة بالمسألة الشعرية برُمّتها، بعد أن رفعت عنها السياسي والإيديولوجي، ويمّمت بوجهها شطر المغامرة، حتّى أنّ ما كان مُتخفِّيًا ومأمولًا يصبح أكثر حضورًا في تجربة الراهن. ولعلّ من أهم ملامح الراهن هو صعود حساسيات جديدة رافقه صعود قصيدة النثر التي باتت لسان حال الشعراء الجدد الذين لا يُخفي قطاعٌ كبير منهم رغبته في الحرية، وإن كان ذلك لا يخفي تهافته على كتابتها، ثمّ الاهتمام بالذات في صوتها الخافت والحميم وهي تواجه بهشاشتها وتصدُّعها الأشياء والعالم والمجهول، والعكوف على ما تعجّ به الحياة اليومية من اختلاطات ومشاهدات وتفصيلات وعلائق خفية، وتناولها بأشكال من اللوذعية والمفارقة والسخرية. والكتاب الذي أومأتِ إليه سيكون كتابًا بوليفونيًّا، توثيقيًّا وأنطولوجيًّا إذ يضمّ بين دفتيه تأملات وشهادات ونصوصًا شعرية لنحو أربعين شاعرًا يمثّلون، في نظري، روح الحساسية الجديدة ومغامرتها.

س: شاركت في مهرجان الشعر المتوسطي الذي احتضنته الجديدة"، حيث الحضور العالمي للشعر، هل يمكنك تقريبنا من الأجواء العامة التي تمارس فيها القصيدة الشعرية اليوم؟

 -لم تكن أيّام المهرجان ثلاثة فحسب، بل أزمنة تحبل بمعنى الأمكنة التي ساكنت الشعر في أصواته الحيّة من لغة إلى أخرى، ومن إيقاع إلى آخر. تحت جذع شجرة. بين أغصان مدلّاة أو معرّاة. بمحاذاة أشجار (الروكاريا) و(السون دراكَون) السامقة. وسط خيمة شبيهة بالخيام التي كانت تضرب للشعر منذ الأزل. حديقة محمد الخامس التي احتضنت معظم قراءات "مهرجان الشعر المتوسطي"، وضبطت توقيتها على إيقاعه، بدت حديقة غير عادية. تحوّلت الحديقة إلى ما يُشبه سوق عكاظ، إذ استمتع جمهور الشعر الحاضر بقصائد الشعراء الذين وفدوا من بلدان البحر الأبيض المتوسط، وهي تُلقى بلغات وأصواتٍ متعددة، وفي أشكال وموضوعات تعبيرية مختلفة، من الحبّ والإيروتيكا إلى عوالم الطبيعة وفضاء الموت، ومن هموم الذات إلى الأسئلة الكونية الواخزة، ومن التأمل الفلسفي إلى الوجد الصوفي والاستغراق الغنائي. ووجدتُ من هؤلاء الشعراء من كان يُجسّد جيل الشعراء المخضرم الذي يتشبّت بالبناء التقليدي للقصيدة الحديثة التي تنهل من التراث الإنساني ومُتخيّل الثقافة المتوسطية المشترك؛ ومنهم من كان يُعبّر عن الجيل الجديد الذي اختار الانفتاح على البناء الجديد الذي يستثمر أشكال التعبير المختلفة، بما في إحياء تقاليد الشعر الشفوي الذي يقوم على الإيقاع والأداء الموسيقي كما لدى شاعرين مثل الإيطالي كلوديو بوزاني والفرنسي أنطوان سيمون. وفي بعض القراءات الشعرية تمّ، بطريقة مؤثرة من أحد المؤدين على الخشبة، نقل قصائد المشاركين إلى لغة الإشارات لفائدة الصم.وقد قرأ بعض الشعراء قصائدهم في قوارب على نهر "أم الربيع" الذي يخترق بلدة أزمور العريقة، بينما كانت بعض شوارع المدينة تُوشّيها لافتات تومض بشذرات شعرية لشعراء مشاركين، كما بدت مسرحًا لبعض الأنشطة المقامة على هامش المهرجان. لقد أضفى الغناء والموسيقى والتشكيل بعدًا آخر للشعر، وحوّلاه إلى ما يشبه عيد حقيقي أبهج الناس في عاصمة دكالة، وفرحوا به.

س: هل يعني هذا أن مشكلة تلقّي الشعر يمكن مواجهتها ببعض الذكاء التنظيمي؟

 - صحيح. تغيّر الشعر، وتّغيّر الخطاب الجاري حول الشعر، فلم لا تتغيّر أشكال تلقّيه، عبر إبداع صيغ جديدة تشرك الفنون الجميلة وتستثمر التكنولوجيات الجديدة كما تعمل على البحث عن دوائر تلقٍّ جديدة غير عادية، يمكنها أن نجدها في كلّ مكان حيث ينتظرنا هناك من سبق أن صافحناه أو حلمنا به وكتبنا عنه في غفلةٍ منّا.

*جريدة (الخبر) المغربية، 17 يوليوز/ تموز2013.

(11)

أهتدي بالداخل حيث يصدر هذا الذي يأتي دائمًا.. 

حاورته: سناء بلحور

 س: حدّثنا عن علاقتك بالقصيدة؟ 

  • علاقة غامضة وسرّية، لا أعرف متى تأتي وإلى أين تأخذني. إنّها أشبه بامرأة هُلامية لا نستطيع أن نكشف جمالها الحسّي إلّا محضناها الحبّ والصبر، وبالتالي أبهجتنا ووهبتنا كلمة سرّها إلى حين. أعتقد بأنّ مثل هذه العلاقة مهمّة وتُشكّل حافزًا على الكتابة: إغواء الكتابة.

 س: المطلع على دواوينك الشعرية يلمس تطوُّرًا وتغييرًا في قصائدك، انطلاقا من ذلك ما المسعى الذي تتحمّله لتقديم منجزك الشعري  بشكل مختلف؟

  • هناك تحوُّلٌ أحرص عليه في كلّ عملٍ شعريٍّ أخوضه. من باكورتي الشعرية "لماذا أشهدتِ عليّ وعد السحاب؟" (2005) وإلى آخر مجموعة "ذاكرة ليوْمٍ آخر" (2013)، يلاحظ المتتبّع لشعري وجود تحوُّل معرفي وجمالي إلى حدّ أن نتحدث عن أقانيم تخصُّ تجربتي الشعرية: القصيدة بوصفها عمل الذات، العناية بإيقاع هامس ومرئيٍّ ومتنوّع داخل معمار النص، تنويع التراكيب، الانتقال ببن الشعري والنثري، الاهتمام بالتصوير الشعري وإدارته في إطار من الحوار الخارجي الذي يستبطن الحالات الشعرية المختلفة. إنّي أسعى باستمرار إلى كتابة نصّي الخاص، وأحرص على أن يكون النصّ الشعري مختلفًا بين نصوص أبناء جيلي على الأقلّ. لا أهتمّ، بموازاة ذلك، بالموضة وآخر التقليعات التي سرعان ما تنطفئ، لأنّ ما يعني الشعر هو الجوهري، وهذا الجوهري محكّي الحقيقي، وعزائي أيضًا. 

س: هذه الذات التي تُعنى بها في شعرك، هل هي المنطلق أم المآل؟ 

  • هما معًا: المنطلق والمآل في سيرورة الكتابة ومختبرها، فالذّات في منطلقها ليست كما انتهت إليه. إنّها من المفترض أن تكون قد تأثّرت بمناخ ومزاج معيّنين، وانطبعت عليها علائم وخواصّ متنوّعة لا تُحصى. هذه الذّات هي التي لها هويّة مختلفة ومفتوحة تتحرّك في كلّ زمان، وهي بمثابة " المبدأ التحتي الدائم في تعاقب الأزمنة" بتعبير بول كلي، وهي تنظر إلى موضوعها  من منظور متعدد الجوانب، وإلّا فإنّهُ ليس بوسعها أن تجعل من الشعر أو الفنّ شكل حياة. لا أعني بالذّات هنا الفرد، إنّها أشمل من ذلك وأرحب. إنّني أتعلم من ذاتيّتي هذه الطريقة الخاصة بالإصغاء والعودة إلى الداخل حيث يصدر هذا الذي يأتي دائمًا، ولا يشيخ أو يخذل. فقيمتها تأخذها من قوة الكلمات الفارغة داخل العمل الذي تُكبُّ عليه، والتي لا تفيض إلّا بما يوضع فيها، فيتغير بشكل لا محدود. هذه هي الذّات.

 من هنا، أفهم لماذا الذات والذاتيّة تُمثّل المبدأ الباني في الشعر تحديدًا، والفنّ إجمالًا، بقدرما توسّع بوسائل شكلية حدودَ الحياة مثلما هي تظهر عادة، وتجعل من عمل هذا الوسائل، لغةَ أو إيقاعًا أو موضوعًا، مرئيًّا ومحسوسًا. هذا الفهم يهمّني في الطريق الذين أذرعه ذهابًا وإيابًا بين كتابة القصيدة والوعي بها نظريًّا.

 س: تُحيلنا  مجموعة من أشعار ديوانك الجديد "ذاكرة ليوم آخر" على آثار لشعراء آخرين أمثال المتنبي والمعري والمعتمد بن عباد والشابي وأمل دنقل ونازك الملائكة وعبد الله راجع وسركون بولص... كيف تفسر هذا التناصّ الحاضر بقوة، وعلاقته بنوعية الذات؟

  • أجل، هناك حضور شديد للتناصّ، أو بالأحرى للتّذاوُتية La trans-subjectivité.  تفاعلُ  ذاتي مع ذواتٍ أخرى تجمعني بها قواسم عزاء مشتركة من هذا الشاعر إلى ذاك،وهي غير منقطعة عن الزمن والفضاء اللّذين يستحيلان بدورهما إلى وظيفة اشتغال تضع العمل الشعر بمجمله في قلب السيرورة، وتطبعه بطابع بوليفيني تتجاوب فيه أصوات الحاضر مع التاريخ، والحبّ مع صمت الجهات، والضوء مع خطى الوحشة، والريح مع أصداء الميادين التي التهبت في الربيع. إن الذات، الذات الكاتبة، تنسج في علاقتها بكلّ ذات مرجعيّة أو متخيَّلة نوعيّةَ ما، صيغة ما من التشكُّل والاجتراح، عبر تبئيرها لتفصيل حياتي، أو تأويل جرح شخصي، أو تحرير لمعنى ومثل شارد. ولهذا نجد ديوان "ذاكرة ليوم آخر" فضاءً تسرح فيه، بشكلٍ لانهائيٍّ، حيوات الذات التي لها القدرة على تحويل الحاضر، والماضي كذلك. وهو ما يتيح للذات، هنا، الحركة، فلا تسجن نفسها في الزمن المعطى.  إنّها تتجاوز ذاتها بذاتها في عبوراتها إلى ذواتٍ أخرى، من غير تقديس أو شعور جارف بالحنين إلى ماضٍ ولّى.

س: هل أنت راضٍ عن متابعة النقد لأعمالك الشعرية؟ وما هي بعض آراء النقاد التي تعتزّ بها؟

  • غير راضٍ، ولكن المسألة أعقد من مُجرّد شعور. إذا تأمّلنا سياقات النقد الشعري وجدناها تأخذ وظائف جديدة لم تعد تهتمّ بسؤال الشعر ومعرفته كما كان في السابق، بل أكثر ما يهمّها هو التسويق السريع للمعلومة وتسطيحها حتى تصل إلى شريحةٍ أوسع من الجمهور. في هذه المعادلة يضيع الشعر ولا يبقى منه شيء ذو بال، وهو ما يوهم القارئ أو المتتبّع بأنّ الشعر سلعة قلّ نفعها. لقد انعكس هذا الأمر سلبًا على صورة الشعر، ووضعيّته، ومردوديّته في المجال الثقافي راهنًا. وأمّا الشعراء فلا وجود لهم في واقع يتآكلون أمامه. هذا موضوعٌ آخر. وأمّا المؤلفات النقدية والأطاريح الجامعية التي أُنجزت عن الشعر، فلا أعتقد أنّها تُغيّر واقعًا، وأكثره تحصيل حاصل. في مثل هذا الواقع أخشى أن يتأثّر شعري بالقراءات المغرضة والمسيئة التي تضبط توقيتها تحت الطلب. لكن هناك إشارات نقدية لشعراء ونقّاد مغاربة وعرب أعتزّ بها، لكلّ من علي جعفر العلاق وشوقي بزيع وعلوي الهاشمي ورشيد يحياوي وعلي عبد الرضا؛ كما أنّ هناك شهادات وكلمات تقريظية أسمعها في هذا المحفل أو ذاك من آخرين تحملني على مضاعفة الجهد الذي نذرتُه للشعر.

 س: أين يلتقي عندك الناقد والشاعر؟ وأين تفضل الإقامة في النقد أم الشعر؟

  -كان الشاعر أوّلًا، ثُمّ التحق به الناقد بعد دراستي الأكاديمية في الجامعة على يد أساتذةٍ أكفاء. أشعر أنّ هذا اللقاء الذي تمّ بينهما كان ضروريًّا، فبعد الموهبة وشطحاتها لا مندوحة من خبرة ووعي وتأمُّل هي متاع الناقد نفسه. لنقل إنّ هناك تجاوبًا بين الشعر والنقد، هو فعاليّتين تتحاوران في الذهاب-الإياب داخل معماري الكتابي، ولا تقعان على طرفي نقيض. فكل منهما يلبي حاجةً نفسيةً، علاوةً على ما ينهضان به من أعباء المعرفة والتأمل والبحث. وأحاول –بقدر ما أستطيع- أن أحتفظ بالتوازن الخلّاق بين الفعّاليتين معًا. كتابة القصيدة تحتاج-أوّلًا- إلى استغراق شبه كُلّي ينقطع إلى أسرارها وما يفعله دبيبها في الروح والوعي، لكنها لا تنفصل تمامًا عن اشتراطات التي الكتابة تدبّر بؤر تشويشها وتخلّصها من زوائدها، كما لا تنفصل عن خصوصيّات الجنس الذي تنكتب في ضوئه. أما في لحظة الكتابة النقدية فأنا أذهب إلى النصوص وأقترب منها مصغيًا إلى فرادتها وشعريّتها، بانفتاحي على تجربتي ومقروئيتي التي راكمتُها بجوار القصيدة، وعلى أدوات النظرية التي أنتقي منها ما يفيد عبوراتي إلى تلك النصوص ولا يثقل عليها بداعي المنهاجية. أنا، ناقدًا، مسكونٌ بالشعر، وبمعرفة الشعر. وبداخلي ثمّة فرح داخليّ، يحركني للكتابة عن هذا الشاعر أو ذاك، وعن هذا الديوان أو ذاك. إنّ الإقامة هي ذلك الذهاب-الإياب الذي أذرعه في عمل الكتابة ومجهولها، وقد تكون على حوافّ الخطر.

 س: صدر لك مؤخّرًا كتابك النقدي "الشعر والنثر في التراث البلاغي والنقدي"، برأيك هل ثمة حدود فاصلة بين الشعر والنثر؟

  • دائمًا ما كانت ثمّة حدود بين الشعر والنثر، ولا تزال إلى اليوم، وإن صارت بدرجة أخفّ وأقلّ حدة بالنظر إلى تحوُّل مفهوم الكتابة نفسه، وتبلبل نظريّة الأجناس برمّتها. إن المشكلات النظرية والسياسية للكتابة وتاريخيّتها يرتدُّ معظمها  إلى هذا التقابل، ليس في تاريخنا الثقافي فحسب، بل حتى في تاريخ ثقافات ثانية، بما فيها الثقافة الأوربية. فالتقابل بين النَّثْر والشِّعْر يكشف عن نفسه في ثلاثة معالم : البيت الشّعري، الـ"صُّورة" والتَّخييل، بما هي معايير استعماليّة. الأوّل الذي يُعرِّف الشعر من خلال البيت والإيقاع من خلال الوزن يجعل النّثْر تاليًا؛ ويُميّز الآخر الشعر من خلال الصُّورة، فيما يكون النثر معقولية وتَمْثيلًا ذِهنيًّا. وفي كلتا الحالتين، يكون الشِّعْر مُركَّزًا عليه: النّثر هو ما دون الإيقاع، وما دون الصورة. بينما النثر يكون مُركَّزًا عليه في مهيمنة التخييل فحسب، والشعر بخلافه، وذلك وفق المقولات الجارية. لكنّي في الكتاب الذي أشرتِ إليه كنتُ بمثل هذه الأسئلة: كيف تشكّلت ثنائيّة الشعر والنثر؟ هل كانت مقابلة أحدهما بالآخر تفيد في توضيح الحدود، وتجلو العلاقة بينهما؟ كيف خلط ربط الإيقاع بالوزن والبيت الشعري بين المنجز والمحتمل، وعقّد وضعية الكتابة؟ ما هو أثر المقدّس الذي خلفته البحوث الإعجازية حول المعجز القرآني في التباس الحدود بين أنماط الكتابة؟ كيف تدخّلت استراتيجيّات القراءة والتّأويل في توجيه الثنائية، بلاغيّة كانت أو إعجازية أو فلسفية؟

  لقد وجد أنّ آراء البلاغيّين والنقّاد تُشير إلى ما يختصُّ به الشعر، وما يختصُّ به النثر عمومًا، إلّا أنَّ تفكيرهم لم يتعدَّ إلى الاهتمام بمسألة الاختلاف في النّوْع لا الاختلاف في الدرجة، وربّما هذا ما منعها من إدراك الفروق النوعيّة بين الشعر والنثر كنمطين كتابيّيْن، ولم تُحِطْ بنوع العناصر والبنى والعلاقات النصّية التي يقومُ عليها كلٌّ منهما.

س: ما تقييمك لحقل الكتابة الشعرية النسائية بالمغرب ؟ إلى أي منحى تتجه القصيدة النسائية في بلدنا؟

  • ألمحتُ في مقالة سابقة لي عن "الشعر النسائي المغربي"، إلى الغياب الطويل الذي كانت تُكرّسه كتب الأدب والتاريخ عن المرأة كأديبة، مترسّلةً أو شاعرة، لأسباب دينية واجتماعية ونفسية تحكّمت بآليّات الإنتاج الثقافي وسلطتها. ولكن ابتداءً من عهد التسعينيّات المضطرم، وبدايات الألفية الواعدة التي أطلقت زخم الحرية وفضاء النشر الإلكتروني، حتّى أصبح لدينا اليوم مئات المجاميع الشعرية، وكأنّ الشعر هو الجنس الأدبي الأثير لدى النساء المبدعات للتحرُّر من إسار القول والرغبة فيه.

   بطبيعة الحال، من الصعب علينا كنُقّاد ومهتمّين بالكتابة النسائية أن ندرج هذا العدد الكبير تحت مُسمّى الشعر، فإنّ هناك تبسيط فجّ، واستسهال في القول، وتهالك على خيال الشاعر كيفما اتّفق؛ ولقد وجدنا منهنّ من وقعنا تحت كلفة التَحرُّج وشعرن بذلك، فأعدنا تجنيس ما يكتبنه من (شعر) تحت مسمّيات جديدة، من قبيل: خواطر، شذرات، نصوص، إلخ. لكن ذلك لا يمنعنا من القول إن نستشفّ من بعض تلك المجاميع الشعرية ما نميّز فيه أنا الأنثى وهُويّتها ومُتخيَّلها، وهو ما يسمح لنا أن نُقرّ بوجود كتابة شعريّة تتكلّم صيغة المؤنّث وفتنته، ومفعمة بالنّفَس الأنثوي الذي سرى في جسد اللغة وفتّت آليّاتها، وأعاد تسمية كثيرٍ من مفرداتها المادّية والرمزية، بفضل التهوية التي أتاحتها أناها الكاتبة وهي تضع إصبعها في الجرح، وتسمّيه بنفسها، متمرّدةً ومتأمّلةً وونابضةً بالعاطفة والشهوة وبوجدانها الخصب الذي يتكلّم عهودًا من التاريخ الشخصي الموجع والتجربة الوجدانية المشعة.

   ومن نافل القول، أن أشير إلى أنّ أهمّ تحدٍّ يواجه المرأة في إبداعها، أيًّا يكن ذلك الإبداع، هو أن تعمل على شعرنة الأنثوي وتأنيث الشعر بشكلٍ غير قابلٍ للفصل، مُشبعٍ أنوثةً في رؤيتها إلى العالم والأشياء؛ وربّما بقيت الحداثة معطوبة ومتكلِّسة، وطال عليها العهد، إذا لم يكن للمرأة فيها حقّ المساهمة فيها، وحقّ تسميتها وتَشهّيها.

س: كيف تستشرف أفق الشعر مستقبلًا في وطننا العربي عامة؟ 

  • في ظلّ تهالك الشعراء الروّاد الذين صاروا ينتجون أنفسهم بدون تجديد يُذكر، أعتقد بأنّ مستقبل الشعر هو للشعراء الجدد الذين يُمثّلون اليوم رؤى وحساسيّاتٍ جديدة، سواء في المغرب أو المشرق. لكن هؤلاء الشعراء هم، في الغالب، جيل ضائع لا يثق في المؤسسة، ويشعر بأنّ الكلمة وفرصة اقتسام المجال لم تُعْطَ له. فمن خلال متابعتي لإنتاج الشعراء الجدد، يبدو لي أن ثمّة الكثير ممّا يجب أن يُحتفى يه ويُستمع إليه.

س: كمؤسس لموقع "أفق الشعر المغربي"، أوّل أنطولوجيا إلكترونية، ما الذي أضافه هذا الموقع للمشهد الشعري بالمغرب؟

  • في الحقيقة، جاء هذا الموقع من قتاعة تولّدت لديَّ أن الشعر المغربي يكاد يكون يتيمًا ولا يعرفه أحد، سواء بين أوساط الباحثين وطلبة الجامعة المغربية، أو من المشرق الذي يجهله ولا يذكر منه شيئًا ذا بال. وهكذا أمكن لروّاد الموقع الذي وفدوا عليه، منذ 2008 عام تدشينه، أن يتعرّفوا على تاريخ هذا الشعر وروّاده ونماذج من شعره وإصداراته الجديدة التي كانت تترى بشكل لافت. وأشعر بأنّي أسديتُ خدمة، ولو بسيطة، من أجل أن ينتشر هذا الشعر وينطلق في الفضاء الأنترنيتي. ولديّ اليوم رغبة في تطويره قلبًا وقالبًا.

س: ولو عاد بك الزمن إلى الماضي، أي قصيدة كنْتَ ستكتبها؟

  • وهل يستطيع شاعر على وجه الأرض أن يوقّع على موته، إلا إذا كان هذا العود أبديًّا، فإنّ الأمر سيأخذ شكل عزاء.

*جريدة "القدس العربي"، 01 غشت/ آب 2013.

(12)

الشعر المغربي قطع مع عهود الكفاف والتحرج

حاوره: خالد أبجيك

س: نجد في الآونة الأخيرة العديد من اللقاءات الأدبية وفي مدن عدة بالمغرب، فإلى أي مدى يمكن لهذه اللقاءات أن تخدم الشعر؟ كيف ذلك؟

  • مبدئيّاً، أرى في هذه اللقاءات والمهرجانات الشعرية التي تعدّدت وطالت جلّ جغرافيا الوطن عاملاً إيجابيّاً من شأنه أن يفيد، ولو نسبيّاً، في تنمية الثقافة وتوسيع دائرة الاهتمام بالأدب وتداول الكتاب الأدبي. لكن لما كثرت هذه المهرجانات بشكل لافت للنظر؛ ولمّا كان على رأس الجمعيات المنظِّمة أُناسٌ لا علاقة لهم على الإطلاق بالشعر ولا معرفة لهم بالشعراء، فأنت تجدهم يستدعون إليها العيالَ على الشِّعر وأدعياءه من التافهات والتافهين من المغرب وخارجه، ويُكثرون فيها من "الغناء الشعبي" الصاخب ويزيدون على ذلك فقراتٍ من "السحر والألعاب البهلوانية" و"القعدة"، وهلمّ شرّاً. ولا أعرف إن كان هؤلاء - بهذه الوصفات التي تفتّقت عنها عبقريّتهم!- يريدون حلّ "أزمة الشعر"، ويفكّون إلى الأبد لغــز عزوف الجمهور عن الشعر؟

س: من خلال التطورات التي تعرفها الأجناس الأدبية ووصولاً حتى إلى تشابكها والتباسها حتى اللا تجنيس أحياناً، فهل يمكن أن يتطور الشعر إلى جنس آخر؟

  • الشِّعر شعرٌ، فأما إذا تطوّر إلى جنس آخر فلا يُسمّى شعراً. أجل، مرّ الشعر، عبر تاريخه الطويل، من أشكال وصيغ وأساليب كتابية متنوّعة، لكنّه في كل طور يتغيّر من غير أن يفقد مبرّر وجوده وجوهره البلّوري الذي ندركه ونتذوّقه ونشعر به، وهو بؤرة الشعرية ومركز ثقلها. ودعني هنا، أردّ على من يدّعي أن هذا الشكل دون سواه هو أجدر الأشكال بالشعر، فمثل هذا الادعاء يغذّي نوعاً من (الأصولية) في الشعر.

س: الشذرة بنفحتها الفلسفية وتناسقها هل يمكن أن نعتبرها تطوُّراً للكلمة الشعرية؟

  • كان واقع الممارسة الشعرية عندنا يُشير، باستمرار، إلى ميلٍ في الإطالة والتثقيف والتنقيح، ونظر إلى القصيدة باعتبارها الشكل الأرقى في سياق تط وُّر الشعر العربي، رابطاً إيّاها بفكرة أنّ الشعر صنعةٌ أو فنٌّ. وبالتالي، بدا من أهل العلم بالشعر تفضيلهم للقصيدة التي جعلوها أحسن الشعر، واعتبروا طول النّفَس كشرْطٍ للفحولة، ورتّبوا الشعراء تبعاً لطول قصائدهم. وهذا الفهم للقصيدة عند العرب مخالف لغيره في الشعريّات العريقة؛ وإذا قصرنا الأمر على الصينيّين مثلاً، فإنّهم كان يرون أن الشعر هو ما كان مائلاً إلى القصر، وذلك انسجاماً مع تصوُّرهم للزمن والكون. فكان الشعر في نظرهم نشوة وقتية بنت ساعتها تموت إذا طالت .

   وأرى أن الوقت حان للقطع مع القصائد الطوال ذات البناء الغنائي أو الدرامي الشاهق، التي لا تتوافق مع حوامل الكتابة الجديدة، ولا مع طبيعة الفضاء الفيسبوكي إنتاجاً وتلقّياً؛ فالمُعوَّل عليه – هنا - هو الكتابة الشذرية أو الإبيجرامية التي سنحت لها الفرصة اليوم لكي تنقل الشعر إلى عهد جديد، وتلقٍّ جديد، ومقولات جديدة. وبالتالي، أمكن أن تضخّ هذا الكتابة في فضاء الكتابة دماءً جديدة، وتقطع الطريق عن ضعاف الموهبة ومنتحلي نصوص غيرهم، وبالتالي تسقط الكلفة عن القرّاء من أجل أن يقرؤوا حقيقةً، وتخفُّ المؤونة عن النقّاد لكي يتابعوا ويستكشفوا ويستقرئوا. وهكذا، أمكن للشعر أن يخرج ظافراً من هذا الطور، ويكون تاريخه المعاصر قد شهد حركةً بالفعل. 

س: هل الشاعر مجبر على التصريح بمواقفه السياسية والفكرية، أم يكفي التعبير عنها بإبداعه حتى لا يتحول إلى داعية أو بوق لجهة معينة؟

  • الشاعر قبل أن يكون صائغ كلمات، هو مثقّف يجب أن يكون له موقف ورأي واضح ممّا يحدث حوله من ظواهر وقضايا وأسئلة في وطنه وفي العالم ككلّ، بلا التباس أو مهادنة. ويمكن أن يُصرّف مثل هذا الموقف أو الرأي شعريّاً بدون أن يسقط في الشِّعارية التي تصيب الشعر في مقتل.

  شخصيّاً، أبديتُ رأيي واضحاً في الحرب على غزة مثلاً، واعتبرته حرباً بربرية وغير أخلاقية، مستنكراً سبات الضمير العالمي وتواطئ النظام العربي الرسمي واستخذاء جمهور المثقفين. وفي التعبير الشعري، قلتُه بشفافيّة وإيحاء. وما أبلغ ما قال المسرحي والشاعر الألماني برتولد بريخت: "لن يقولوا، كانت الأزمنة رديئة، بل سيقولون: لماذا سكت الشعراء ؟". 

س: تتنوع الساحة الشعرية في المغرب ما بين الشعر العمودي وشعر التفعيلة وقصيدة النثر، إضافة إلى الزجل،  فإلى أي مدى يمكن لهذا التنوع أن يخدم المشهد الشعري المغربي؟

  • أعتقد اليوم، ومن خلال رصدي لهذا المشهد، بأنّ فضاء القصيدة المغربية يتقاسمه نمطا قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، في ما انحصر نمط القصيدة العمودية في فضاء مناسباتٍ قومية ووطنية معيّنة وآنية، بسبب ما يفرضه ذلك النمط من إشباع ثابت ولا واعٍ لوجدان الجماعة، وإن بدا لي أنّ هناك ما يشبه عودة (الشعر العمودي) مع شعراء شباب موهوبين داخل الجامعة أو في فضاء الفيسبوك.

  لكن مع ذلك باتت قصيدة النثر تمثل لسان حال الشعراء الجدد الذين لا يُخفي قطاعٌ كبير منهم تهافته على كتابتها بغير علم أو عن حسن نيّة إذا جاز القول . من هنا، لا يخفى على المتتبّع للحركة الشعرية الواقع الطاغي الذي أخذت تحتلّه قصيدة النثر التي تعني كلّ شعر خارج شرط الوزن والقافية، حتى وإن كانت هذه القصيدة لا ترتقي إلى مستوى الشعرية . الكلّ يكتب، ولكن لا سجال نقديّاً يضيء ويوجّه ويسمّي الأشياء بأسمائها، بلا ادّعاء ولا محاباة . وأعتقد أنّ هذا الواقع نجده في كلّ البلاد العربية، كأنّ هناك إجماعاً على واقع الرعب في الآداب . أمّا فيما يخصّ الزجل، فإن ثمّة حركة حقيقية نتيجة نشاطية فاعليها ، فصارت تقام له مهرجانات، وتخصص جوائز وتعقد موائد مستديرة وبحوث نقدية، بعد أن كان جزءاً من الثقافية الشعبية مهجوراً ومنظوراً إليه باستخفاف ودونيّة، مع عراقته وقيمته كفنّ كلامي. لكن ما نصبو إليه، كشعراء ومهتمّين، أن يكون هناك تعايش وتجاور بين هذه الأشكال الشعرية بلا إقصاء أو محاولة تشنيع. 

س: وماذا عن الشعر النسائي في المغرب؟

  • بعد عهود الكفاف والتحرج، أرى أنّ هناك نشاطيّةً قد انطلقت بوضوح منذ تسعينيّات القرن الماضي، إذ سنشهد إقبالاً من لدن النساء الكاتبات على الإفضاء بتجاربهنّ ونشرها في كراريس ومجاميع تعاظمت في بدايات الألفية الجديدة التي طبعها زخم الحرية وفضاء النشر الإلكتروني وكان الشعر أكثر أجناس القول حضوراً في كتابة المرأة وجاذبيّة من غيره، كأنّه الجنس الأثير لقولهنّ الأسير. وإذن، علينا كمهتمّين بالشعر المغربي أن نعطي هذه القصيدة اليوم ما تستحقّه من اهتمام، لأنّ هناك بالفعل تجارب شعرية لافتة ومتنوّعة تبعاً لأعمارها وأساليب كتابتها ورؤاها للغة والجسد والعالم.

س: الدراسات النقدية كانت ولا زالت الرفيق الأمثل والموجه لأي إبداع، فإلى أي مدى ينجح الناقد المغربي في تقييم التجربة الشعرية وما مدى تأثيره فيها؟

  • الإبداع أوّلاً، ثم النقد. لكن ما نجده هو كثرة الإبداع على علّاته، في مقابل غياب النقد وندرته. وربّما هذا أحد الأسباب المهمّة التي تُشيع خطاب الأزمة والحديث عن رداءة الفنّ والجمال. الكلّ يكتب، ولكن قلّ من يضيء ما يُكتب نقداً مع ما يقتضيه من معرفة واستقصاء، وليس النقد كيفما اتّفق تَشيُّعاً وزلفى.

   وفي نظري، يرجع تقهقر خطاب النقد إلى خطرين: النقد الطائفيالذي يتغذى على الملتقيات المحلية، ومأذونيات التسويق الإعلامي، وعُرام النعرات الإقليمية، أو على التشيُّع لهذا الجنس أو ذاك النوع من الأدب، فيغدو مع الوقت تضييقاً لإمكان المعرفة وشرط وجودها. ثمّ خطر الشللية التي سادت الوسط الأدبي اليوم. شللية في الملتقيات؛ شللية في الإعلام؛ شللية في حفلات التوقيع والتكريم؛ شللية في معارض الكتاب؛ شللية في الفيسبوك نفسه. الشللية من الشلة، ومن الشلل، ومن "التشلال" كذلك. الثقافة المغربية التي فاخرنا بحضور فاعليها في الإبداع والعطاء والتجدد، بدت اليوم على"كفّ عفريت"، فقد طمّ واقعها بالزبد وجلس أدعياؤها من مُزيِّفي العملة ومتعهّدي حفلات الجنس الجماعي في أول الصفّ.

س: كتابك "في راهن الشعر المغربي: من الجيل إلى الحساسية" كان ضمن المشاريع الثقافية والفنية التي دعمتها وزارة الثقافة في مجال النشر والكتاب. ماهي أهم القضايا والإشكالات التي تدرسها فيه؟

  • الكتاب، في حقيقة الأمر، هو ثمرة إصغاء وتأمُّل ونقاش حول وضع الشعر المغربي المعاصر ورؤاه وجمالياته وآليات تدبُّره للكيان الشعري، منذ ما يزيد عن عقْدٍ من الزمن. تنكبّ إشكالات الكتاب على دراسة هذ الراهن الشعري الذي صار يعني صراعاً ضمنيّاً بين حساسيّاتٍ وجماليّاتٍ متعارضة.

   فشعراء الراهن ينحدرون من جغرافيّات وتُراثات ومرجعيّات متمايزة في كتابتهم للقصيدة، فلا يجمع بالتالي بينهم تصوُّر محدّد لتدبُّر آليات عملها. وفي الراهن الشعري، لم يعد شاعرٌ محسوباً على جيلٍ بعينه، بل صار منتمياً إلى مغامرة الراهن، وحساسيّته الجديدة. وبالتالي، ما يحكم مغامرة الراهن هو الاختلاف والتعدُّد، بسبب ما يحفل به المشهد الشعري من تعدُّد مثمر وحياة خصيبة وواعدة، ومن ثراء المتن الشعري المغربي المعاصر كمّاً ونوعاً، وتجاذب منتجيه من كلّ أعمار الكتابة وجمالياتها ورؤاها للذّات والطبيعة والعالم.

س: ماذا تقصد بالحساسية الجديدة؟ وهل تعني تجاوزاً أو إلغاءً لما كتبه السلف؟

  • في الحقيقة، ساء فهم عبارة "الحساسية الجديدة"، وقد تبدو مهينة لدى البعض، لأنّهم يعتقدون أن هذا التصنيف يتضمّن إلغاءً أو تشويشاً على"الشعر كما كتبه السلف" قديمه وحديثه. لا شكّ في أن هناك تجدُّداً في الكتابة الشعرية منذ أواخر التسعينيات على الأقلّ، ولا ينحصر روّاد هذا التجديد في مجلة أو في جماعة أو في أفرادٍ ملهمين من أرض دون غيرها.

   فقد استفاد ممثِّلو "الحساسية الجديدة" من أسلافهم الذي كان بعضهم لامعاً وغير متوقّع، وأنا مُصرٌّ على التنويه بهم. كما استفادوا من أسلاف أقلّ شهرة أو تجديداً، لكن ساهموا بدورهم في التعريف بالشعر والانتصار له في زمنهم؛ بل الأخطر في الأمر، والأكثر دلالة حقّاً، هو أن تجد من الأسلاف من لا يزال قادراً على التجدُّد باستمرار، ويمثّل عامل تحفيز حقيقي لـ"حساسية جديدةما كانت ترسخ لولا استبصارهم وتسامحهم ونفاذ رؤيتهم.لعلّ هذه الإشارة من أهمّ الرسائل التي أردتُ، عبر كتاب: "في راهن الشعر المغربي: من الجيل إلى الحساسية"، أن ألتقطها وأبثّها، مؤمّلاً في سجال رصين وحياة نشطة تعيد الاعتبار لشعرنا وتُوسّع دائرة الاهتمام به.

جريدة (العاصمة)، 13-14 غشت/ آب 2014.*

(13)

الانفتاح على الراهن الشعري كسؤال يتمُّ في الحداثة وعبرها

حاوره: نور الدين بازين

س: ماذا تنتظر راهنيّة الشعر المغربي من أهله؟

  • راهن الشعر المغربي ينتظر من كافة المعنيّين، شعراء ونقاد وقراء، صياغة أجوبة لأسئلة من بينها مثلاً: أيُّهما أولى، الكتابي أم الإنشادي في مجتمع ذي أغلبية أمّية؟ أيُّ زخم يمكن أن تضفيه المعرفة الفلسفية على الممارستين الشعرية والنقدية بالمغرب؟ وأي موقع محتمل، في خارطتنا الشعرية، لشعراء قادمين إلى الشعر من معارف ومصادر وحساسيات وهوامش نصّية لافتة؟ أيّ متخيَّل يمكن أن يرخيه مصطلح الكتابة الشعرية النسائية؟ بل أيّ متخيل شعري وطني يجب أن نهندسه بصدد شعراء مغاربة يكتبون بلهجاتهم المحلّية (الأمازيغية، الحسانية والعامية)، أو بلُغات الدول التي تُضيّفهم في المهاجر بأوربا وكندا وسواهما؟ هذه الأسئلة هي إشكالية واستراتيجيّة في آن؛ لهذا، يجب أن تكون في صلب الانشغال التنظيري والنقدي بصدد مجالنا الثقافي والأدبي، والشعري تحديداً.

     بالنسبة لنا، ننشغل، هنا، بمثل هذه الأسئلة، ونستأنف التفكير في أهمّ القضايا التي يقترحها الشعر المغربي في راهننا، معرفيّاً وجماليّاً، من خلال تأمُّلاتٍ ومُقاربات نصّية نقترحها للإصغاء إلى الفاعلية الشعرية راهناً، والإصغاء إلى هسيس الذوات المبدعة، بما يحفزنا على اعتناق التواريخ الناغلة في رحم النصوص.

    لقد باتت هناك حاجةٌ ملحّة ومستعجلة لنقد حقيقيٍّ وصارم له هاجس الانتماء إلى هذا الراهن الشعري، يدرس خصوصيّاته، ويُقايس إضافاته النوعية ضمن تيار الحداثة الشعرية، ويكشف ما يتحكّم به من قوانين وأسئلة متنوعة ومركّبة.

س: هل يمكننا أن نأخذ بالراهن لوضع خارطة الشعر المغربي؟

  • نأخذ بـ (الراهن) إذا كان يسعفنا في الإلمام، ما أمكن، بخارطة الشعر المغربي اليوم، في اللّحظة التي يُصنع فيها مجهول معناه مأهولاً بدم الذوات ومداد الخطابات اللّذيْن يُهرقان  ـ ساعتئِذٍ ـ مستأنِفيْن الوعد بلغة الشعر وحداثته، عبر شتّى ترحيلاته ومكابداته بين الحضور والغياب، الذّاكرة والنسيان، النظام والفوضى. لهذا من البطلان القول باستقراء الراهن استقراءً تامّـاً، طالما أنّ مجهوله أكثر من معلومه، والمتحقّق أكثر من ممكنه. الراهن هو ما انتهى إليه زمن الكتابة في الشعر، في سيروراتٍ متشعّبة ترفد أكثر من معنى، أكثر من تاريخ؛ وهو، بهذا المعنى، ما يفتأ يتغيّر ويتحوّل، بحيث يستمرُّ في التشييد وإعادة البناء الذي لا يكلّ، شبيهاً بذلك التوتُّر الدائم الذي لا يهدأ بين الحاضر وما هو ضد الحاضر لأجل أن يظلّ الحاضر مغايراً. هذا ما يجعل من الراهن مفهوماً أساسياً يرجح، بنسبةٍ كبيرةٍ، العمل به واختباره.

س: لكن الراهن لم يعد يعني جيلًا بعينه؟

  • يسوقنا هذا الاعتبار إلى القول إنّ الراهن لم يعد يعني جيلاً بعينه، وإنّما تخلقه وتتفاعل داخله تجارب ورؤى وحساسيّات مختلفة، متمايزة وغير متجانسة في تصوُّرها للفعل الكتابي وتدبُّر طرائق إنجازه، بحكم تنوُّع مصادر العمل الشعري لدى الشعراء، واختراقاتهم المعرفية والجمالية لآفاق أخرى من الكتابة.  لقد صار كلّ جيلٍ شعريّ من أجيال القصيدة المغربية الحديثة، الممتدّة لخمسة عقود، يطبع قطاعاً نوعيّاً من جسدها الفتيّ بهويّته وأسلوبه ولغته وإيقاعات ذاته، أي بخصوصيّته حالاً ومآلا. لا يُفترض في الخصوصية أن تكون تحوّلاً أو ضرباً من القيمة المضافة، بل وجود كتابة أو حساسيّة أو رؤية من نوع ما، خاصّ ونوعيٍّ، تكرِّس قيمة من قيم التحديث المختلفة، وتعمل خارج السائد والمجمع الذي يشدُّ راهن الشعر إلى صيغ وأنماط وأشكال مطروقة، فيخذل زمنه.

س: سأعود بك إلى الشعر المغربي، هل فعلًا راهنيّته تصغي للمتحول فيه غالبًا؟

  • في راهن الشعر المغربي نُصغي إلى هذه الحداثة، المتحوّلة باستمرار. تتبلور متخيّلاتٍ جديدة، وترتجف شُرَف الأيدي بالقول الذي يُمضي سؤاله الخاصّ في هذه اللحظة بالذّات، من أيْـدٍ ترعى ملكوت الأشواق إلى أيْـدٍ تتوهّج في العبور، وهي جميعها لشعراء من أراضٍ وأوفاقٍ وحساسيّات مغايرةٍ ترتاد أفقاً شعريّاً، وتفتح في ردهاته وعياً جديداً بالمسألة الشعرية برُمّتها. من أواخر الثمانينيّات إلى اليوم، أمكن لنا أن نتبيّن الملامح النوعيّة والجديدة التي تتفاعل في الراهن الشعري، وقد تأثّرت بعوامل سياسية وسوسيوـ ثقافية متسارعة وضاغطة، محلّياً وعربيّاً وعالميّاً: (أحداث 84 و90 التي فجّرها واقع القمع والظلم بالمغرب، سقوط جدار برلين، حرب الخليج، انهيار الإيديولوجيات الجماعية، صعود التكنولوجيات الجديدة، إلخ).

 س: لكن هذه الراهنية لم تواكبها حركة النشر التي تشهدها الساحة الشعرية المغربية؟

 لقد شهدنا، خلال هذه المرحلة، حركة نشر ملحّة ومطّردة للشعر المغربي بكلّ أشكاله وتعبيراته، فتضاعف الإنتاج الشعري بشكلٍ لافت. كما ارتبط الارتفاع الكمي للإنتاج الشعري المغربي بديمومة توسًّع بنية منتجي الأعمال الشعرية، حيث انتقل عددهم من أقلّ من المائة شاعراً إلى المئات، بما في ذلك حضورٌ لافتٌ للصوت الشعري النسائي الذي رفد خطاب الشعر المغربي بمتخيّل جديد ووشمه بتلويناتٍ وصيغ وتعبيرات كان في حاجةٍ إليها، بحيث إنّ عدد المجاميع الشعرية بصيغة نون النسوة لم يعد يُعدّ على رؤوس الأصابع، ولا رؤرس الأشهاد حتّى. ونعوز هذا الارتفاع إلى ازدياد دور النشر، وتعايش مختلف الأجيال الشعرية جنباً إلى جنب، وظهور قصيدة النثر التي بدت وسيلة تعبير الجميع حتّى لمن هم خارج تصنيف الشعراء.

  كما امتدّت جغرافية الشعر المغربي لتشمل هوامش وأطرافاً جديدة، ومنافي بأوربا والولايات المتحدة وكندا. ولم يعد لسان الكتابة الأدبية، شعرها ونثرها، محصوراً في لغات كالعربية والأمازيغية والفرنسية، بل تعدّاها إلى لغاتٍ أخرى، أوربية تحديداً. ذلك ما فجّر المركز وعرّض وظائفه وتسمياته لتهوية غير مسبوقة، مما ترتّب عنه مراجعاتٍ فكرية وجمالية لا يزال النقد معطَّلاً عن إظهارها وتقويمها. ومنذ بدايات التسعينيّات من القرن العشرين، كان انتظم عدد من الشعراء في حركات وجماعات شعرية طرحت قضايا معرفية مغايرة في كراريسها وخراطيشها الرمزية (إسراف، أصوات معاصرة، الغارة الشعرية، البحور الألف، مكائد، دبُّـوس، المركب الشعري، كراريس تيزي للتداول الشعري)، وظهر إلى الشطح هيئات أدبية وثقافية جديدة تعنى بالشأن الشعري، مكمِّلة لاتحاد كتاّب المغرب لسان حال الأدباء الوحيد إلى ذلك الوقت، أو خارجةً عنه بما يُشبه الاحتجاج وعدم الرضى لواقع الأزمات التي كانت تضرب الاتحاد بين الفينة والأخرى، ولعلّ نذكر من جملتها: (بيت الشعر، رابطة أدباء المغرب، منتدى الديوان، جمعية الشعر المغربي المعاصر، صالون الأدب المغربي، إلخ)؛ فضلاً عن المهرجانات الشعرية التي تُقام باطّراد في المركز والهوامش، وتأسيس جمعيات الشباب الباحثين والمحترفات ومراكز البحث برحاب الجامعة المغربية التي بادرت إلى دورات ومحاور دراسية لمساءلة أوضاع الشعر بالمغرب، ومشاركة نخبة موسعة من الشعراء المغاربة في مهرجانات شعرية دولية، وبروز ترجمات للشعر المغربي الحديث والمعاصر إلى أهمّ لغات المعمور. لكلّ هذه الاعتبارات، نقول إنّها بصدد سيرورة تحديث، أو مرحلة انعطافٍ نوعيٍّ وكمّي بارز في مسارات الشعر المغربي الحديث ووجه ثقافتنا المعاصرة.

س: في هذه السياق، ما هي الأشكال الشعرية التي تهيمن على راهننا الشعري؟

  • يتقاسم أفقَ الراهن، بدرجةٍ وأخرى، نمطا قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، فيما انحصر نمط القصيدة العمودية في فضاء مناسباتٍ قومية ووطنية معيّنة وآنية، بسبب ما يفرضه ذلك النمط من إشباع ثابت ولا واعٍ لوجدان الجماعة. وبدا يثبت، باستمرار، أنّ قصيدة النثر باتت لسان حال الشعراء الجدد الذين لا يُخفي قطاعٌ كبير منهم تهافته على كتابتها، بغير علم أو عن حسن نيّة إذا جاز القول. من هنا، لا يخفى على المتتبّع للحركة الشعرية الواقع الطاغي الذي أخذت تحتلّه قصيدة النثر التي تعني كلّ شعر خارج شرط الوزن والقافية، حتى وإن كان كثيرٌ من نماذج هذه القصيدة لا يرتقى، كتابيّاً، إلى مستوى الشعرية.

    وإذا كنّا نجد شعراء من أجيال متعاقبة، بما في ذلك جيل الستينيّات الريادي، ينتمون، فكريّاً وجماليّاً، إلى هذا الراهن، فإنّا وجدنا أفراداً من الجيل نفسه لا يكتبون بسويّةٍ واحدة، ولا يجمع بينهم فهْمٌ محدّد للعمل الشعري، ووجدنا أفراد الجيل والجيلين يشتركون في هذه الخصيصة أو تلك، ويتنازعون هذا البعد وذاك. ولا شك أنّ ذلك ممّا يُغني الشعر المغربي ويصنع حيويّته، بالقدر الذي يعكس من خلاله صراعاً ضمنيّاً بين حساسيّاتٍ وجماليّاتٍ متعارضة. هكذا، ينحدر شعراء الراهن من جغرافيّات وتُراثات ومرجعيّات متمايزة في كتابتهم للقصيدة، فلا يجمع بالتالي بينهم تصوُّر محدّد لتدبُّر آليات عملها. في الراهن الشعري، لم يعد شاعرٌ محسوباً على جيلٍ بعينه، بل صار منتمياً إلى مغامرة الراهن، وحساسيّته، ومعركته كذلك. فالشاعر محمد السرغيني لم يعد ستينيّاً، ولا محمد بنطلحة سبعينيّاً، ولا وفاء العمراني ثمانينية؛ بل إنّهم أبناء راهنٍ يتمّ هنا والآن، شرعيّون وذوو حظوة وشأو. وإليه ينتسب شعراء الحساسية الجديدة، والمهجريُّون أنفسهم.

س: ما هي الإضافة التي أتى بها كتابك "في راهن الشعر المغربي"؟ وهل لامس بالفعل سؤال الشعر؟

  • هذه الدراسة، بمقترباتها ومداخلها القرائية، منفتحةٌ على راهن الشعر المغربي، إذ عالجته كسؤالٍ وإبدالٍ يتمُّ في الحداثة وعنها في آن: من شاعر إلى آخر، ومن تجربة إلى أخرى، ومن جيل إلى حساسية. من ثمّة، لم تنغلق على أجوبةٍ مطمئنّة تحوّلت، مع الوقت والتداول المكرورين، إلى حجاب. وبقدر ما كان لدى الدراسة هاجس الانتماء إلى هذا الراهن الشعري، بقدرما كانت تدرس خصوصيّاته، وتُقايِس إضافاته النّوْعية ضمن تيار الحداثة الشعرية، وتكشف ما يتحكّم به من قوانين وأسئلة متنوّعة ومركّبة. فالراهن، في تصوُّرها، هو ما انتهى إليه زمن الكتابة في الشعر، في سيروراتٍ ومحكيّاتٍ ومتوالياتٍ متشعّبة ترفد أكثر من ذات، أكثر من معنى، أكثر من تاريخ، وهو ما يفتأ يتغيّر ويتحوّل بقدرما يستمرُّ في التشييد وإعادة البناء الذي لا يكلّ، شبيهاً بذلك التوتُّر الدائم الذي لا يهدأ بين الحاضر وما هو ضد الحاضر لأجل أن يظلّ الحاضر راهناً ومغايراً. هذا ما جعل من الراهن مفهوماً أساسياً كان العمل به واختبار فرضيّاته واجباً في القراءة والإصغاء؛ لكن من البطلان القول باستقراء الراهن استقراءً تامّـاً، لأنّ مجهوله أكثر من معلومه، والمتحقّق أكثر من ممكنه.

   س: وأنت تصغي إلى المسألة الشعرية بالمغرب، كيف قاربت قضاياها ونصوصها ومتنها المتراحب منهجيًّا؟

  • حرصنا على أن يكون وعينا بالمسألة مُصاحَباً باشتغالٍ نظريٍّ، فقد عملت الدراسة، طوال فصولها الخمسة، على توسيع المتن الشعري لدراسته وتأمُّل القضايا النصية والجماليّات الجديدة التي يقترحها عليها، منذ بعد الثمانينيات وإلى الآن، وهي التي لم تخذل مسار التحديث، وكرّست وعياً جديدة بالمسألة الشعرية برُمّتها، بعد أن رفعت عنها السياسي والإيديولوجي، ويمّمت بوجهها شطر المغامرة، حتّى أنّ ما كان مُتخفِّياً ومأمولاً يصبح أكثر حضوراً في تجربة الراهن. ولم يعد الراهن، كما بدا لنا، يعني جيلاً بعينه، وإنّما كانت تخلقه وتتفاعل داخله تجارب ورؤى وحساسيّات مختلفة، متمايزة وغير متجانسة في تصوُّرها للفعل الكتابي وتدبُّر طرائق إنجازه، بحكم تنوُّع مصادر العمل الشعري لدى الشعراء، واختراقاتهم المعرفية والجمالية لآفاق أخرى من الكتابة. ولقد صارت فاعليّة القصيدة المغربية الحديثة، الممتدّة لخمسة عقود، تدرك أن تحديثها يطبع قطاعاً نوعيّاً من جسدها الفتيّ بهويّته وأسلوبه ومعناه ولغته وإيقاعات ذاته، وقد تأثّرت بعوامل سياسية وسوسيوـ ثقافية متسارعة وضاغطة.

    لهذا الاعتبار المنهجي، تبنَّيْنا بدل مفهوم الجيل مفهومَ الحساسية، كأداة إجرائية في قراءتنا لنصوص تلك الفاعليّة الشعرية، باعتبار أنّ الحساسية نتاج سياق سوسيوثقافي ضاغط تستجيب لمؤثّراته وتتفاعل معه باستمرار. وكان تحليلنا لمفهوم الحساسية يتركّز على بيان أثر الإبدالات الجمالية التي طالت فضاء القصيدة الحديثة، أو تلك التي اعترت المادة الشعرية في نصوص الراهن باعتبار اجتهاداتهم واقتراحاتهم النصية ووعيهم باشتراطات الزمن وتاريخيّة الكتابة فيه. وهذه الحساسية ليست حكراً على الشعراء الجدد، بل يكتب بها وداخلها شعراء يقدمون إلينا من أجيال وتجارب سابقة، وهو ما يُمثّل حافزاً وعبئاً إضافيّاً على الاستمرار في رهانهم الجمالي على تحديث الشعر المغربي، بلا ادّعاء القطيعة أو وهم "قتل الأب". 

   ويحقُّ لنا، بعد عقّدٍ ونيف من الزمن الذي عبرناه من الألفية الثالثة، بتطلُّعاته وزلازله، أن نتكلّم عن ألفيّةٍ شعرية مغربية جديدة بما للزمن من استحقاقاتٍ، تأتي عبر ما تراكم في مجال النّوع الشعري والإضافات التي يشهدها الشعر المغربي بوصفه اليوم شعرَ أفرادٍ وليس شعر أجيال، من حساسيّة إلى حساسيّة. كما يحقّ لنا أن نحتفي بانخراط ندائهم الصادق، وإن خافتاً، في تحديث هذه الشعر والرقيّ بجماليّاته المختلفة، بلا تجميلاتٍ وكثير ادّعاء.

   وحسب الدراسة، ضمن دراساتٍ أخرى تتمّ في الأفق نفسه، أن تكون قد ساهمت في التأريخ لوعي الممارسة الشعرية الحديثة بالمغرب، ولملمة إبدالاته ومفهوماته الجديدة في القصيدة العربية وعبرها، مثلما تكون قد حلّلت جوانب من الوضعيّة الملتبسة والمعقّدة التي يجتازها شعرنا في وقتنا الراهن. ويبقى الراهن راهناً.

*جريدة (رسالة الأمة)، العدد 9916، الأربعاء 28 يناير 2015.

(14)

رغم كل شيء مازلت أومن بضرورة الشعر

حاورته: يسرا فرزاز

س: كيف ترى قرار حجب جائزة الشعر لهذه السنة، هل هذا يعني موت هذا الصنف الأدبي، أم لم يعد هناك شعراء يستحقون هذه الجائزة؟ أم ماذا؟

  • مثل الكثيرين أتساءل بدوري، لماذا حجِبت جائزة الشعر من جوائز المغرب للكتاب هذه السنة؟ أعتقد جازما أن الأمر لا يعود إلى أن لا شعر في المغرب، وأن الذين ترشحوا للجائزة ليسوا بشعراء، فهذا انطباع سيء للغاية ومضلل؛ بل أكاد أجزم أنه يعود إلى أن جزءا من مشهدنا الثقافي والأدبي مريض ومصاب بفقر الدم نتيجة تحكم بعض فاعليه من الحرس القديم واستبداديتهم في تدبير الشأن، ونتيجة تسيد قيم رديئة كرسوها، منذ وقت ليس بالقصير حتى صارت أعرافا مجمعا عليها. لهذا أخشى أن يحجر يوما على الفكر المغربي، والمخيلة المغربية، فالحجب بداية الحجر.

بمنأى عن السجال الذي أثاره الحجب، أعتبر القرار الذي اتخذ مؤلما لنا كممارسين ودارسين لشعر مغربي، ماأزال أعده يتيما في مواجهة العماء الذي يواجه به في زمن غير شعري.

س: بدأنا نلاحظ في الآونة الأخيرة تدفق الإصدارات الشعرية بشكل لافت، كشاعر وناقد كيف تفسر هذه الظاهرة؟ وهل جميع هذه الإصدارات تخضع لقواعد الشعر والملكة الشعرية، بما في ذلك قصيدة النثر التي تتطلب شروطا مثل الإيجاز والتوهج ؟

  •  للأسف، الظاهرة أشبه بحفلة تنكرية كبيرة. وإذا صادف أن غاب أحدهم، لسبب قاهر أو آخر، عن المشهد الشعري وعاد إليه، فإنه سيعيش غربة مضاعفة: غربة داخل مجتمعه، وغربة بين جيش من "الشعراء" الذين تضخم عددهم بصفة زادت عن "الدخل القومي للأفراد" وأربكت توقعات "المندوبية السامية للتخطيط"، ولا أعرف إن كان ذلك حلا مناسبا لتحقيق "الردع النووي" وتوازن الرعب بينهم وبين المتملصين من أداء الضريبة؟

إن أكثر ما ينشر لا علاقة له بالشعر، والأخطر أن يصير هذا "اللاشعر" قاعدة ميسرة يتلقفها قراء ومشاريع موهوبين قادتهم المصادفة أو ضربة الحظ إلى هذه المجاميع الورقية التي يعنى فيها بكل شيء (الصورة، الخط، الورق..) إلا أن يكون شعرا، وربما الذي ساعد في اتجاه هذا الوضع هو دور النشر "الارتزاقية" التي تتعامل مع الكتاب كسلعة ومع صاحبه كدافع للأجر فوريا، ولا يهمها إن كان ما تنشره شعرا أم "خطا دمياطيا" لضرب الكف. فلا لجنة قراءة لدى معظمها ولا هم يحزنون.

 لكن الذي يضيع ليس المال، ولا الضريبة غير المؤداة، بل الشعر الذي أسيء فهمه، ولاسيما قصيدة النثر، هذا الفن الصعب الذي استسهله عديمو الموهبة ومزقوه كل ممزق.

س: بما أنكم تحدثتم في كتابكم الذي جرى توقيعه، أخيرا، بالمعرض الدولي للنشر والكتاب، عن راهنية الشعر والحساسيات الجديدة، ماذا أضافت قصيدة الجيل الجديد للشعر المغربي؟

  • بخصوص الجيل الجديد، أتحدث عن كوكبة من الشعراء الجدد توزعت بين ألفيتين، إلا أنه من التعسف أن نجمع أفرادها داخل جيل أو نحجرهم على تصنيف عقدي كما كان جاريا من قبل. إنها ممتدة بصمت، وأوسع من أن تتأطر داخل مفهوم مغلق ونهائي مثل مفهوم الجيل، ومافتئت تكشف عن أثر التغير الذي يحدث باستمرار. ولهذا آثرت أن أتحدث عما يصطلح عليه بـ(الحساسية الشعرية الجديدة)، بسبب ما خلقته من جماليات كتابية مغايرة عكست فهما جديدا لآليات تدبر الكيان الشعري، مما يمكن للمهتم أن يتتبعه في دواوين شعرائها، التي شرعت في الظهور، منذ أواخر التسعينيات من القرن المنصرم.

وهذه الحساسية تظهر لنا حبلى بالانعطافات التي تحفز شعراءها على التحرك الدائم في جسد التجربة وأخاديدها، لا يرهنون ذواتهم لإيديولوجيا أو ينضوون تحت يافطة بارزة، وهو ما يعني صعود حساسية، حساسية جديدة. إنها تكشف عن كونها كناية عن اختلاف في تشكلات الرؤية الإبداعية، أو في تصورها لأفق الكتابة الشعرية برمتها.

أما بالنسبة إلى ما يمكن أن يكون إضافات قدمتها للقصيدة المغربية، فإنه يحسن بنا أن نشير إلى أهم ملمح ميزها وهو نزوع النفر الكبير من شعراء الحساسية الجديدة إلى الرؤيا التي تعنى باكتشاف العالم ومواجهته، عوضا عن الموقف المباشر من السياسة والأخلاق والقيم، وهو ما عبر عن تحول في الحس الجمالي، وفي مفهوم الذات والنظر إلى العالم، وفي تقنيات التعبير الفني للقصيدة.

وهكذا استقرأ من خلال المتن الشعراء لشعراء هذه الحساسية السمات التالية: الاهتمام بالذات في صوتها الخافت والحميم، وهي تواجه بهشاشتها وتصدعها الأشياء والعالم واختلاطات الحياة اليومية؛ النزوع المستمر إلى بساطة القول الشعري والانفتاح على السرد وجمالياته البانية؛ الاعتناء بكتابة الشظايا وأسلوب فقراتها الشذري؛ إدخال اللغة الشعرية في شبكة علائق معجمية ونظمية وتخييلية غير مألوفة راحت تقلب نظم بناء الدلالة وطرائق شعرنتها، والاهتمام بهوامش الجسد الأنثوي وفض مسمياته المختلفة من خلال رؤيات متنوعة ودالة، وداخل صيغ أسلوبية تراوح بين الرومانسي والإشراقي والسوريالي.

س: وضعتم في الكتاب مقارنة بين تجربتين لجيلين، فتحيزت للجيل الراهن، لماذا هذا التحيز؟

  • أبدًا، ليس هناك تحيز. إنما الكتاب يشيد بعمل أجيال القصيدة المغربية الحديثة، غير أنه يركز على منجزها الراهن الذي قدمه شعراء من أجيال وحساسيات ورؤى مختلفة في العشرية الأخيرة. بموازاة مع ذلك، وقفت على شعر الحساسية الجديدة وأكدت أنها لم تكن لتجنب ما سبقها، بل هي تراكم لتجارب متتالية في سياق هذه القصيدة وتطور أواليات بنائها المعماري، بقدر ما هي تجاوز لها باستمرار.

   وهكذا، بحكم إشكالية الكتاب وأفقه الجمالي، راهنت على دراسة متن متراحب لشعراء وشواعر يصل بين نهايات القرن المنصرم وبدايات الألفية الثالثة، ضمن إبدال "الحساسية" الأكثر انفتاحا ومرونة، بل استيعابية، ما دام يخول استدماج مختلف فرقاء الشأن الشعري (قدماؤه ومحدثوه، شيوخه وفتيانه، مقيموه ومغتربوه، رجاله ونساؤه)، أي مختلف الأصوات الشعرية التي تسهم في صياغة اللحظة الشعرية المغربية الراهنة، مثلما يساوي بين الأسماء المكرسة والأخرى الوليدة بمنأى عن أي اعتبارات غير شعرية.

س: ألم يكن للجيل السابق من الشعراء "الرواد" الفضل في ما وصل إليه شعراء الجيل الجديد من تطوير للقصيدة وانفتاحها على مختلف القضايا؟

  • يساء فهم عبارة "الحساسية الجديدة"، وقد تبدو مهينة لدى البعض، لأنهم يعتقدون أن هذا التصنيف يتضمن إلغاء أو تشويشا على "الشعر كما كتبه السلف" قديمه وحديثه. لا شك في أن هناك تجددا في الكتابة الشعرية، منذ أواخر التسعينيات على الأقل، ولا ينحصر رواد هذا التجديد في مجلة أو في جماعة أو في أفراد ملهمين من أرض دون غيرها.

  فقد استفاد ممثلو "الحساسية الجديدة" من أسلافهم الذين كان بعضهم لامعا وغير متوقع، وأنا مصر على التنويه بهم. كما استفادوا من أسلاف أقل شهرة أو تجديدا، لكن ساهموا بدورهم في التعريف بالشعر والانتصار له في زمنهم؛ بل الأخطر في الأمر، والأكثر دلالة حقا، هو أن تجد من الأسلاف من لا يزال قادرا على التجدد باستمرار، ويمثل عامل تحفيز حقيقي لـ"حساسية جديدة" ما كانت ترسخ لولا استبصارهم وتسامحهم ونفاذ رؤيتهم.

   ومن المهمّ أن نشير، هنا، إلى أن الحساسية الجديدة ليست حكرا على الشعراء الجدد، بل يساهم فيها أيضا شعراء من أجيال سابقة (محمد السرغيني، محمد بنيس، محمد بنطلحة، حسن نجمي، مبارك وساط، وفاء العمراني وصلاح بوسريف) تمثيلا لا حصرا.

   بل يمكن القول إن نتاج هؤلاء الرادة الذين يقدمون إلينا من أجيال وتجارب سابقة، يمثل حافزا إضافيا لشعراء تلك الحساسية على الاستمرار في رهانهم الجمالي على تحديث الشعر المغربي، بلا ادعاء القطيعة أو وهم "قتل الأب". فالشعراء الجدد في تلقيهم للتراث الشعري، القريب والبعيد، إنما يلجأون إلى دمجه في ذواتهم ورؤاهم، فلا يحولونه إلى علاقة ستاتيكية تؤدي إلى بتر الحساسية وإلى جمود اللغة وميكانيكيتها، وهو ما قد يعيد بناء وجهة نظر جديدة لتاريخنا الثقافي والأدبي في سيرورته وتجدد حضوره بيننا.

س: في ظل التحولات السريعة التي يعيشها الإنسان، هل مازال للشعر مكان عند المواطن المغربي؟ وهل مازال الشعر يقوم بدوره في خدمة القضايا الإنسانية؟

  • رغم كل شيء، مازلت أومن بضرورة الشعر، لأن ثمة ما يعزز اقتناعنا بقيمة الشعر في عالم صار يقل فيه ضوء الشعر، وتقل معه فرص الحياة الجميلة والمحلوم بها على حواف عالم ما فتئ يغرق في ماديته الشرهة، ولأن ثمة ما يدعونا للكشف والخلق والحوار وتبادل حر للأفكار والأحلام عن طريق الكلمة الشعرية، بقدرما ما يدعونا إلى التأمل في مكامن قوة اللغة وإلى الإصغاء لتفتح الملكات الإبداعية لكل الذوات وهي تبتهج وتتوهج في الشعر وبه.

  وفي المجال المغربي، تقل فرص اللقاء بالشعر، بحكم سياسات الإقصاء ضده في برامج الإعلام والتعليم، ومناخ التسطيح والفلكلرة الذي يطغى على نشاطات اليومي والآني.

س: يقول الشاعر محمد بنيس في شهادة عن عبد اللطيف الوراري إنه "متمكن من العربية ومن الشعر ومعارفه". كناقد ومثقف، فكيف ترى واقع اللغة العربية الفصحى عند المغاربة؟

  • غير راض، شأن كثير من الناس، عن واقع اللغة العربية في المغرب، الذي يزداد سوءا بسبب تغلغل اللغات الأجنبية.

   بالمناسبة، كنت دعوت قبل نحو عام إلى عريضة وقع عليها عشرات المثقفين المغاربة "من أجل الدفاع عن اللغة العربية وتعزيز مكانتها في الفضاء العام"، ولاقت اهتماما واسعا. ومن جملة ما أكدت عليه هذه العريضة هو: تعزيز مكانتها في الفضاء العام والمدرسة المغربية، والعمل على الترقية بأطرها اللسانية والمعرفية والتواصلية بصورة تدفع بمجتمع المعرفة إلى مستويات ملموسة ومتقدمة، والتصدي لكل واقع مستجد يمس وضعية اللغة العربية على مستوى المنظومة التعليمية، وفي المجال الثقافي عامة. 

س: بمناسبة اليوم العالمي للمرأة، ماذا يمكن أن تقول عن التجربة النسائية في مجال الشعر، خصوصا أنها أصبحت تتوج في محافل شعرية كبيرة على الصعيد العربي؟

  • لا يمكن أن ننكر قيمة هذه التجربة والطفرة الرائعة التي أقدمت عليها في فترة وجيزة لا تتعدى أربعة عقود من الزمن، ونحن نرصد معالم التطور الذي يعرفه المتن الشعري للتجربة كما ونوعا. في الحقيقة، أمامنا متن شعري نسائي متنوع ومتباين القيمة، قياسا بعامل الموهبة وغنى التجربة وطريقة تدبير قيم القصيدة اللغوية والفنية.

  لكن في العموم، هو شعر جميل ويتأتى جماله من كونه يقر بوجود كتابة شعرية تتكلم صيغة المؤنث ويطبعها النفَس الأنثوي الذي يسري في جسد اللغة ويعيد تهوية مجالها الرمزي، وتسمية كثير من مفرداتها وعلاماتها. فأهمّ ما يميز التجربة هو إحساس المرأة الشاعرة بحريتها في أن تعبر عن نفسها بنفسها بالطريقة التي تريد البوح بها فنيا. وهكذا، نجدها في قصيدتها متمردة، متأملة، نابضة بالعاطفة والشهوة، سائرة بتجربتها في الحياة وبوجدانها الخصب الذي يتكلم عهودا من التاريخ الشخصي الموجع في فضاء الكتابة.

*جريدة (الصحراء المغربية)، الجمعة 13 مارس/ آذار 2015.

(15)

خيار أمام الكُتّاب غير مواصلة مغامرة الكتابة

حاوره: سعيد عاهد

س: ما هي مؤلفاتكم التي أصدرتموها ورقيًّا خلال السنة الماضية، أو التي قيد الطبع، أو هي ضمن مشاريعكم الكتابية؟

  • صدر لي كتابان، هما: «في راهن الشعر المغربي. من الجيل إلى الحساسية» (دار التوحيدي-الرباط، 2014)، و«علي جعفر العلاق. حياة في القصيدة» (دار كنعان-دمشق، 2015). يأتي الكتاب الأول في سياق اهتمامي بالشعر المغربي المعاصر وتتبُّع منجزه النصي والجمالي، إذ هو ثمرة إصغاء وتأمُّل ونقاش حول أوضاع هذا الشعر ورؤاه وجمالياته، وآليات تدبُّره للكيان الشعري منذ ما يقرب من عقدين من الزمن, وانحزْتُ فيه منهجيًّا إلى إبدال الحساسيّة، لأنها أكثر إقناعيّة ومردوداً برأيي من مفهوم الجيل، وهو ما أتاح لي استدماج مختلف فرقاء الشّأن الشعري. وأما الكتاب الثاني فهو عبارة عن حوار مطوّل أُجْري مع الشاعر العراقي علي جعفر العلاق بصفته واحدًا من أهم شعراء الحداثة المعاصرين، بل إنّه يجسد في حد ذاته حوار المشرق والمغرب بين جيلين شعريين مختلفين.

      وقيد الطبع، ديواني الشعري الخامس المعنون بـ«من علوِّ هاوية»، الذي يصدر عن منشورات بيت الشعر في المغرب، بدعم من وزارة الثقافة. وهو عملٌ سعيت فيه إلى «شعرنة» الهاوية بكلِّ إيحاءاتها الدلالية والرمزية من صميم ما نعيشه اليوم من جهة، وإلى تطوير حاستي الشعرية في علاقتها بالذات واللغة والعالم. وبموازاة مع ذلك، ومن أجل توثيق الذاكرة الشعرية ومعرفة سياقات تشكُّلها وانفتاحها، أنجز مجموعة من الحوارات مع أهم الشعراء المغاربة الذين يصنعون، بمختلف أجيالهم وحساسيّاتهم، لحظتنا الشعرية والثقافية في آن. بعض هذه الحوارات يُنشر مستقلًّا، قبل أن تضمَّها أجمعها دفّتا كتاب.
غير أنَّ مشروعي الرئيس الذي أعمل عليه وأنذر له كلِّ وقتي ومجهودي، في هذه الأيام، هو بحثي العلاقة بين السيرة الذاتية والشعر من خلال تفكيك آليات الخطاب السيرذاتي في الشعر العربي المعاصر.
كما أنني أتطلّع إلى كتابة الرواية بعد أن أكون قد فرغْتُ من كتابة سيرتي الذاتية، وأنجزْتُ عبرها قدرًا من التمرينات على الخيال السردي.

س: لماذا يصر الكتاب المغاربة على النشر رغم أزمة القراءة وانحسارها؟

  • أعتقد بأنّه لا خيار أمام الكُتّاب من مواصلة مغامرة الكتابة، حتى في ظل الشروط الحالية المجحفة بحقِّهم. فهم لن يظلُّوا مكتوفي الأيدي حتى تُحلّ أزمة النشر وأزمة القراءة، بل عليهم أن يواصلوا تحريك أطر اللغة والمتخيل وبعث سبل الإبداع حاضرًا ومستقبلًا، وإلا فإنَّ الموات سيحصد أجمل ما نمتلكه من رموز وأحلام وتطلُّعات في هذه الحياة. وإن كانت الأزمة المومأ إليها بنيويّةً تتعدى دور الكُتّاب ونشاطيّة عملهم، إلا أن ذلك لا يُعفيهم عن أن يبتكروا أشكالًا وحوامل جديدة للتلقي والقراءة يستوحونها من وسائط التكنولوجيا الجديدة، تعتمد على قوة التفاعل والجاذبية بدون أن تتنازل، قيد أنملة، عن واجب الكتابة والتزامها في واقعنا المعاصر الأكثر تطلُّبًا إليها اليوم بخلاف ما يبدو ظاهريًّا.


س: هل النشر الإلكتروني بديل لأزمة القراءة والنشر الورقي في المغرب؟

  • لا شيء يمكن أن يُعوِّض شيئًا آخر مختلفًا عنه. إنَّما النشر الإلكتروني يُنظر إليه بوصفه مرحلة جديدة لتدبير شروط القراءة ووضعياتها المتنوعة والمركبة في مجتمعاتنا اليوم. وأنا لست ممّن يدّعون بأنّه بديلٌ عن النشر الورقي، لأنّنا لا نزال نرى المطابع تهدر، بل إن إنتاجها زاد أكثر من ذي قبل، حتى في عزّ نشاط التكنولوجيا وتغوُّلها في الحياة الإنسانية. لنقل إنّهما يكملان بعضهما البعض ولا يتلاغيان.

س: ما مشاريعكم الأخرى ثقافيًّا غير الكتب؟

  • تربية أبنائي، فإنَّ هذا لهو مشروع المشاريع

*نُشر الحوار بجريدة (الاتحاد الاشتراكي)، السبت/الأحد 19/20 شتنبر 2015.

(16)

هجرة الشعراء العرب إلى الرواية "موضة"

حاوره: شادي زريبي

س: عبد اللطيف الوراري الشاعر والناقد كيف يستطيع التوفيق بين المجالين؟

  • هي خبرةٌ تتنامى باستمرار، من أجل أن توازن بين أن تكون شاعرًا وناقدًا في آن. أتى الشِّعر أوّلًا، ثُمّ التحق به البحث في الشعر بعد دراستي الجامعية على يد أساتذةٍ أكفاء. أشعر أنّ هذا اللقاء الذي تمّ بينهما كان ضروريًّا، فبعد الموهبة وشطحاتها لا مندوحة من خبرة ووعي وتأمُّل هي متاع الناقد نفسه. لنقل إنّ هناك تجاوبًا بين الشعر والنقد، هو فعاليّتين تتحاوران في الذهاب-الإياب داخل معماري الكتابي، ولا تقعان على طرفي نقيض. فكل منهما يلبي حاجةً نفسيةً، علاوةً على ما ينهضان به من أعباء المعرفة والتأمل والبحث.

إني أحاول بقدر ما أستطيع أن أحتفظ بالتوازن الخلاق بين الفعّاليتين معًا. كتابة القصيدة تحتاج إلى استغراق شبه كُلّي ينقطع إلى أسرارها وما يفعله دبيبها في الروح والوعي، لكنها لا تنفصل تمامًا عن اشتراطات التي الكتابة تدبّر بؤر تشويشها وتخلّصها من زوائدها، كما لا تنفصل عن خصوصيّات الجنس الذي تنكتب في ضوئه. أما في لحظة الكتابة النقدية فأنا أذهب إلى النصوص وأقترب منها مصغيًا إلى فرادتها وشعريّتها، بانفتاحي على تجربتي ومقروئيتي التي راكمتُها بجوار القصيدة، وعلى أدوات النظرية التي أنتقي منها ما يفيد عبوراتي إلى تلك النصوص ولا يثقل عليها بداعي المنهاجية.

  أنا، ناقدًا، مسكونٌ بالشعر، وبمعرفة الشعر. وبداخلي ثمّة فرح داخليّ، يحركني للكتابة عن هذا الشاعر أو ذاك، وعن هذا الديوان أو ذاك. إنّ الإقامة هي ذلك الذهاب-الإياب الذي أذرعه في عمل الكتابة ومجهولها، وقد تكون على حوافّ الخطر.

س: في بعض الكتابة الشعرية الجديدة نزوع كبير نحو فتح أفق مغاير في الشعر، هكذا هو حال الكتابة الحداثية، كتابة متجدّدة على الدوام، صيرورتها تدميرية بكثير من الرصانة والنضج، كيف ينظر عبد اللطيف الوراري الشاعر إلى الكتابة الشعرية في الوقت الراهن؟

  • أعتقد بأنّ أفقًا جديدًا ومغايرًا يتجه إليه الشعر العربي منذ وقت، وقد صرنا كباحثين ودارسين له نتلمّسه ونعاين منجزه الإبداعي على صعد شتّى، ومن أجيال مختلفة.  ولا أشتطُّ إن قلت إن الشعراء الجدد غدوا يُمثّلون اليوم رؤى وحساسيّاتٍ جديدة، سواء في المغرب أو المشرق، في حقل الكتابة الشعرية. لم تعد مثل هذه الكتابة مُجرّد شكل أو أسلوب، وإنما صارت تحمل محتوىً يعكس فلسفةً ما، وفهمًا خاصًّا للذات واللغة والعالم، إذ يطبعه روح المفارقة، ويقف ساخرًا أو لذوعيًّا أو غير مُبالٍ من حياتنا المعاصرة في شكل ومضات وتشذُّرات تفكّك وهم الواقعي وترصد منطق الخلل الذي يهيمن على تلك الحياة ويطبعها، ولاسيما في واقع عربي يتداعى ويتربص به الخوف والمجهول. 

س: كيف يُقيّم الوراري الشعر المغربي راهنا؟

  • كتبتُ كتابًا بأكمله في هذا الشأن، هو: "في راهن الشعر المغربي. من الجيل إلى الحساسية". وأقول إنّه بعد سنواتٍ من الكفاف والتحرُّج، ومن خطاب الأزمة الذي امتلأت به الأفواه، والتكتُّم على ما كان يحصل فوق "خشبة هاملت" بذريعة محاولات الاستيعاب، يمكن لنا اليوم أن نتحدّث، حقيقةً، عن جملة شعرية جديدة تخترق جسد الشعر المغربي؛ وهي لا تخصُّ جيلًا بعينه، وشكلًا بعينه، وفهمًا بعينه، وإنّما الشعر بحدِّ ذاته.

س: كثيرا من الشعراء ذهبوا إلى الرواية، فهل هذه "موضة جديدة"، أم واقع فرضته المتغيرات؟

  • أجل، ذهبوا إلى تجريب الرواية، وهذا من حقِّهم إن وجدوا في أنفسهم وتجارب حياتهم طاقة لا تتواءم وطبيعة الشعر . لكن أخشى أن يكون الداعي وراء ذلك غير الإبداع، وإنّما الجوائز التي صارت تحظى بها الرواية، أو البهرجة الإعلامية التي تُهلّل بها بحق وغير حق. قد يكون بعض الشعراء نجحوا في كتابة الرواية كفنّ وأضافوا إليها، إلا أن أكثرهم لم يُوفّق في ذلك فضيّع الشعر والسرد معًا.

وفي المقابل، ثمة قلّةٌ من شعراء العربية المعاصرين من بنى هُويّته بالشعر وعبر عزلاته الباهظة، وسواهم قد اصطنعها من خارج الشعر مُتمسّحًا بإيديولوجيا وسلطة ما. لهذا، شئنا أم أبينا، لن يخذل الشعر إلا من خذله وانحطّ بصوته وسط ضجيج الكورال. بدر شاكر السياب أو وديع سعادة أو عبد الكريم الطبال، مثلًا، عندي أهمّ من شعراء الحزب والطائفة والتقنية والمظلومية والمستقبل النكوصي والنقد الشُّللي في وقتنا الراهن.

س: يعيش العالم العربي اليوم ثورات وتغييرات، ماهي تأثيراتها، حسب رأيك، على الساحة الثقافية ومستقبلها؟

  • لمّا انطلقت ثورات ما يسمى (الربيع العربي) من بعض البلدان ابتهَجْنا أيَّما ابتهاج، فقد انطلقت عَفْوًا من حناجر الشباب الساخط ضد الظلم والاستبداد، بلا مُقدِّمات تنظير أو مزايدات. ولقد تأثرت أشكال من الثقافة والفنّ بهذا الزلزال إن إيجابًا أو سلبًا، على المدى القصير أو المتوسط.  وإن كان الربيع الذي ترعرع في الميادين وتدلى من الجنائن، قد احترق عن بكرة أبيه بسبب غياب الحوار عند الطبقة السياسية وإيديولوجيا الخوف التي تشبَّع بها الفضاء العمومي وسط الاتهامات والاتهامات المضادة، فإنّه لا يزال أمام المثقفين، على جميع مستوياتهم وتنوُّع أدوات تحليلهم وتدخُّلهم، أن يساهموا في إنجاح مشروع التغيير ومواصلة الجهود لبناء الديمقراطية التي هي مدخلنا إلى العصر والبناء، فإنّ هذا هو المحكّ والمستقبل.

أما أن تجد الأدعياء يحتلون الفضاء العام ويلغون فيه بأفواههم ويأتون الناس بأعاجيب السحر، فالأرجح أنّ الأمة التي ابتليت بهم إما على شفا هاوية، أو تمر بأزمة وجود حادة لم تلْقَ بعد من يُعْمل فيها مهماز النقد والتحليل.

س: العالم العربي يعرف "عطالة" في المطالعة، ماهي تداعياتها على مستقبل الناشئة، في ظل الغزو التكنولوجي والشبكات الإخبارية ومواقع التواصل الاجتماعي؟

  • أن تجد نفسك وسط أجيال لا تقرأ، فهذه مدعاة للخوف والتفكير في آن. لا أعرف إن كان قدرنا الأنطولوجي أن نعيش، كما أحسنتَ الوصف، هذه العطالة التي يستديمها العزوف عن الكتاب والقراءة في المدارس والجامعات، وفي الفضاء العام.  فعدا التكنولوجيا التي عمقت معضلة القراءة، ثمّة مؤسسات الدولة وهيئات المجتمع المدني التي لا تلتفت إليها إلا موسميًّا وبأجندات عمياء.

وإذا جاز لي التمثيل، يمكن أن أشير إلى تدريس الأدب الذي يعاني بشكل مباشر من هذه المعضلة. فما معنى أن تواجه طالبًا لم يقرأ كتابًا أو قصة في حياته. بلا "مدخلات" ولا يطمع في "مخرجات". قلة من تجدهم طلبة نابهين، متحمّسين، حالمين، يسكنهم الأدب ويتذوّقونه، وكلما سنحت لهم سانحة، في مسابقة وغيرها، يظهرون مواهبهم بثقة وحب، ويدفّون أجنحة خيالهم لأول مرة كفراخ مؤمنة بالتحليق. وتجد بينهم طلبة من "الشعبة العلمية" ليسوا أقل حماسًا منهم، قد زاحموهم في الصفوف الأمامية وأظهروا الأعاجيب، لتعرف أن فكرة "الشُّعَب" كم هي قبيحة، ضالة ومُعوّقة. إن هؤلاء يجعلونك تحلم معهم، ويسافرون بك إلى طفولتك ومراتع صباك الدافئة، ويُشعرونك بأنّك موجود بالفعل. الحلم، التطلُّع والوعي بالكينونة. هل هناك من مستقبل أكثر من هذا؟

س: قصيدة النثر شغلت بال النقاد بين معارض ومناصر، وأحدثت ثورة كبيرة في مجال الأدب. ما رأيك فيها وفي ما يكتب عنها؟

  • لا حاجة لي للقول إن قصيدة النثر فنّ صعب يحتاجه شعرنا أكثر من أيّ وقت مضى، ولكن أؤكد عليه بسبب استرسال العمى الذي يسود كتابتها ولا يرتفع إليها كفنّ زاوج بين الشعري والسردي. فقد باتت هذه القصيدة، للأسف، لسان حال الشعراء الجدد الذين لا يُخفي قطاعٌ كبير منهم تهافته على كتابتها بغير موهبة ولا حدس ولا علم، أو عن حسن نيّة إذا جاز القول . من هنا، لا يخفى على المتتبّع للحركة الشعرية الواقع الطاغي الذي أخذت تحتلّه قصيدة النثر التي تعني كلّ شعر خارج شرط الوزن والقافية، حتى وإن كانت لا ترتقي في كثيرٍ من منجزها الإبداعي إلى المستوى المفترض من الشعرية.

ومن جهة أخرى، لا أفهم لماذا يُطْلب من الشِّعر أن يكون قضيّةَ شكل، فيما هو، أبدًا، مسألة وجود ومزاج حساسيّة راعفة. وإن كان ثمّة من عملٍ أساسيٍّ يتوجّب على الشعراء التفكير فيه فهو بَعْث الأشياء والعناصر والصفات والسُّدُم التي لا لون لها من مهاوي العدم وجادّاته النافرة. بمعنى، أن يُكْتب بالتقسيط الجريح، لا أن تغشاه نداءات باعة الجُمْلة.

س: والنقد المواكب لها؟

  • أسوأ ما يمكن أن يتأذّى منه أدبنا اليوم، بل يصيبه في مقتل، هو "النقد الطائفي" الذي يتغذّى على نعرات الشُّلّة وواجب الاصطفاف الأعمى، وقد أخذ يتنامى باستمرار في الوسط الثقافي والجامعي والإلكتروني، وربّما هذا قد يوصلنا إلى ما يشبه "أصولية" ثقافية وجمالية. ولسوء حظّ قصيدة النثر أنها لم تجد بعد نقدًا طبيعيًّا مواكبًا لتجاربها الحيوية بما يكفي، وهذا ما يساهم في تضييق إمكانات شرط وجودها ككتابة وفنّ وحساسية. 

س: يتابع القراء سيرتك الإبداعية "قصتي مع الشعر" متسلسلة على صفحتك على الفايسبوك. وهل يصح أن يكتب شاعر قصة لم تكتمل بعد؟ ماذا أعطيت للشعر وماذا أخذ منك؟

  • هي قصّتي مع الشعر، وهي لم تكتمل بعد، ورُبّما انتهيْتُ قبل أن تكتمل. لكنّي أردْتُ أن ألتفت خلفي، أن أستعيد شريطًا من لحظات العمر الجميل بتردُّداتٍ تعلو وتخفت، وأن أقيس- بمزيح من الحلم والوهم- تلك المسافة التي سلكْتُها بين العواطف والهواجس وأحلام اليقظة البريئة والفيّاضة التي كانت تنتابني وتهجم عليّ في أحوالي كُلِّها. محكيات، شذرات، صور ومجازات، موسيقى، صداقات ووداعات. كان هذا رأسمالي من بحثي في الشعر، وزادي من المعرفة به والإصغاء إليه. لقد أعطيت الشّعر جزءًا مُهمًّا من حياتي، ومنحني هو معنى أن أنظر وأحس وأنفعل بمن/ ما حولي في الحياة. فلم يكن يعنيني من تلك الصحبة التي جمعتني وإياه إلا أن أكون ذاتي، وأن أراني في مرآة الوجود الذي صار يناديني من بعيد، وعميقًا يحفر في وجداني وأشواقي وإيماني. ألم أقل إن الشِّعر ليس إلّا ذريعة لأنسنة الحياة؟

س: ما جديدك الشِّعري؟

  • يصدر لي عن منشورات بيت الشعر في المغرب مجموعة جديدة هي الخامسة في عمر تجربتي الشعرية، بعنوان: "من علوّ هاوية"؛ وهو عملٌ سعيت فيه كتابتة سيرتي الذاتية شعرًا بما تقتضية من توتر بين الشخصي واللاشخصي، كما سعيت-بموازاة ذلك- إلى «شعرنة» الهاوية بكلِّ إيحاءاتها الدلالية والرمزية من صميم ما أعيشه ويرِدُ عليّ من الواقع، متطلِّعًا إلى تطوير حاستي الشعرية في علاقتها بالذات واللغة والعالم.

  • جريدة (العرب) الدولية، الخميس 25 نونبر/ تشرين الثاني 2015.

(17)

عن الشعر ومآل القصيدة المغاربية الحديثة

حاوره: رامي زكرياء

س: هنالك سجال حول ماهية الشعر نتيجة لتوسع مفهومه من كونه الكلام الموزون المقفى الذي يحمل معنىً محددًا إلى مفهوم أوسع ارتبط اليوم بما يسمى شعر الحداثة، حيث أصبح لكل قصيدة منطقها المستقل. هل تعتقد أن هذا السجال مفيد للرقي بهذا الأدب؟ هل علينا حقًا أن نجد تعريفًا واضحًا للشعر؟

  • لقد ظهر هذا السجال بوضوح أثناء صعود حركة الشعر الحر باعتبارها مُنْعطفًا رئيسيًّا في تاريخ الشعرية العربية، حيث انهار المعمار التقليدي للقصيدة وصار شكلها الجديد مثارًا لشهوة الكتابة المتحررة من لواحق القيد العروضي، والمنفتحة على ممكنات جديدة وتصورات بديلة. لهذا، لم يكن الشعر الحر مع ما تحتمله التسمية من التباس، إلا "ظاهرة عروضية" في بادئ الأمر، وكان لا يزال يجترُّ الإرث الرومانسي ولا يُفارِقه الوعْيُ به، حتى مع رواده الأوائل بمن فيهم بدر شاكر السياب نفسه. لكن المستقبل الذي بدأ يختطه كتابيًا وجماليًا، ويستأنِف به الوعد بحداثة اللغة وحيوية المعنى، كان ظاهٍرًا لدى جيلٍ شعري بأكمله، متمردٍ على التقاليد التي انتهت إليها القصيدة، وتكلست في معتقدها الجمالي.

   فإلى جانب الثورة على الإيقاع التقليدي، وما صاحبَها من تغيرات في البناء النصي، بدأت علاقة الشاعر باللغة تأخذ مناحي وجماليات جديدة من الصوغ والانبناء والتدليل، من خلال الاستخدام الفردي لها، وإعادة تشكيلها خارج طبيعتها الراسخة وأوضاعها القاموسية الثابتة، وهو ما سينعكس، بقوةٍ، على البنية الدلالية للقصيدة وسياقها وفاعليتها في إنتاج المعنى: شعرية الكتابة لا شعرية الإنشاد.

  ويمكن لنا أن نشير، تجوُّزًا، أنه بدأنا ننتقل من بنية العروض حيث هيمنة الوزن وأسبقيته في تحديد مكون الشعرية داخل النص، إلى بنية الدلالة حيث تمَّ التركيز على المعنى وطرائق تمثيله وتشكيله فنّيًا. ولقد ثبت بالتدريج أن جماليات الشعر الحديث تحولت من جماليات انتظامٍ وتجانُسٍ واتّصالٍ ووضوحٍ واستقرارٍ نجمت عن ثبات البيت النمطي والمفهوم البياني للمعنى إلى جماليات لا انْتِظام ولا تجانُس وانقطاعٍ وتوليدٍ وغموضٍ تولدت عن تحوُّلٍ في مفاهيم الكتابة وتراتبيتها في تمثيل الذات والعالم، ومن ثمة في رغبة البحث داخل أعماق التجربة عن معنى جديد وهوية جديدة لأنا الشاعر المعاصر.

  إن السجال كان في معظمه ضدَّ التقليد، وضدَّ سلطة هيمنته على الكتابة كمفهوم وتجربة. وإذًا، فإنّ من السخيف أن نبحث عن تعريف واضح للشعر، وأن نجهد ـنفسنا في البحث عن هذا التعريف، فإن الشعر صار أشبه بمتاهة من أضلاع بلّورية لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد على نحو أشقّ وأبلغ.

س: هل استطاع الشاعر المغاربي التحرر من قوقعة الأيديولوجيات في نصه الشعري؟

  • دَعْني أوّلًا أؤكد أنّه لا يجوز فصل الشعر المغاربي عن الشعر المشرقي، فكلاهما ينتمي إلى خارطة الشعر العربي بجذوره ومؤثراته وامتداداته وجمالياته سواء بسواء، وأنّ الشاعر في هذا الرقعة أو تلك تشغله هموم تحديث نصّه الشعري وربطه بروح العصر الذي يحياه، دون أن يعني ذلك غياب خصوصيات ما ليس بين شعر وشعر فحسب، بل وبين شاعر وآخر حتى داخل الشعر نفسه.

في وقت سابق، كان شعراء يُشخِّصون الصراع، المعلن وغير المعلن، بين السياسي والثقافي في الشعر العربي الحديث، فكانت الموضوعات القومية والاجتماعية ضَغْطًا متصاعدًا على نصوصهم الشعرية، وهو ما رهن الشعري بـالأيديولوجي داخل حُمّى الاهتمام بجماليات الأدب الواقعي. لكن سرعان ما أحس الشعراء، بعد هزيمة 67، بالخيبة والإحباط والشعور بالفاجعة التي أحرقت الرموز الواعدة بالبعث الحضاري، وبلا جدوى خطابات الإجماع الكاذب. فأخذوا يشرعون في كتابة نص العصيان مُسْتأنسًا بعزلته وراضيًا بمنفاه الاختياري ضد المجمع عليه، وضد الولاء الذيلي للساسي وللإيديولوجي بمعناه الضيق.

لم تعد الحرية تعني لديهم الالتزام العضوي بقضايا المجتمع، بقدرما ما باتت تعني أن يخلق كل فرْد عالمه ومداه، لكي يظهر إبداعه ويمارس حضوره المفترض.

  لهذا السبب، تحوّلوا، في رؤيا الشعر، إلى شعراء فردانيّين وبالغي الهشاشة، يبحث كل منهم عن حريته بمعزل عن العالم، وعن سلطته الخاصة داخل كوكبةٍ من الرموز الفالتة من كل عقال. صارت الذات إحدى أهم شذرات الحداثة الشعرية الأساسية لصالح أن يكون الشاعر بمفهوم الفرد المعزول، وليس للقصيدة من هاجس سوى وجودها الذاتي. الترحال في اليوتوبيا، وما من يوتوبيا إلا داخل الذات.

  لكن إذا كانت ثمّة من أيديولوجيا، فهي ما يتحرك داخل القصيدة ويُبْنى داخلها بمعزل عن الدوكسا.  ثمة سياسة ما في القصيدة، متحولة سرعان ما تنهض من الركام أو الفراغ في عمل التأويل. تلك السياسة التي بمثابة الحركة التي تهجع في رحم القصيدة، وتحملها على أن تكون الراهنية الدائمة للغة الخاصة، المهددة أكثر، والحيوية أكثر. وهي، ككل عمل أدبي، ليست القصيدة سوى نوع من اليوتوبيا، من خلالها نرغب في أن نبني عالمًا بديلًا يطفح بالحب والأمل، ويرشد إلى عدالة أكبر.

س: عن ماذا تتحدث القصيدة المغاربية اليوم؟

  من خلال صعود الوعي أو المفهوم الفرداني للشاعر، فقد انصرف أغلب الشعراء المغاربيين مثل مبارك وساط وحسن نجمي ووفاء العمراني ونبيل منصر ومحمود عبد الغني (المغرب)، محمد الغزي ومنصف الوهايبي وعبد الوهاب الملوح وفوزية العلوي (تونس)، بوزيد حرز الله وزينب الأعوج وأبو بكر زمال وعمار مرياش (الجزائر)، عاشور الطويبي وصالح قادربوه وصابر  الفيتوري وخلود الفلاح (ليبيا)، عن المعضلات التاريخية والسياسية، وعكفوا بدل ذلك على اليومي والآني والعابر في ما يعج من تفاصيل وتيمات مادية وحيوات بسيطة وقريبة، مرتفعين بأجسادهم وانفعالاتهم واستيهاماتهم وعلاقاتهم وسيرهم البيوغرافية إلى درجة الغائية التي بدت كأنها التزامٌ جديدٌ غير الالتزام الأيديولوجي الضيق الذي ولى إلى غير رجعة.

*مجلة "رسائل الشعر"، العدد الخامس، يناير/كانون الثاني 2016، ص 94-92 ضمن ملف خاص بالشعر المغاربي المعاصر.

(18)

"سياسويّون" يتوجسون من الفعل الثقافي

حاورته: سومية ألوكَي

س: كيف كانت بدايتك مع الشعر والأدب؟

  • منذ دلفتُ إلى العالم، كنت أرسم على الأبواب والحيطان بالفحم أو الجير، وأقرأ الرسائل التي ترِدُ على الأهل من بعيد، وأحيانًا أجتهد في كتابة بعضٍ منها، بخوْفٍ وزَهْو. وكنْتُ أطالع بحماسٍ ما تقع عليه عيناي من مِزَق الصحف والمجلات التي كانت تقذفُ بها الريح إلى القرية، أو ممّا كانت تُلفُّ بها الحوائج المجلوبة من السوق الأسبوعي، وأجدُ في ذلك إمتاعاُ ينمّي شعوري ويقدح مخيّلتي. في المدرسة، واجهْتُ لأوّل مرّةٍ نصوصًا من الشعر في مادة المحفوظات، وتفتّقتْ موهبتي في موضوعات الإنشاء التي كنّا نُؤْمر بإنجازها. أخذت علاقتي بالشعر تتوطّد من سماعه وقراءته بين برامج إذاعية وملاحق ثقافية. أذكر أنّي اقتنيْتُ بعض أهمّ كتب الرومانسيين، وكنْتُ أعتكفُ، طوال عطلة الصيف، على قراءتها بنَهمٍ كأنّي أبحث عن سرّ أو معنى ما، حتّى سمعْتُ من بعضهم أنّ ولد عبدالله به مسٌّ أو قد جُنّ. لقد فعلت فيّ هذه الدواوين فعل السّحْر، وقدحت ذهني، ووشمت وجداني، فصارت رؤيتي ـ نتيجةً لمقروئيّتي ـ رومانسيّةً وحالمةً ومتفائلةً. ومع ذلك، كانت حدود وعيي بالشعر لا زالت غائمة ومضطربة، بموازاة مع النزوع المدرسي الذي كان يُشيِّئ القصيدة ويُسطّح عمقها اللغوي والمجازي إلى حدٍّ فادح. مُعلّقات، قصائد ومقطوعات شعرية كانت تمرُّ أمامي عيني بدون أن تُثير فيّ إحساسًا، ولا أن تحملني إلى مسافةٍ أخرى من الجمال والذوق. فقد كان مدرّسو العربية يتأفّفون من الشعر ويُكنّون عداءً خفيًّا إزاءه، ولهذا كانت حصة الشعر ثقيلةً ومُملّة وبلا معنى يُذكر، وبسبب ذلك غدا أقراني، عبر أسلاك التعليم جميعها، يُكنّون العداء نفسه، بل يُجاهرون به. إنّ أيّ طالب بينهم يحسن إلقاء قصيدة، أو ينجزون عرضًا عن الشعر، أو يتدخّل برأي جمالي فيه كان يضع نفسه في موقف لا يُحسد عليه من السخرية والتنكيت، فلا يعود إلى ذلك مرّة ثانية. لم يكن الأمر يتعلّق بجيلي، بل بأجيالٍ سبقت وأخرى أتت تاليًا. عداءٌ مستحكم، بالفعل. ولولا حاجة إلى تعويض كنْتُ أحِسّه بداخلي، لما وجدْتُ نفسي بينهم ناقمًا على الشعر وأهله. كانت ساعاتي بين الدواوين الأولى ساعات حبّ وإصغاء وتعلُّم وصفاء، ثُمّ سرعان ما استحال ذلك إلى خفق أجنحة.

س: ماذا تحمل كتاباتك الشعرية بين ثناياها؟ هل من بصمة خاصة لمنجزك الشعري؟

  • كنتُ مشدودًا، منذ بدايات قصيدتي الأولى، إلى ميلٍ في الإطالة والتثقيف والتنقيح، بزعمي أنّ القصيدة هي طول النّفَس وأنّ الشعر صنعةٌ وفنٌّ. وهذا الفهم للقصيدة تأتّى لي من قرءاتي لتاريخ الشعر والشعرية عند العرب، وسعيتُ إلى تجسيده بصيغ وأشكال متنوّعة تتطوّر مع تحولات التجربة، بدون أن تنزاح عن جوهر ذلك الفهم. في ديواني الأوّل "لماذا أشهدت عليّ وعد السحاب؟"، والدواوين الثلاثة التالية: "ما يُشبه نايًا على آثارها" (2005)، و"ترياق" (2009)، أحاول قدر الإمكان أن أطوّر تجربتي، بدءًا من الغنائية التي أعمل عليها باستمرار بجذريْها العاطفي والرمزي، وانتهاءً برفْد المتخيّل الذي يدفع بالذّات إلى أقصاها في مخاطبة المطلق عبر وجوهٍ وحيواتٍ وعوالم متعدّدة، بهذا الشكل أو ذاك. فلا يعنيني في الأشكال التي اُكبّ عليها بقدر عنايتي بإيقاع الذات والعمل عليه داخل البناء النصّي الذي ترفده موسيقى هامسة من الإيقاع، ويسهم فيه تنويع التراكيب، مثلما عنايتي بالتصوير الشعري وإدارته في إطار من الحوار الخارجي الذي يستبطن الحالات الشعرية المختلفة، وهي تشفّ عن ذاتيّتي وشرطها الثقافي والوجودي. مع ديواني "ذاكرةٌ ليوم آخر" (2013)، عانيتُ من مرحلة عبور نفسي وجمالي من الطور السابق إلى طور آخر أكثر جدّةً وتنويعًا على همومي الشخصية. ولقد عكست قصيدة "تقاليب ضوء" المكوّنة من مقاطع شذرية متراكبة، هذه الروح العبورية بامتياز. وهكذا، فإنّي اليوم أكتب شعرًا مختلفًا، شعرًا مائلًا إلى القصر، مقطعيًّا، متشظّيًا وشذريًّا أُضمّنه أمشاجًا من حياتي المتخيّلة أكثر منها الحقيقية، وذلك انسجامًا مع تصوُّري للذات والزمن والكون. وفي نظري، أرى أن الوقت حان للقطع مع القصائد الطوال ذات البناء الغنائي أو الدرامي الشاهق، التي لا تتوافق مع طبيعة حوامل الكتابة الجديدة، إنتاجًا وتلقّيًا؛ فالمُعوَّل عليه – هنا - هو الكتابة الشذرية أو الإبيجرامية التي سنحت لها اليوم سانحة ثمينة لكي تنقل الشعر إلى عهد جديد، وتلقٍّ جديد، ومقولات جديدة.

س: الشعر أخذ من خبرتك وقتًا وحيّزا، ثُمّ زادت الأعباء بعملك على النقد، ونقد الشعر تحديدًا. لم هذه الثنائية، وكيف توفق بينهما؟

  • كما قلتُ دائمًا، أنا مُمارسٌ للشعر، وهو الأوّل والأَوْلى؛ لكن لا أدّعي أنّي مُنظِّر للشعر. التنظير للشعر يتطلّب خبرة كبيرة به وعملًا يتّجه بالنقد نحو إبستيمولوجيا الكتابة التي ترتبط، في تصوُّري، ببناء المفاهيم التي تكون نتاج تفاعل بين الممارسة ونظريّتها. لا زلت أعتبر نفسي دون ذلك، إلّا أنّ عملي على نقد الشعرية العربية وتأويل النصوص والتجارب الشعرية الجديدة مُهمّ في هذا الاتّجاه: من المعنى إلى الإيقاع، ومن الشعر إلى النثر، ومن الجيل إلى الحساسية، ومن الذاتي إلى السيرذاتي.

   وقد تولّد الاهتمام لديّ بالمنجز النقدي والبلاغي للشعرية العربية من دراستي الجامعية، بموازاة مع اهتمامي الشخصي بتجارب الشعر العربي الحديث التي كانت تنادي عليّ من أمكنة بعيدة. وقد ظهرَتْ لي بهذا الخصوص أربع  دراسات نقدية زاوجت فيها بين همّ تأصيلي ونزوع تركيبي.

   لنقل إنّ هناك تجاوبًا بين الشعر والنقد، هو تجاوب فعاليّتين تتحاوران في الذهاب-الإياب داخل معماري الكتابي، ولا تقعان على طرفي نقيض. فكل منهما يلبي حاجةً نفسيةً، علاوةً على ما ينهضان به من أعباء المعرفة والتأمل والبحث. وأحاول –بقدر ما أستطيع- أن أحتفظ بالتوازن الخلّاق بين الفعّاليتين معًا. كتابة القصيدة تحتاج -أوّلًا- إلى استغراق شبه كُلّي ينقطع إلى أسرارها وما يفعله دبيبها في الروح والوعي، لكنها لا تنفصل تمامًا عن اشتراطات التي الكتابة تدبّر بؤر تشويشها وتخلّصها من زوائدها، كما لا تنفصل عن خصوصيّات الجنس الذي تنكتب في ضوئه. أما في لحظة الكتابة النقدية فأنا أذهب إلى النصوص وأقترب منها مصغيًا إلى فرادتها وشعريّتها، بانفتاحي على تجربتي ومقروئيتي التي راكمتُها بجوار القصيدة، وعلى أدوات النظرية التي أنتقي منها ما يفيد عبوراتي إلى تلك النصوص ولا يثقل عليها بداعي المنهاجية. أنا، ناقدًا، مسكونٌ بالشعر، وبمعرفة الشعر. وبداخلي ثمّة فرحٌ داخليٌّ، يُحرّكني للكتابة عن هذا الشاعر أو ذاك، وعن هذا الديوان أو ذاك.

س: كيف ترى مستقبل الثقافة في المغرب؟

  • لا يمكن لنا أن ننكر أنّنا اليوم في المغرب نعيش حركة ثقافية ونتفاعل مع ثمارها، غير أنها معرضة للتشويه والهدم في أي لحظة، بسبب كثرة الغيابات: غياب بنيات الاستقبال الضرورية، غياب دعم الدولة لللازم للفاعلين في الحقل الثقافي بلا إقصاء أو تمييز، غياب قواعد الشفافية والاعتبار بمبدأ الكفاءة، ثم غياب خطط المستقبل على المديين القريب والمتوسط.

وفي هذا السياق أتى مقالي  "مستقبل الثقافة في المغرب"، وفيه أشرت إلى هناك توجُّهًا عامًّا ينزع إلى تهميش الثقافة الجادّة وتغييبها في حياة المجتمع وفضائه العمومي من جهة، وإلى استبدالها بأنماطٍ ثقافويّة مبتذلة تُحسب عليها، ليس من السياسة هذا النزوع، بل من السياسويّين الذي يخشون من سياسات الفعل الثقافي وما يمكن أن يخلقه من قدرة على الرفض والاحتجاج والنقد، ويحمله من مبادرات بالحركة والتغيير والتنمية. ومن المؤسف، أنّ هذا التوجُّه يحدث الآن في المغرب، وبأدوات تجميليّة أخفى من السابق وأدهى.

   لنقُلْ إن ثمّة خَوْفًا ممّا هو ثقافي، يُساهم فيه ويُشيعه قطاعٌ من المثقّفين أنفسهم، أولئك الذين تخلّوا عن مشاريعهم في الفعل والتغيير، وانكفأوا على ذواتهم، متواطئين ومتلذّذين ببرق السلطة الخُلّب، وعمائها الآنيّ. وهو ما يوحي بأنّ هناك أزمةُ في الجسد الثقافي، واختلالًا في أدوات تحليله للواقع المغربي، الذي يُوهم بأنّ كلَّ شيءٍ يتغيَّر. لكنّنا لا نُدافع، بشكل سمج، عن استقلال المثقّف. إنّ عمله العقلاني الملتزم بالسياسة وفيها داخل حزْبٍ أو هيئةٍ بدون أن يكون ذيْلًا لأحدهما، يكسب رؤيته للأشياء عمقًا ونفاذ ذهنٍ ورأيٍ يحتاجهما، دائمًا، في تفكيك آليّات السلطة وفضح ممارساتها، وفي الإصغاء لهموم عصره ومجتمعه، حارصًا على ثرائه المعرفي وتجديد أدوات ثقافته وقيمها الحيّة. وهو، بهذا الانخراط، يقطع الطريق على أدعياء السياسة الذين اتّخذوها سلعة للارتزاق، ويناضل من أجل تخليق الحياة السياسية  التي لن تقوم إلا على قاعدة الثقافة في تعدُّدها واختلافها، ويبقي الباب مفتوحًا للمساءلة والنقد لوقف التدهور وإعادة الاعتبار للثقافة فعلًا وممارسة.

  • جريدة (آخر ساعة)، عدد الخميس 21 يناير2016.

(19)

هذا الشعر الذي أساؤوا فهمه ومزّقوه كل ممزق !

حاوره : فيصل رشدي

1- فزتم مؤخرا بجائزة القصيدة العربية بالمغرب، ما هي القيمة المضافة لهذه الجائزة ؟

  • كل جائزة يمكن أن يحصل عليها أديب عربي لا يمكن إلا تثمينها، وخاصة إذا صدرت من جهات تحترم الإبداع وتكرمه قياسًا إلى معايير وقواعد نزيهة. بالنسبة إلى هذه الجائزة، فهي ذات قيمة معنوية واعتبار رمزي خاص، لأنها تنتصر للشعر العربي وللغة العربية، ولأنها تعطى من مدينة فاس بعراقتها وخصوصيتها الحضارية والثقافية، ثم لأنّها حملت في دورتها الرابعة اسم "الشاعرة المغربية أمينة المريني" التي أعتزّ بإنسانيتها وعملها الإبداعي داخل مدوّنتنا الشعرية المعاصرة. 

وكما قلت في حفل تسلُّمي إياها، فإن الجائزة مثلت لي أكثر من كونها جائزة، بل هي صلة وصل بأصدقاء كثيرين أحاطوني بفيض من المحبّة منذ أن تناهى إلى علمهم خبر الفوز بالجائزة – أيًّا تكن – فلا قيمة لها إذا لم تكن جوازًا إلى قلوب الناس. ولكم يتأثّر المرء عندما يتلقى التهاني من أناس لا يعرفهم ولم يسبق أن التقى بهم، فيكتشف أن الجائزة قد وصل إليها وهي لا تقدر بثمن.

2- تولي في دواوينك قيمة خاصة للإهداء. فمثلًا، تهدي "ذاكرة ليوم آخر" لأبيك. هل من رمزية للأب داخل العمل؟

  • بالفعل، تأخذ الإهداءات في مجموع أعمالي صفة خاصة، فهي ليس إشارة عابرة أو موضة طارئة، وإنما هي بمثابة ثريا تضيء جوهر العمل. وإذا مثّلنا بديوان "ذاكرة ليوم آخر"، فقد أُهدي إلى الأب، الأب الغائب الذي افتقدت حضوره وأنا ما أزال صبيًّا لا يعقل ما حواليه. لذا، فهو لا يحضر في ذهني إلا بصورة غامضة، ولكن مفعمة بكثير من الأسرار والتجليات والهواجس. وبالتالي، فغياب الأب كما في قصيدتي "صبرًا أيتها الذاكرة" و"الحياة في غضون ذلك"، يلقي بظلاله الكثيفة على العمل ككل، ويغذي فيه الشعور بالفقد واليتم، ويجعل الزمن يحضر بكثافـةٍ مؤلمـةٍ. وكما قال الشاعر والناقد العراقي علي جعفر العلاق: "إنّ للمـاضي، وللفقـدان، وللشجـن القـديم حضورًا فاجعًا، وهو ينحدر إلينا، قـديمًا ومتجـدّدًا، من ينابيعـهِ النضاحـةِ باليتـم الفـرديّ والإنسانيّ: من الأب الجسـديّ الشخصـيّ، نـزولًا إلى آبـاء الفجيعـة الكبار: كلكامـش، المتنبي، المعري، المعتمد بن عبـاد. ومن المتفجعـين أو الساخطـين من الأجيال اللاحقة: نازك الملائكة، أمل دنقل، عبدالله راجع، سركون بولص..."

3- في ديوانك "من علو هاوية" توتر بين الماضي والحاضر، بين السفلي والعلوي. وأكثر من موضع فيه تكررت كلمة الطائر، إلى ماذا يرمز؟

- يرصد هذا الديوان الحاضر في تجلياته المدمرة، أي عالمًا شعريًّا منذورًا «للهاوية» بما هي سقوط وأسف على المشاهد الآيلة إلى الانهدام، كأنّ القصيدة وقوف على جرف الحياة وعلى كابوس ما نَفَق منها. إنّه عالمٌ سورياليٌّ طافح بالموت، وقبيح، يربأ أنا الشاعر بنفسه أن يتلوّث به ويعمل على مواجهته بمنطقه الخاص. وهذا ما يجعل من العمل ككل يعكس توتُّرًا شديد الأثر داخل هذا التقاطب المكاني بين السفلي/ تحت والعلوي/ فوق، فيحضر الطائر في مواجهة لهذا الانهدام المتسارع بتجاوزه وتخطّيه المدمي، حيث يغدو الطيران من أعلى وصفه استعارة أليغورية- إشاريّة يستثمرها أنا الشاعر في الشهادة على الحاضر ومغامرة كتابته من التقاط الإشارات إلى إشارات الحلم والوعد بالآتي.

4– يجد القارئلجل قصائدك احتفاءً بالذكريات. ماذا تمثل لك هذه الذكريات ؟

- هو كذلك. وهذا ما يعطي لما أكتبه صفة الشعر الشخصي أو السيرذاتي. ثمة دائمًا عودة إلى الماضي، ولكنها ليست عودة تنقطع فيما مضى، بل تصل هذا الذي مضى بما صار، أو بالأحرى انعجن به وتشابك معه بصورة مركبة.

من عمل إلى آخر، ثمة حرص على شخصنة شعري بإشارات وملفوظات نابعة من رحم سيرتي الذاتية، ولكن بمجرّد ما تدخل تحت ميثاق الشعر التخييلي يصير هذا الشخصي وجهًا للاشخصي وامتدادًا له، وهو ما يعطي للسيرة في الشعر صفة السيرة المتخيَّلة التي لا تحيل على المرجعي إلا بمقدار ما تقوّضه وتجعله ينزلق في سلسلة من الدوال لا تنتهي.

5- نجد في مجموع دواوينك مزاوجة بين الوزني والنثري، بين قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر. هل يتعلق الأمر بمساكنة بين زمنين ورؤيتين داخل سيرورة تجربتك؟ أم تخلق "إيقاعًا ثالثًا" متخفِّفًا من الغنائية والنثرية معًا؟

ــ يحاول الإيقاع، في تصوري، أن يتقفّى أثر التجربة ويتجاوب معها في سيرورتها. لذلك يتمُّ تنويع مصادر اشتغاله عبر اللغة وخارجها، فلا يعنيني التوقيع العابر تحت ضغط الوحدات الوزنية، بقدر ما يهمُّني الجَرْس الصوتي الذي يلفت القرينة من غفلتها، ويبعث شتيت المعنى من سقطه المهدور. نلمس ذلك بأشكال متنوّعة ومُشظّاة من نصّ إلى آخر، ومن شذرة إلى آخرى، حيث يعبر الإيقاع في اللغة مدركًا ومحسوسًا وباترًا ومرئيًّا أو غير مرئيٍّ. وسواء كان داخل قصيدة التفعيلة أو قصيدة النثر، فإنّ الإيقاع مُفكّرٌ فيه كأثر لا كعلامة، وهو يتّكئ، باقتصاد بليغ وعبور هامس، على مجمل "اللونيّات" و"الفراغات" التي تأثر عن توتُّرات اللغة وتجاويفها في علاقتها بملفوظ الأنا. من ثمّة، يمكن لنا أن ننعت هذا الإيقاع، تجوُّزًا، بأنّه "إيقاع ثالث"، لا هو إيقاع الوزن الذي يتردّد على مسافات منتظمة، ولا هو إيقاع النثر السيّال كيفما اتفق.

6- في نقدك لراهن الشعر المغربي تبنّيت مفهوم الحساسية بديلًا عن مفهوم الجيل. ما الدافع إلى اختيار هذا المفهوم؟ وهل يعكس في حقيقته تطوّرًا للحركة الشعرية؟

  •  وجدت أن مفهوم الجيل لم يعد قادرًا على الإحاطة  بحركة الشعر الجديد؛ إذ  من التعسف أن نجمع أفرادها داخل جيل أو نحجرهم على تصنيف عقدي كما كان جاريًا من قبل. ولهذا، اكتشفت في مفهوم الحساسية إطارًا أوسع من الجيل، فهي ممتدة بصمت، وأرحب من أن تتأطر داخل مفهوم مغلق ونهائي مثل مفهوم الجيل، وما فتئت تكشف عن أثر التغير الذي يحدث باستمرار. ولهذا آثرت أن أتحدث الحساسية الشعرية الجديدة بسبب ما خلقته من جماليات كتابية مغايرة عكست فهما جديدا لآليات تدبر الكيان الشعري، مما يمكن للمهتم أن يتتبعه في دواوين شعرائها، التي شرعت في الظهور، منذ أواسط التسعينيات إلى اليوم. وهذه الحساسية تظهر لنا حبلى بالانعطافات التي تحفز شعراءها على التحرك الدائم في جسد التجربة وأخاديدها، لا يرهنون ذواتهم لإيديولوجيا أو ينضوون تحت يافطة بارزة. إنها تكشف عن كونها كناية عن اختلاف في تشكلات الرؤية الإبداعية، أو في تصورها لأفق الكتابة الشعرية برمتها.

أما بالنسبة إلى ما يمكن أن يكون إضافات قدمتها  الحساسية للحركة الشعرية، فإنه يحسن بنا أن نشير إلى أهم ملمح ميزها وهو نزوع النفر الكبير من شعرائها إلى الاهتمام بالذات في صوتها الخافت والحميم وهي تواجه بهشاشتها وتصدعها الأشياء والعالم واختلاطات الحياة اليومية، والنزوع المستمر إلى بساطة القول الشعري والانفتاح على السرد وجمالياته البانية، ثم الاعتناء بكتابة الشظايا وأسلوب فقراتها الشذري بصورة غير مألوفة راحت تقلب نظم بناء الدلالة وطرائق شعرنتها.

ومن المهم أن نشير، هنا، إلى أن الحساسية الجديدة ليست حكرا على الشعراء الجدد، بل يساهم فيها أيضا شعراء من أجيال سابقة يمثل إبداعهم وتجديدهم حافزًا إضافيًّا لشعراء تلك الحساسية على الاستمرار في رهانهم الجمالي على تحديث الشعر المغربي، بلا ادعاء القطيعة أو وهم "قتل الأب".

7- بدأنا نلاحظ مع عصر الفايسبوك تهافت التهافت على الشعر، وتدفق الإصدارات الشعرية بشكل لافت. كيف تفسر هذه الظاهرة؟

  • للأسف، الظاهرة أشبه بحفلة تنكرية كبيرة. وإذا صادف أن غاب أحدهم، لسبب قاهر أو آخر، عن المشهد الشعري وعاد إليه، فإنه سيعيش غربة مضاعفة: غربة داخل مجتمعه، وغربة بين جيش من "الشعراء" الذين تضخم عددهم بصفة زادت عن "الدخل القومي للأفراد" وأربكت توقعات "المندوبية السامية للتخطيط"، ولا أعرف إن كان ذلك حلًّا مناسبًا لتحقيق "الردع النووي" وتوازن الرعب بينهم وبين المتملصين من أداء الضريبة؟

إن أكثر ما ينشر لا علاقة له بالشعر، والأخطر أن يصير هذا "اللاشعر" قاعدة ميسرة يتلقفها قراء ومشاريع موهوبين قادتهم المصادفة أو ضربة الحظ إلى هذه الصفحات الفايسبوكية التي تفتري على الشعر وأحاطت نفسها بجيش من (المعجبين) الذين بلا هوية ولا ذائقة. وحتى المجاميع الورقية نفسها التي يُعنى فيها بكل شيء (الصورة، الخط، الورق..) إلا أن يكون شعرًا، وربما الذي ساعد في اتجاه هذا الوضع هو دور النشر "الارتزاقية" التي تتعامل مع الكتاب كسلعة ومع صاحبه كدافع للأجر فوريا، ولا يهمها إن كان ما تنشره شعرًا أم نوعًا من "الخطّ الدمياطي" لضرب الكف. فلا لجنة قراءة لدى معظمها ولا هم يحزنون. لكن الذي يضيع ليس المال، ولا الضريبة غير المؤداة، بل الشعر الذي أُسيء فهمه ومزّقوه كل ممزق.

*موقع (ثقافات)، 25 يونيو/ حزيران 2016.

(20)

أومن بقوّة الشعر وارتباطه الأسطوري بعذابات الإنسان!
حاوره: عبد الواحد مفتاح

س: تكتب القصيدة عن وعي كبير بآلياتها، خاصة أنك ناقد. ألا يشوش هذا المعطى على كتابتك للشعر؟

- أوّلًا، أعتقد أن كل شاعر هو في حدّ ذاته قارئ قصيدته الأول؛ إذ لا يأتي إلى القصيدة بذهن فارغ، وإنّما من مصادر ومعطياته ترسّبت في لاوعيه أو تَشرَّبها من قراءاته المتنوعة للشعر أو لغير الشعر. ولهذا، نكتشف أن غير قليلٍ من الشعراء يمارسون "نقدًا" على ما يكتبونه؛ وهذا ما يسمى بـ(ميتا الشعر) بوصفه لغة على لغة، بعد ازدياد الانشغال النظري عند الشاعر العربي ووعيه الذاتي بقضايا الشعر والشعرية. إلا أن هناك فئة ثانية من الشعراء زاوجوا بين الممارسة الشعرية والتأملات النظرية بما تنطوي عليه من نقد ومنهج ودراسة، ورُبّما أكون ضمن هؤلاء الذين ثقّفوا نظرهم إلى الشعر بالقراءة الواعية والمفكّرة والوعي النقدي.

  ومن جهة ثانية، أحسب نفسي شاعرًا أوّل الأمر، وعندما تأتيني القصيدة تجدني في انتظارها على سمت البديهة وفراغ الحال، فأندهش وأقلق وأبتهج خلال كل مراحل انبثاقها الشعري، وخارج كل ادّعاء المعرفة وحاصل المعرفة. وعندما تستقرّ أهوالها بمعنى من المعاني وتستوي على حال من الأحوال، يتحرك فيّ قلق الناقد الذي تحرر من فعل الدهشة، وشرع في تثقيف النصّ وتنقيحه وفي إعادة تأمُّله بصيغة الحضور؛ لأن وهم الإلهام  قد ولَّى إلى غير رجعة.

  وعليه، أزعم أنّه ليس هناك تشويشٌ قد يُخلّ بعمل القصيدة وحرّيتها، أو يؤثر سلبًا على روح الشاعر التي من طبيعتها توّاقة إلى الممكن خارج النظرية بقواعدها القارّة.

س: أنت ناقد وشاعر دون مفاضلة، تكتب النقد بأدوات الشعر؟ أين يجد عبد اللطيف الوراري نفسه أكثر ؟

  • أكتب من موقع الشاعر/ الناقد الذي يسمح لي بالاغتنام منهما على السواء، وهو ما يجعل تماسّ التأثير بينهما جاريًا. فبقدر ما يتيح لي الناقد أن أنقح القصيدة وأعيد التأمل فيها، بقدر ما يمنحني الشاعر لغةً واصفةً لا تخلو من النكهة الإبداعية، فتغدق على الصرامة المنهجية التي تفترضها هذه الدراسة أو تلك "رونقًا وسلاسة لا يخلوان من جاذبيّة" كما انتبه إلى ذلك الناقد د. بنعيسى بوحمالة.

  وبهذا المعنى، أجد نفسي متورّطًا في الشعر وفي أسئلة الشعر، ولا أكاد أبرحهما أو أُشْغل عنهما. غير أنّي- أحيانًا- أشعر بالحرج عندما يدعوني بعضهم للمشاركة في ملتقىً شعريٍّ بصفة الناقد، فأنقاد لرغبته نكايةً في الشاعر الذي بداخلي. ولكن أشعر، على كلّ حالٍ، بتساكُنٍ غريبٍ بين الصاحبين.

س: تكتب الشعر وتضبط مقاييسه النقدية، في وقت نجد كثير من نقاد الشعر ارتحلوا إلى أجناس تعبيرية أخرى مثل التشكيل والسينما. لماذا هذا الإصرار على ملاحقة الشعر ؟

  • أعتقد أن من حقّ النقاد أن ينصرفوا عن الشعر إلى غيره، إذا وجدوا أن بإمكانهم أن يفيدوا الأجناس التعبيرية التي ارتحلوا إليه، غير أن قلّةً منهم من صنعوا ذلك وقدروا عليه، وأكثرهم  لم يحملوا معهم ضوء الشعر وبقوا عالةً على هذه الأجناس يلغون فيها كيفما اتفق.

  بالنسبة إلي، أنا هنا في حضرة الشعر، ممسوسًا بنوبته من الأول. وإذا حصل أن هجرْتُهُ، لبعض الوقت، إلى السرد (في الفترة الأخيرة انشغلْتُ بكتابة شذراتٍ شاقّةٍ من سيرتي الذاتية)، فإنّي سأعود إليه أكثر تفاؤلًا بكلمته على نحو يُجدّد العهد بيننا ويُبْقيه كبيرًا في عينيّ.

س: ماذا عن هجرة الشعراء إلى الرواية كيف تجدها ؟ وهل هي ظاهرة صحية ؟

  • شئنا أم أبينا، فإنّنا نعيش اليوم طفرة الرواية تتداخل فيها عوامل ذاتية وإبداعية (ممكنات الفضاء الروائي المغرية) وأخرى خارجية (الجوائز، جاذبية الإعلام، الشهرة والانتشار..).  وإذا كان بعض الشعراء في العصر الحديث قد جرّب كتابة الرواية أو السيرة الذاتية عن ميلٍ إبداعيٍّ، أو زاوج بينها وبين كتابة الشعر (سليم بركات وإبراهيم نصر الله مثلًا)، أو انصرف إليها بالكُلّية (جبرا إبراهيم جبرا وعبد الكبير الخطيبي مثلًا)، فلقد بِتْنا نلاحظ اليوم ما يشبه هجرة موسمية لعدد كبير من الشعراء إلى فضاء هذا الجنس التعبيري إلى الحدّ الذي يطرح معه هذا السؤال: هل ضاق هؤلاء الشعراء ذرعًا بجنس الشعر، أو لم يعُدْ لهم ما يقولونه داخله؟

   وبمنأى عن كل إيحاء بالتهمة أو دعوى التهافت، يحقُّ للشعراء أن يكتبوا الرواية لا عن تراخٍ واستسهال، وإنما عن مقدرة فنية يُفْترض أنهم تعلّموها من الشعر، فجاز لهم بعد ذلك أن يُضيفوا إلى هذا الجنس مساحات بوح وتخييل ممكنة.

  لكن الأخطر أن يهرب حتى النقّاد بكفاءتهم النقدية ومراجعهم الثقافية من الشعر إلى الرواية، بعد يأسهم مما يعرفه المشهد الشعري العربي "من ممارسات كتابية تفتقر إلى الصدق أو إلى الإتقان أحيانا" كما أشار إلى ذلك الشاعر علي جعفر العلاق.

  ورغم ما يُشاع من القول بأنّنا نعيش "زمن الرواية" نتيجة الطفرة الهائلة التي تحقّقها عن حقّ أو بغير حقّ، أظلُّ من المؤمنين بقوّة الشعر وارتباطه الأسطوري الذي لا ينفكّ بالإنسان حتى في هذه الأزمنة الرديئة التي يكابدها ويشقى من أدخنتها الكثيفة.

س: تكاد تكون من أكثر النقاد إنتاجًا وتتبُّعًا للمشهد الشعري المغربي. ما وراء هذا الوعي؟

  • عندما انشغلت بسؤال الشعر العربي وقضاياه المعرفية والجمالية، انفتحتْ أمامي مصادر وروافد وجغرافيات شعرية في قديم الثقافة وحديثها، فواظبْتُ على السفر إليها والتعلُّم منها. لكن ما أثارني في هذا البحث هو "غياب" الإسهام المغربي؛ فقد كان حظِّ سفري من الشعر المغربي ضئيلًا، إلّا ما وقع بين يديَّ مما كان يُنْشر مُتفرّقًا من شعر شعراء قِلّة غذّوا في نفسي شعورًا بِهُويّتي الجريحة، من أمثال: محمد الحلوي، ومحمد بن إبراهيم، وإدريس الجاي، وأحمد المجاطي،  وعبد الكريم الطبال، ومحمد الميموني.

   كان الشعر المشرقي هو المُكرَّس في الدراسات الأكاديمية والمقالات السيارة، وإليه يُكال المديح بقيمته وإبداعيّته. صحيحٌ أن هذا الشعر عرف تطوُّرًا مذهلًا بحكم الأسماء الكبيرة التي تعاقبت عليه طوال القرن العشرين، ولكن من غير المقبول أن يتمّ في المقابل - وتحت ذريعة المركز والأطراف- تغييب أسئلة ومواجع شعرية مختلفة في المغرب العربي واليمن والسودان والبحرين وغيرها.

   بهذا الوعي، آليْتُ على نفسي أن أهتمّ بالشعر المغربي تتبُّعًا لجديده ورصدًا لحركته وتوثيقًا لمساره الحديث، فأنشأت منذ سنوات موقع (أفق الشعر المغربي) الإلكتروني حيث يجد متصفّحه دراسات وحوارات وإصدارات وتراجم لعدد كبير من الشعراء المغاربة بمختلف أجيالهم ورؤاهم وحساسياتهم. كما نشرت دراسات عن الشعر المغربي المعاصر، وأعددتُ ملفّات مهمة عنه، حاورتُ أبرز شعرائه الذين دشّنوا حداثته وأسهموا في إغنائه والرقي بجماليّاته.

  وقد نُشِر أكثرها في منابر شعرية وثقافية مشرقية مقروءة مثل: القدس العربي، ونزوى، والسفير، وجهة الشعر، وإيلاف. فقد كنتُ أتوجه إلى قارئ عربي ممتدّ، ومعه أستدرك ما وقعت فيه كتب (تاريخ الأدب العربي) التي كانت ضحية "بضاعتنا رُدّت إلينا".

  أقول هذا الكلام ليس لإبراء ذمة، ولا للمنّ والأذية، بل اعترافًا بجهد المُقلّ، وهو جهدٌ فرديٌّ يجب أن يتعزّز بعمل مؤسسي تؤطره وحداث بحث جامعية ومراكز دراسات مستقلة. وأحبّ أن أشير، هنا، أن هذا الوعي صدر من قناعة راسخة بتطوير الثقافة الشعرية، خارج أي ادّعاء بالتعصُّب أو الانتقام من حالة عصيّة في التاريخ.

س: كيف تنظر إلى المشهد الشعري اليوم؟ وما دور النقد في إضاءته؟

- رأيي معروفٌ بهذا الخصوص؛ فلقد أشرتُ في أكثر من مناسبة إلى أن الشعر المغربي راهنًا يعرف حركة حيويّة غير مسبوقة في كل أزمنته القديمة والحديثة، وهي ممتدّة - على الأقلّ- منذ عقد التسعينيات مع ما سُمّي بـ(التجربة الشعرية الجديدة)، بسبب ما خلقته من جماليّاتٍ كتابيّة مغايرة عكست فهمًا جديدًا لآليّات تدبُّر الكيان الشعري. وهذه التجربة لم تكن لتجبُّ ما سبقها، بل هي تراكم لتجارب متتالية في سياق القصيدة المغربية الحديثة وتطوُّر إواليات بنائها المعماري، بقدر ما هي تجاوزٌ لها. وهذه الحركة تظهر لنا حبلى بالانعطافات التي تحفز شعراءها على التحرّك الدائم من غير أن يرهنوا ذواتهم لإيديولوجيا ما أو معتقد جمالي متكلّس.

 غير أنّ ثمة عسفًا يقع على كاهل هذه التجربة لأسباب غاية في التعقيد؛ فقياسًا إلى حركة الشعر الحديث التي بدأت بعد استقلال المغرب، وما رافقها من اهتمام وسجال مُطّردين، لم يتوفر للتجربة الشعرية الجديدة حركة نقدية موازية وقادرة على تفهُّم طبيعة التجربة ومغامراتها، بما لها وما عليها في آن.

  ولهذا السبب، يكاد يكون المشهد الشعري محتجبًا عند البعض، أو ضحية سوء فهم أو مظلومًا من البعض الآخر. وقد لا أجانب الصواب إذا قلت إنّ كتاب: "في راهن الشعر المغربي: من الجيل إلى الحساسية"، أبرز بالمعطيات والأدلة والأسماء الواردة فيه مدى حركية هذه المشهد المتنوع الذي لا يخلو من صراع قوى وتعارض جماليّات، ومن غنى المتن الشعري كمًّا ونوعًا، ومن تعدّد منتجيه من كلّ أعمار الكتابة ورؤاها وحساسياتها.

س: ما موقع قصيدة النثر داخلها؟ وما أهم جمالياتها التي حققت بها رهانها على الاختلاف؟ وما تريد توضيحه لكُتّابها من الجيل الجديد؟

  • من الطبيعي أن يكون لقصيدة النثر دورٌ مهم ٌّفي هذه الحركة، إذ تكشف عن كونها كنايةً عن اختلاف جوهري في تشكُّلات الرؤية الإبداعية بالنظر إلى ما يخلقه شعراؤها من اقتراحات نصية وجمالية تُعنى بشرط الكتابة التي تخففت من قيود البلاغة والنظم، وباكتشاف العالم ومواجهته عوضًا عن الموقف المباشر من السياسة والأخلاق والقيم. وإذن، فلا مناص من الاعتراف بقيمة هذه القصيدة من خلال رهانها على الاختلاف، وبطليعتها اليوم في المشهد الشعري.

 وإذا نحن طالعنا نصوصها القوية التي أخذت في البروز منذ بدايات التسعينيات، جاز لنا أن نستقرئ منها أبرز السمات الشعرية الأساسية بما تنطوي عليه من رهانٍ على الاختلاف والتعدُّد، وأهمّها: الانهمام بالذات في صوتها الخافت والحميم وهي تواجه بهشاشتها وتصدُّعها الأشياء والعالم واختلاطات الحياة اليومية، وبروز رؤى شعرية جديدة تعكس في مجملها إمّا وضع الاغتراب واليأس والحزن التي تتملّك الذات أو استقالة  الذات من الواقع، وإعادة النظر في مستويات بناء دوالّ الكتابة الشعرية الجديدة بأضلاعها البلّورية مثل النزوع المستمرّ إلى بساطة القول الشعري والانفتاح على السرد وجماليّاته البانية، ثم الاعتناء بكتابة الشظايا وأسلوبها فقراتها الشذري.

  وإذا كان لي من مشورة حُبّ، بدلًا من النصيحة، أوجّهها إلى كتّابها الجدد، فهي أن يبتعدوا عن الغرور الذي أشبهه بالطفيليّات التي تقتل الموهبة في مهدها، وألّا يصمّوا آذانهم عن النقد باعتباره كلّه شرًّا، ثُمّ ألّا يضعوا أنفسهم في مواقع اصطفاف أو شلليّة ضد من يختلف عنهم في مضمار الكتابة.

س: فزت مؤخرا بـ"جائزة القصيدة العربية"، إضافة إلى جوائز عربية أخرى في الشعر النقد. ماذا تعني لك هذه الجائزة بالخصوص؟ 

  • الجائزة هي في نهاية المطاف جائزة لمن يستحقّها عن هذا العمل أو ذاك، وهي تعطى في كل البلاد وفي كل الثقافات التي تؤمن باستحقاق الكفاءة. غير أني لا أفهم من يعادي الجوائز الأدبية عندنا كيفما اتفق، إلا إذا كان له عقدة تجاهها.

بالنسبة إلي، لولا الجوائز التي مُنِحت لي من مؤسَّسات في الشرق، ورعَتْها لجن وجهات شفّافة، لظللْتُ نكرةً إلى اليوم؛ لأن المؤسسة المغربية ذات بنية رصاصية لا يمكن اختراقها إلا من خارج، ولأنّ هواءها منذور مسبقًا لأهل العشيرة والولاء الحزبي والإيديولوجي. واصْدُقني القول إذا قلت لك إني ابتهجت بـ"جائزة القصيدة العربية" كما لم أبتهج بغيرها من قبل؛ فهي تُعلن من فاس، وتوحي  من رنينها بنوسطالجيا لا يقع في لذائذها إلا من شغف بالعربية وشعرها حُبًّا، عدا أنّها أهم جائزة شعرية مستقلة تُمنح بالمغرب.

* (القدس العربي) 28 غشت/آب 2016، و(الاتحاد الاشتراكي) 17 / 08 / 2016.

(21)

طمّ واقع الثقافة بالزبد وجلس أدعياؤها في أول الصفّ

حاوره: عبد الله الساورة

س: ماذا يعني لك تكريم الكاتب المغربي في غياب نقد رصين وفي ظلّ مجتمع لا يقرأ..؟

  • إلى وقت قريب، كان ثمّة تقاليد للاحتفاء بمجهودات فكرية وإبداعية لجيل من الكتاب وهم في ذروة عطائهم، ولا سيما من مؤسسات وجهات ثقافية اعتبارية، غير أن الوقت تبدل وتبدلت معه التقاليد وبروتوكولات التكريم، فصرنا نسمع ونقرأ في هذا الباب ما ينزع إلى ترسيم تقاليد مضادة تقوم على تكريم ما ليس أهلًا لأي تكريم ممن قذفت بهم واجهات تكنولوجيا الصورة والفراغ الإغوائي إلى الواجهة، وأحاطت بهم "جحافل" صماء من المعجبين.

في غياب مؤسسة النقد الاعتباري الذي يمكن أن يضطلع به متخصصون لحقولٍ من المعرفة يتطلبها مجتمعنا اليوم، وفي ظل مجتمع بينه وبين المعرفة أميال سحيقة، وصعود قيم الاستهلاك والتسطيح الثقافي التي استغرقت هذا المجتمع، فأعتقد أنّنا سنشهد مسلسلًا طويلًا من ذمّ الإبداع والاستخفاف برموزه الحقيقية، إلا إذا استدركنا الأمر ودشنّا لجبهة ثقافية حداثية تعمل على ردم الهوة بين الإبداع المغربي المتعدد في شتى صوره وتمثيلاته المعاصرة وبين جمهورها "المفترض" والمغترب بلاملامح أو أهداف.

كان المسرحي الألماني المشهور برتولد بريخت يقول: "غدًا لن يقولوا كانت الأزمنة سيئة.. سيقولون: لماذا صمت الشعراء !؟ ".

س: تحضر في أغلب النقاشات على مستوى مواقع التواصل الاجتماعي، وتتفاعل بشكل جيّد.. كيف تثمن هذا الحضور؟

  • خلق الفايسبوك حركية نشطة على مستوى تبادل الأفكار والنصوص الإبداعية، أو على مستوى مواكبة الأحداث والتعليق عليها، إلا أن هذا الفضاء – على أهميته وراهنيّتنه- يظل مخترقًا بأنواع الشلليات والاصطفافات الإيديولوجية والفئوية الضيقة، بل مدفوعًا بإشاعات وداعاوى مغرضة تجعل مرتاديه يقعون ضحايا حرب نفسية ومرضى بالصور والأمثولات البشعة التي لا تعدم جاذبيّتها .

لهذا، أحترس من مطبات هذا الفضاء وأعقلن حضوري فيه بقدر ما أجعل بيني وبين ما أناقشه وأتفاعل معه من الحدث العام والمعتكر نوعًا من المسافة النقدية الشفافة التي تنتصر للحق والاختلاف.

في سياق آخر، أتقاسم مع أصدقائي ومرتادي الصفحة على الفايسبوك نصوصًا لي شعرية ومقالات جديدة تُنشر طوال الوقت، وأنشر آراء وملاحظات شخصية في مسائل الشعر والفكر والثقافة، تلقى تجاوبًا جادًّا منهم يصل إلى حد النقد والإثراء، وهو ما يسمح لي بتنقيح ما يُنْشر وإعادة النظر فيه.

س: هل بالفعل أن المثقف المغربي ينأى بنفسه عن الخوض في الصراعات السياسية والمجتمعية، أم أن منطق الشللية له رأي آخر؟

  • من المفروض – كما قلت – أن يكون للمثقف صوت مسموع في حاضره، وأن يضع مساقة نقدية بينه وبين معطيات هذا الحاضر. لكن الطريق إلى ذلك، ولاسيما في خضم التكنولوجيا وإغواء وعائها الآني والجذاب على المجموع، يظلّ صعبًا، وهو ما يجعل هذا الصوت مسحوقًا وبالكاد يصل ويسمعه المعنيّون به.

ويمكن أن نلمح كذلك إلى منطق الشللية التي عقّدت من الوضع المعاصر للمثقف، بسبب الاصطفاف الإيديولوجي والحزبي والولائي الأعمى. الشللية سادت المشهد الثقافي اليوم: شللية في الإعلام، شللية في حفلات التكريم والتوقيع، شللية في معارض الكتاب، شللية في الفضاء العام، شللية في الفايسبوك نفسه. الشللية من الشلّة، ومن الشلل، ومن "التشلال" كذلك.

لا أبالغ في شيء إذا قلت إن الثقافة المغربية التي فاخرنا بحضور فاعليها في العطاء والإبداع إلى وقت، أخذت تبدو كأنّها على "كفّ عفريت"، وهو ما يهدد مستقبلها. لقد طمّ واقع الثقافة بالزبد وجلس أدعياؤها من مُزيّفي العملة ومتعهدي حفلات الجنس الجماعي في أول الصف.

س: في نظرك، هل هناك دور يضطلع به رجال المال والأعمال في خدمة الثقافة الوطنية؟

  • في المغرب، لا أعرف أيّ دور "وطنيّ" تؤديه الطبقة الميسورة إلى حد البذخ والفحش اجتماعيًّا واقتصاديًّا، سوى الاستمرار في السطو على كعكة الوطن بأيّ ثمن، فيما حكوماتنا "الشعبية" تبدو كما لو أنّها تسترها وتهيّيء لها مناخ أعمال النهب. كما أنّ قطاعًا عريضًا من هذه الطبقة مرتبط ثقافيًّا بـ"ماما فرنسا"، وقلّ أن تجد من أبنائها من له مشروع أو خطة ما لمثل هذه الخدمة المومأ إليها، حتى وإن كان معظمهم ينحدر من أسر الحركة الوطنية وارتبط برأسمالها المادي الناشئ بعد الاستقلال.

في المقابل، يقوم أبناء "الطبقة المتوسطة" المُفتَّتة والكادحة في وقتنا الحالي بأدوار تاريخية ودراماتيكية من أجل تثقيف المجتمع وترسيخ القيم الأصيلة والجديدة في آن. وقد قيل: لولا أبناء الفقراء لضاع العلم، بل وضاع الوطن.

س: ما جديد إصداراتك؟

  • ظهرت في الآونة الأخيرة " رسائل فدوى طوقان" (دار طباق، رام الله 2018)، وهي رسائل بالغة الأهمية عملت على مراجعتها وتقديمها بمعية الصديق والأستاذ الإعلامي الأردني سمير حداد الذي مدّني بها، بعد أن تبادلتها الشاعرة الفلسطينية مع أخته الأديبة الراحلة ثريا حداد.

ثمّة كتب أخرى في الطريق، جديدة ومتنوعة المشرب والأفق قد تظهر خلال هذا العام، وهي نتاج تأمل وبحث ومواكبة لحركية الإبداع الأدبي في المغرب والمشرق على حد سواء. تتوزع الكتب بين الشعر والرحلة والدراسة النقدية والسيرة الحوارية.

س: ما هي علاقتك بطقوس القراءة والكتابة؟

  • أن تقرأ تحت تأثير الرغبة المتجددة والمتعطشة إلى معرفة العالم الذي تحياه، وأن تكتب ما تمليه عليك الإقامة في هذا العالم، هنا والآن. هذا كل شيء. الباقي مجرد تفصيلات.

(غير منشور)

(22)

  علينا أن نتوجّه نحو بناء شعرية مغربية

   حاوره: نصر الدين شردال

 س: لماذا "أشهدْتَ عليكَ وعد السحاب"؟

  • تعرف أنّ ديوان "لماذا أشهدت علي وعد السحاب؟" كان أول خروج رسمي لي إلى مجال تداول الشعر بعد عقد ونصف من الابتلاء به ومعاناته بصمت. وقد حاولت أن أُكنّي عن رغبتي في الإقامة الشعرية على أرض الشعر عليها بالسحاب الذي قد يأتي أو لا يأتي. بعد سنوات تاريخ الخروج، فإنّ الذي يبقى هو ذلك الوعد الذي يستأنف الشعر باستمرار؛ لأنه ليس المهمّ الطريق التي نشقُّها، بل الأثر.

س: مع بداية الألفية الجديدة حيث برزت أغلب أعمالك المتقاربة زمنيا، وهو ما يعني أنك كنت تكتب دائما، كيف توافق بين مطالب الكتابة ومطالب الحياة؟

  • أوّلًا، كان لي اهتمام شخصي منذ أواخر الثمانينات بالشعر، وكانت تجارب الآخرين تنادي عليّ من أمكنة قريبة وبعيدة. وقد أذيعت لي قصائد كثيرة في برنامج (مع ناشئة الأدب) الذي كانت تذيعه الإذاعة الوطنية بين عامي 1990 و1991، ثم سرعان ما توطدت علاقتي بالشعرية العربية من خلال دراستي الجامعية بين أعوام 1992 و1997. عملت هذه السنوات السبع على تمكيني الشعر من نفسي وملازمته كالظلّ. غير أن انتقالي إلى منطقة نائية للعمل في التدريس، وانقطاعي عن فضاءاتي الحميمة التي كبرت معي وكنت أتردد عليها أحايين كثيرة، أرجأ أي سانحة لنشر النتاج ورقيًّا، فكنت أكتب لنفسي وأقرأ عليها، وبعد ذلك ألقي بالمكتوب في أدراج أرشيفي المعتمة. ولذلك، فإن ما ظهر لي شعرًا ونقدًا في فترة زمنية متقاربة ليس وليد عشية وضحاها، بل هو نتاج تلك السنوات.

بعدأن ودعت العزوبية، وحتى بعد أن رُزقت بأبنائي الثلاثة، انتظم حالي مع الكتابة، وبات لي برنامج عمل كثيف ومتواصل قد تقطعه هذه الحاجة أو تلك من حوائج الحياة العائلية، لكن لا ينقط.بي عطشٌ داخليٌّ للمعرفة والتأمل وتعلم الحكمة، وبحثي في الشعر والشعرية وما يؤديان إليه يأتي جوابًا عليه، جوابًا بلا جواب.

س: يقول ت. إليوت : "أجمل وأعمق نقد هو النقد الذي يكتبه الشعراء النقاد"، هل تتفق مع هذا الرأي باعتبارك شاعرا وناقدا، وكيف ذلك؟

  • أتفق معك، وقد لا أتفق. صحيح أن الشعراء النقاد الذين يبحثون في الشعر إنما يأتون إليه من خبرة متراكمة وملازمة طويلة لأسرار القصيدة، غير أنه ينقصهم في أحايين ما معرفة بالمنهج، فتجد بعضهم يغرق الوصف في تأويلات لغوية لامتناهية لا سند لها في التحليل النصي. ومع ذلك، إذا رجعنا إلى تاريخ النقد الحديث وجدنا أنّ أهمّ الكشوفات والإضاءات التي أفادت شعرنا العربي وقدّمته إلى جمهور القراء، تمّت على أيدي شعراء نقاد، من أمثال: أدونيس، يوسف الخال، صلاح عبد الصبور، علي جعفر العلاق، محمد بنيس، تمثيلًا لا حصرًا. أهمّ نقاد الشعر ومنظّريه هم الشعراء أنفسهم، الذي يعرفون أنّ الكتابة تذهب نحو ما لا تعرفه، نحو ما ليس لها، أي نحو مُمْكنها الذي تتنصّت عليه النظرية.بطبيعة الحال، هذا لا ينتقص من نقاد أكاديميّين متمرّسين ساهموا بقدر وافر في الرقيّ بالذائقة النقدية. لكن يبدو لي أن نقد الشعراء هو أكثر سلاسة وأكثر كشفًا، يعنى بإبداعيّة اللغة ومحسوسيّة الرؤية في التحليل. وإن كان يهمُّه هو الآخر المعرفة بالمنهج، لكنّه لا يصير مريض النظرية، غارقًا في شكليات البحث والنزوع السكولائي.

بالنسبة إلي، أشعر أن هناك تجاوبًا بين الشعر والنقد، وهو تجاوب فعاليّتين تتحاوران في الذهاب-الإياب، وكل منهما يلبي حاجةً نفسيةً، علاوةً على ما ينهضان به من أعباء المعرفة والتأمل والبحث.

س: من الشعر، إلى النقد، ثم السيرة الذاتية، لماذا لم ينجذب عبد اللطيف الوراري إلى سحر السرد؟

  • هو ليس انقلابًا على الشعري أو سأمًا من فضاء القصيدة، بقدر ما أني أردت أن أجرب الكتابة في صفحة أخرى، صفحة أكثر وحشة وصمتًا من صفحة الشعر التي لن أهجرها لأنها تشبهني أكثر من غيرها.

وجدت في السرد إمكانًا مختلفًا للقول أو لتخييل الذات التي كتبتُ بها سيرتي الذاتية (ضوء ودخان). صحيح أن معظم شعري هو سيرة ذاتية على نحو من الأنحاء، غير أن تسريد الذات يأخذك إلى مسارات أخرى تحتاج فيها إلى شيء من الوصف والتفصيل الوقائعي الذي يفتقدها الشعر بحكم طبيعته النوعية.

س: استوقفتني كثيرا في تجربتك الشعرية قصيدة " قالت لي النخلة" في ديوان "من عُلوِّ هاوية (منشورات بيت الشعر في المغرب - الرباط 2015). لغة وايقاعا وتصويرا ورؤية ورؤيا.ماذا تمثل لك هذه القصيدة في وجدانك وتجربتك؟

  • تمثل في وجداني أيام طفولتي في القرية، وفي تجربتي تمثل انفتاح شعري على السرد بشكل واضح. وللقصيدة مناسبة أذكرها هنا؛ فقد حصل أن عدت إلى القرية بعد سنوات طويلة من الغياب، ووجدت بعض التغيير طرأ عليها، إلا أن ما استرعى انتباهي وأثار فيّ شجونًا قديمة هو مشهد النخلة المحزن، إذ أهوت على الأرض شبه متحجرة، وهي التي كانت في الماضي باسقة كالمنارة ترشد التائهين، وهي التي كانت تلوّح لي من بعد عشر كيلومترات  كلما نزلت من الحافلة مترجّلًا نحو منازل الأهل، وهي التي كانت يوم اخضرارها تسكت جوع معدتنا وتفرح بنا. والأغرب أنها لم تكن واقفة في صف نخيل، بل كانت وحدها وكأنّها جاءت من مكان بعيد وحلّت بالقرية مثل امرأة منبوذة تبكي تغريبتها القانتة كل فجر.

في القصيدة ألمحت بالرمز إلى شيء من هذا، وإلى حال الشتات الإنساني بين ماضٍ وحاضر، لكني جعلتها استعارة كلية تومئ إلى تفاصيل من سيرتي الذاتية حيث اليتم والعذاب والنزوح، أو إلى "بحة الزمن الضائع" كما جاء في هذه القصيدة.

س: "هل لك طقوس وحالات مخصوصة في كتابة القصيدة؟ وهل تعود إليها من أجل تنقيحها وإعادة كتابتها؟". هذا سؤال طرحته على أكثر من شاعر في حواراتك السابقة، نوجهه إليك بدورك؟

  • لا طقوس لي بالمرّة. مَثَلي مثل الذي يحتمي بظلال ذاكرته وماء مخيّلته لا يحتاج إلى طقوس. عليك أن تتوقع مجيء السطر الأول للقصيدة في أيّة لحظة، ومن ثمّة أن ترعاه وتحميه من الاستسهال بجهدك، وترغب فيه بشهوتك، فإنّ الشهوة نِعْـم المعين. ولا لديّ أوهام للكتابة أيضًا. ما أحرص عليه هو واجب الإصغاء الذي يحفزني على تدبير عزلتي الكثيرة في غضون السطر المفاجئ.

قد يكون هناك طقس ما، لكنه سرعان ما يتوارى خلف أدخنة الحالة الشعرية التي أدخلها ولا أعي مآلها إلا في لحظة الارتجاع والتنقيح .

س: تواجه بحماس وجدية تجارب الحساسية الجديدة في الشعر العربي، المغربي خاصة. ماذا تقصد بهذا المفهوم؟ وماهي أهم الإضافات الفنية التي جاءت بها هذه الحساسية الجديدة، وأبرز عيوبها؟

  • كان مصطلح الحساسية متداولًا في النقد الأدبي خلال العقدين الأخيرين، ولاسيما بعدما أطلقه الناقد إدوارد الخراط في مقاربته للكتابة عبر النوعية في السرد. وأحيانًا كان المصطلح يستخدم بلا فائدة منهجية أو وعي نقدي. وليس بدعًا أن أقول إن كتابي (في راهن الشعر المغربي) أعاد الاعتبار لهذا المصطلح منهجيًّا وأجرأه ضمن قراءته للشعر المغربي المعاصر، بل استبدل به مفهوم الجيل الذي كان متداولًا بين الدارسين لكن لم يعد له ما يقول.

مفهوم الحساسية بوصفه أداة إجرائية يتركّز على بيان أثر الإبدالات الجمالية التي طالت فضاء القصيدة المعاصرة، أو تلك التي اعترت المادة الشعرية في نصوص الراهن باعتبار اجتهاداتهم واقتراحاتهم النصية ووعيهم باشتراطات الزمن وتاريخيّة الكتابة فيه. وهذه الحساسية ليست حكرًا على الشعراء الجدد، بل يكتب بها وداخلها شعراء يقدمون إلينا من أجيال وتجارب سابقة، وهو ما يُمثّل حافزًا وعبئًا إضافيًّا على الاستمرار في رهانهم الجمالي على تحديث الشعر المغربي. إنها نتاج سياق سوسيوثقافي ضاغط يستجيب لمؤثّراته الراهن الشعري ويتفاعل معه باستمرار وعلى وتائر لا قدرة لنا على قياسها إلا بعد تحقق التراكم النصي. وهكذا من السابق أن نتحدث عن عيوب هي من طبيعة كل تجربة جديدة لها ما لها وعليها ما عليها.

س: استهوتك السيرة الذاتية في الشعر من  خلال مقارباتك لعدد من تجارب الشعر الحديث والمعاصر، أو من خلال حوارك السيرذاتي في كتابيك "علي جعفر العلاق: حياة في القصيدة" و"عبد الكريم الطبال ناسك الجبل: حوار في الشعر والحياة"،أو من خلال حواراتك الأدبية مع شعراء الستينيات والسبعينيات التي نشرتها في حلقات بجريدة (القدس العربي). ماذا وراء هذا الاهتمام؟ وما حدود العلاقة الملتبسة بين الشعر والسيرة الذاتية؟ وإلى أي حد تعتبر هذه الحوارات مداخل نصية لفهم الشعر العربي في المغرب؟

  • كانت ثمة على الدوام شذرات سيرذاتية لأنا الشاعر في قصيدته، غير أنّه ابتداءً من الثمانينيات من القرن العشرين، أي منذ أن بدأ الشعر العربي يتخفّف من أحابيل الإيديولوجيا، صار الشعر يطرق بقوة باب السيرة الذاتية، فاسحًا المجال لصعود مستمر ولافت لأنا الشاعر السيرذاتي الذي يتكلّم زمنه وحداثته وتواريخ تفرُّده.    وإذًا، لم يعد السيرذاتي يُشكِّل بُعْدًا أو مُكوِّنًا نصّيًا فحسب، بل خصيصة بنائية أو بؤرة رئيسة في البنية العامة للنص الشعري إلى حدّ أن بات يُمثّل خطابًا نَوْعيًّا يطّرد حضوره عند الشعراء وهم يستثمرون سيرهم الذاتية شعريًّا بطرق وآليّات مختلفة.

عندما تنتقل السيرة الذاتية إلى الشعر، فإنها تتخفف من قواعد تآلفت معها داخل السرد لتتخذ صيغًا وممكنات جديدة نابعة من الإملاء الشعري. من هنا، علينا أن نُحرّك مفهوم السيرذاتي ولواحقه (النثر، الاسترجاع، الذات، المرجعية، التطابق..)، لنجعله يتجاوز عتبة المتن السيرذاتي السردي أو التخييلي، ويعنى بكيفيات صوغه شعريًّا، أي بالممارسة التي اتخذتها مُكوِّناته ضمن البنية الشعرية، متسائلين: هل استطاع الحدّ الشعري أن يعيد تحديد السيرة الذاتية ويفقدها صلاحيّتها، وهي تنتقل من قيد النثر إلى الشعر باعتباره خطابًا وفعالية لُغويّة خاصّيْن ؟ كيف يُشكِّل الخطاب السيرذاتي، في سياق اهتمام الشاعر العربي به، طريقةً خاصّة في بناء القصيدة وفضائها التخييلي بمجمل قيمه الخاصة، أو في العبور بها إلى السرد؟

  في هذا السياق، تأتي العناوين والحوارات التي أنجزتها وأجبت فيها عن أبرز القضايا التي تحدثها العلاقة المتوترة بين السيرة الذاتية والشعر، بين الشخصي واللاشخصي.

   إن الشعر، وهذا أحد أسباب انشغالي بالموضوع بحثيًّا وأكاديميًّا، يجب أن يتوجه أكثر إلى الأدب الشخصي الذي هو من طبيعته النوعية، وبخاصة في ظلّ انفتاحه على تقنيات الكتابة الجديدة بما تتطلبه من سرد وتخييل ومحو. كما أن الشاعر المعاصر وهو يتحدث عن جوانب من سيرته الذاتية بأي طريق من الطرق، إنما ينقل إلى الجيل الجديد مختبره الذاتي بإشراقاته ونواقصه، ويجعل من جذوة الشعر متّقدة عبر الذوات.

س: هل يحقّ لنا أن نتكلم عن شعر مغربي؟

  • وهل كنا نتحدث عن شعر غير مغربي في كل الأوقات؟ بالفعل، هناك اهتمام متصل للمغاربة بالشعر والقصيدة، وقد ازداد عدد ممثّليه بصورة غير مسبوقة.

لكن إذا أردنا أن نرتفع بالنقاش إلى مستوى آخر من الفهم، يمكن أن نقول إن الحديث عن "شعر مغربي" بهذا الوضوح والشمول هو غير موجود؛ لأننا ما نعرفه عنه وما نتداوله من نصوصه كباحثين ومهتمّين، لا يمثل - في نظري- إلا نسبة قليلة منه أو دون ما نطمح إليه. ينبغي أن نضع في الاعتبار أن الشعر المغربي متعدد في لغاته وأساليبه ومتخيّلاته ومقترحاته وآفاقه الجيوثقافية، وأن أكثره غير مقروء ومكتشف في الغالب.

من هنا، علينا أن نتواضع في حديثنا عن الشعر المغربي راهنًا. وأن نتوجه نحو بناء شعرية مغربية تشرع في توثيق النصوص ومقايستها في مختلف أشكالها اللغوية والأنواعية والتعبيرية (عربي، عامي، حساني، أمازيغي، قصائد عمود، وتفعيلة ونثر وومضة وتبراع وإنشادن...). هذا أمر أساسيٌّ ومستعجل.

س: باختصار، كيف تنظر إلى:

- الشعر؟

 يا للورطة حتى صادفتُ طفلًا يرسم الشمس بالطبشور، ثُمّ أخذ ينفخ فيها.

- القصيدة؟

قصيدة وراء قصيدة كأنّنا نشدُّ التجاعيد إلى بعضها البعض في وجه الحياة الجهم.

- الصفحة الشعرية؟
تظلّ أبدًا على دين المحو.

- الأسلوب؟

فنّ السهل الممتنع.

  • الفايسبوك؟

إذا تركت كل شيء جانبًا، فإنه يمثل سانحة حقيقة لكي ينمو الأدب الشخصي في ثقافتنا المعاصر.

-بدر شاكر السياب؟

روح شعرية عظيمة. كلما حلّتْ ذكرى رحيله الفيزيقي، أتخيّل أنه يطلبني على الهاتف لنزهة في أغوار جيكور.

  • صلاح عبد الصبور؟

في القاهرة، وجدته ما زال يقرأ "مأساة الحلاج"، وحوله الناس يضحكون.

  • أحمد بركات؟

نصوصه هي التي أوحت لي بانبثاق حساسية جديدة في الشعر المغربي، وهو لذلك مُدانٌ في كل الأوقات.

  • عبد اللطيف الوراري؟

أعتقد بأنّي نسيته في مكانٍ ما، وقد يكون على الأرجح حصوةً في نهر كبير.

*الملحق الثقافي لجريدة (بيان اليوم)، عدد الجمعة 26 أكتوبر 2018.

المغربي عبداللطيف الوراري لـ"العين الإخبارية": قصيدة النثر تواجه خطابا نقديا سلفيا

حاوره: السيد حسين

أكد الناقد والشاعر المغربي عبداللطيف الوراري أن قصيدة النثر تواجه خطابا سلفيا في النقد العربي، داعيا الى ضرورة التعامل معها بأدوات جديدة.

والوراري هو واحد من الأسماء المهمة في المؤسسة المغربية النقدية المهتمة بقضايا الأدب العربي، وهو عضو بيت الشعر في المغرب، وحاصل على شهادة الدكتوراه في الآداب، ونال جوائز أدبية، منها جائزة الاستحقاق من جوائز ناجي نعمان الأدبية- لبنان، عن ديوانه "ما يُشْبه نايًا على آثارها" (2007)، وجائزة الشارقة للإبداع العربي عن دراسته النقدية "تحوُّلات المعنى في الشعر العربي" (2008-2009). 

 في حواره مع "العين الإخبارية" قال الوراري: "إن المشارقة يجهلون الشعر المغربي وما يقع فيه"، مشيرا إلى أهمية عدم قصر وظيفة الشعر على ما هو فنّي وجمالي صرف فحسب، والتجديد في بعدها السياسي بمعناه الواسع.. وإلى نص الحوار:

س: ما الذي دفعك إلى كتابة الشعر، وما المؤثرات التي كانت السبب في ذلك؟

- انفتحتُ على الشعر وتعايشتُ معه منذ صغري وأثناء نزوحي من قريتي الصغيرة إلى عالم المدينة بمشاهدها المتناقضة، ولهذا، كلّ ما قرأته وتعرّفتُ عليه في البداية من دواوين الرومانسيين، وقصائد الحبّ التي غنّتْها أمّ كلثوم تحديدًا، ثم ميلي الانطوائي وانجذابي للغة الخاصة في الشِّعر واقتسامها الحلم معي، حتى في فترات اليقظة، قد يكون كلُّ هذا بالنسبة لي عزاءً، ويرفع الشِّعر في وجداني إلى مرتبة الضروريّ.

س: صدرت لك العديد من الأعمال الشعرية.. ما التغير الذي طرأ على تجربتك من البداية إلى اليوم؟

- كلّ ديوان هو امتدادٌ لما سبقه على نحو من الأنحاء، وليس تواضُعًا إذا قلت لك إنّ علاقتي بما كتبتُه سابقًا ليست على ما يرام، إذ كُلّما فرغتُ من ديوان جديد قلتُ في نفسي إنّه عملي الأول، دائمًا ثمّة شعور بالنقصان، وقلق الكتابة.

س: يجد القارئ لدواوينك احتفاءً بالذكريات.. ما الذي تمثله لك؟

- شعري مرآة لحياتي ليس التي عِشْتُها وحسب، بل كذلك التي لم أَعِشْها، وهذا ما يعطي لما أكتبه صفة الشعر الشخصي، وهناك دائمًا عودة إلى الماضي، ولكنها ليست عودة تنقطع فيما مضى فتسجن نفسها داخل نوع من "البكائيّات"، بل هي بالأخرى تَصِل هذا الذي مضى بما صار إليه حاضري وحمله معه في نهر الزمن من رضوض وانكسارات.

س: هل معنى ذاتية تجربتك الشعرية أنها منقطعة عن الواقع وغير متّصلة بهموم الناس؟

- قد تكون كذلك بمعنى ما، لكنّها في جوهرها مرتبطة بالإنسان الذي انتهبه الواقع وكاد يُجهز على روحه، فتظلّ القصيدة، من ذات إلى ذات، تتغنّى بعذابات الإنسان، هنا، سياسة الشِّعر؛ بحيث يعبر كلّ شاعر عن اللاشعور السياسي الذي ينبض في صميم كتاباتنا وهو موجعٌ للغاية، لكن لا ينبغي أن يُلهينا بالأمل والدفاع عن المستحيل، وإلّا فما أحزن الشعراء في أُمّة ضائعة.

س: هل يعني هذا أن الشعراء ابتعدوا عن تغيير الواقع؟

- دائمًا ما نُواجَه، بحسن نيّة أو سوئها، بهذا السؤال: ماذا بِوُسْع الشعراء أن يُغيّروا؟ وفي اعتقادي أنّه حينما نطالب بالتغيير فإنّنا لا نقصد به التغيير المادي سياسيًّا واجتماعيًّا بالضرورة، لأنّ قدراتنا محدودة ومدى كلماتنا ممتدّ في الزمن، بل نقصد التغيير الذي يمسُّ إحساسنا وتفكيرنا ورؤيتنا إلى الأشياء.ويعد هذا التغيير ملحٌّا ومتنوّعا في آن، لذلك لا ينبغي أن نقصر وظيفة الشعر فيما هو فنّي وجمالي صرف فحسب، وإنّما علينا أيضًا أن نُجدّد في بعدها السياسي بمعناه الواسع الذي لا يبتذله ما هو إيديولوجي وواقعي وتعبوي مباشر وضيّق، بهذا المعنى، يصير للشعر معنى في حياتنا، وضرورة لإنسانيّتنا المعذّبة اليوم.

س: تساءل الناقد المصري صلاح فضل في مقال له مؤخرا عن "ماذا جرى للشعر العربى؟". في نظرك، هل خفت صوت الشعر العقود الأخيرة لصالح الرواية؟ وهل يعني ذلك أن الشعر فنٌّ شارف على الانقراض؟

      - صار من المعتاد أن نسمع دعاوى القائلين بأنّ الشعر خفت صوته وانحسر دوره، أو أنّه يمرّ بأزمة حقيقية تهدد وجوده، أو أنّه لم يعد يستأثر بأولوية لدى الذائقة المعاصرة بفعل بروز فنون أخرى أكثر جاذبية وتمثيلًا لحركة المجتمع، أو أنّه يمثل ارتدادًا عما تحقّق للقصيدة العربية. أعتقد أنّه من الطبيعي أن نسمع هذا وذاك؛ لأنّ العصر الذي نعيشه بكلّ اشتراطاته السياسية والسوسيوثقافية، أو ما يعبّر عنه ميشيل فوكو بـ"الإبستيمي"، حمل إلينا تحوّلات خطيرة مسّت جوهر علاقة الإنسان المعاصر بما حوله، بل مسّت علاقته بنفسه ورؤيته للعالم المرئي والميتافيزيقي.

    لهذا، لا يصحّ أن نتناول قضية الشعر المعاصر بمقارنتها بجنس أدبي آخر مثل الرواية التي صعدت بحكم شروط ليست دائمًا شروطًا فنّية بالضرورة، أو نتناوله بمعزل عن هذه التحوّلات بانفجاراتها وهجراتها وإحباطاتها وموجات اليأس والشك والعدمية التي أشاعتها، وربّما ناظرت في ذلك ما مرّت به سابقًا حركة الشعر الحرّ؛ حيث واجهتها الخطاب السلفي- التقليداني بالرفض والازدراء والتشهير. فالاقتراب من هذا الشعر يلزم تغيير زاوية النظر وأدوات تحليل الخطاب على نحو ما يكشف لنا مدى الإضافات النوعية التي تخلّقت في رحم التجربة الشعرية الجديدة التي عانقت أفقًا جديدًا لا عهد الشعرية العربية به، بقدر ما أنّها انفضّت عن مقولات "الجيل" و"ثنائية الشكل والمضمون" و"ما يطلبه الجمهور" وغيرها من المقولات المتحجّرة التي تعمى عمّا جرى للشِّعر وفي نهر الشعر من إبدالات خاصّة انعكست على طبيعة لونه ورائحته ومدى عمقه.

    أستطيع أن أقول إن شعرنا المعاصر يعرف دورة جمالية جديدة تضطلع بها – كما أسميته في أكثر من مناسبة- حساسيّاتٌ جديدةٌ يقودها وعي شابّ منشقٌّ وغاضب ويائس ومندفع إلى قول ما لا ينقال؛ وذلك بما اختطّتْهُ هذه الحساسيات من أشكال وأطر فنّية متعايشة فيما بينها، وأحدثته من لغات وأساليب ورؤى واختراقات جمالية مغايرة تتناسب مع شرط الكتابة المفتوحة.

س: كيف ترى الشعر المغربي حاليا؟ وهل أثّرت ثنائية المركز والأطراف على صورته؟

-الشِّعر المغربي يمرُّ بعافية جيّدة، بل أقول إنّه لم يعرف في أي وقت وضعًا مزدهرًا مثلما يعرفه في وقتنا الراهن. لكن إخواننا المشارقة يجهلون الشعر المغربي وما يقع فيه، وليس بحوزتهم سوى مجرّد كليشيهات. وقد أتيح لي في أكثر من مناسبة أن أكتشف هذا الجهل، وأكتفي هنا باثنتين:

في المضيق لما كان الملتقى المتوسطي للشعر يحتفي بالشاعر محمد السرغيني، وجدت أن شعراءهم من ضيوف الملتقى لم يسمع بشاعر يحمل هذا الاسم، وهو الذي وخط الشيب رأسه وأتى في الشعر بالعجائب.

في القاهرة لما كنت ألقي في الأتيليه ورقة عن الشعر المغربي بتعدد متونه وتجاربه وحساسياته، تفاجأ الحضور بما سمع ووقف على جهله البائن بهذا الشعر.

وفي هذه المناسبة أو تلك، كانت العبارة التي تتناهى إلى مسمعي أن الإبداع لا عهد للمغرب الفقهي والنقدي به، وأنّ "بضاعتنا رُدّت إلينا".

واليوم يتجدّد هذا الجهل؛ حيث نطالع من بعض الأصدقاء المشارقة لوائح بأسماء أبرز شعراء الحداثة العربية، ولا تجد فيها اسمًا لشاعر مغربي أو مغاربي يكتب بالعربية أو بغيرها.

   وكان من المُؤمَّل في أن تلعب الملتقيات ودور النشر وورشات الكتابة التي تنفتح على الجيد والمختلف من الضفتين دورًا طليعيًّا للجسر بين التجارب، إلا أنها ظلت في مجملها بمنأى عن ذلك، فيما الانفجار الفايسبوكي يتلف الأوراق ولا يعكس - بأي حال- حقيقة المشهد الشعري المغربي في غياب النقد الذي حلت محله ضروب "التزييف" اليومي.

  بل أكثر من ذلك: إنّ المغرب الثقافي عانى من مركزيّتين؛ مشرقية وأوربية، وربّما اليوم من مركزيّة ثالثة: جلد الذات.

س: هل حاولت يوماً أن تكتب قصيدة وأخفقت؟ تغافلت عنها فجاءتك في أوقات لم تتهيأ لها، ولم تكن في أتم استعداداتك؟

- حصل هذا الأمر في كثير من المرّات؛ فالقصيدة ليست مجرد كتابة، بل هي حالة ومزاج واندغام وتشابك مع اللامرئيّ. إنّ الشعر يزورنا مثلما يزورنا عصفورٌ مهيض الجناحين، لكنّه ما زال يرفرف.

* العين الإخبارية الأحد 2019/9/29  

الشاعر عبد اللطيف الواري: النشر الالكتروني يمثل تهديدًا للورقي

حوار أجراه: عبد العالي بركات

- ما هي طبيعة مشاركتك في الدورة القادمة من معرض الكتاب؟

 أشارك في ندوة "المنجز الشعري في المغرب وسؤال التجاوز(مساء الجمعة 14 فبراير 2020، من الساعة 18 إلى 19,30)؛ وهي – في نظري- من الندوات المهمّة التي يحتضنها المعرض؛ لأنّه بدل من الاكتفاء بموائد سريعة واحتفائية في الغالب، ينبغي أن تُمنح لفضاء المعرض منصّات جديرة بوسعها أن تتيح للمتدخّلين فرصة سانحة للسؤال والمدارسة والتأمّل، ولحمهور المهتمّين محاورتهم جنبًا إلى جنب.

  وغنيٌّ عن البيان أن الشعر المغربي في العقود الأخيرة، على الأقلّ منذ أواخر الثمانينيات، قد حقّق طفرة قويّة على مستويّات شتّى في الكتابة الشعرية، وهو ما على الخطاب النقدي أن يواكبه ويبحث فيه. ولهذا، لا يمكن الحديث عن نقد الشعر في المغرب إلا باستحضار ما تراكم من منجز شعري غزير كمّاً وكيفاً، ومن ثمة يمكن أن نطرح سؤال التجاوز ونقايس مستويات تحقّقه ونسب تردّداته في مدونتنا الشعريّة المعاصرة.

- ما هو أحدث إصداراتك، وماذا عن محتواه؟

   هما إصداران: الأول تحت "الذات، الهوية، الكتابة: حواراتٌ في الشعر المغربي" (منشورات بيت الشعر في المغرب، الرباط 2019)؛ وهو كتاب حواري وأوتوبيوغرافي يشتمل على حوارات مع نحو ثلاثين شاعرًا وشاعرة، كلّ واحد منهم يُمثّل بشكل خاص قضيّته الرئيسية داخل الشّعر الذي يكتبه وشكل علاقته بالجيل الذي ينتمي إليه من الأجيال المؤسسة خلال العقود الثلاثة التي أعقبت الاستقلال السياسي والثقافي للمغرب (الستيني، السبعيني والثمانيني)

والثاني تحت "سِيَر الشُّعراء: من بحث المعنى إلى ابتكار الهويّة"؛ وهو كتاب يدرس السير التي كتبها بعض الشعراء وجنَّسوا محكيّاتهم تحتها (ذاتية، ثقافية وشعرية)، وهي قليلة بالقياس إلى عشرات السير الأخرى التي ألّفها مؤلفون من زوايا ومشارب وأفهام أخرى مختلفة. تُعبّر هذه السير عن روح جديدة في كتابتها، وعن كيفيّاتٍ مخصوصة في بنائها وتخييلها، ويتجلى فيها الشِّعر بأناه الغنائي والمجازي حاضِرًا فيها بكثافته ليس على مستوى الكون الاستعاري والتخييلي لهذه السير، بل كذلك على مستوى تشييدها فنّيًا. لقد أثارت مثل هذه السير، مُجدَّدًا، مسألة الشعر المقيم في قلب الظاهرة السردية. والعكس صحيح؛ عندما يتعلق الأمر بالسيرذاتي وشكل استضافته داخل الفضاء الشعري.

- ما هي أبرز المراحل التي قطعتها تجربتك الأدبية؟

   عندما دوّنتُ أول حروف أبجديّتي الخاصة في لحظة خاطفة، لم أكن أتصوُّر أن الكتابة قد ملأت علي أفقي ونطقت اسمي الثاني باعتبارها شرط وجود إلى الأبد. حدث هذا قبل ثلاثين سنة. كان الشاعر أوّلًا، المفتون بالروح الرومانسية وقيمها الفنية، ومع الوقت تطوّرتْ رؤيته للعالم، بل أخذت تنزاح باستمرار إلى مسرح القسوة وشظف الحياة الإنسانية ومشاهد عذابها وصراعها للخلاص الأرضي. ثُمّ التحق به الباحث الذي عاركته الدراسة الأكاديمية في الجامعة على يد أساتذةٍ أكفاء، فأصبح  صاحبنا يزاول مهمّة الناقد بما تفرضه من شغف ومتابعة حينًا ومؤونة وعنت حينًا آخر .

   أشعر أنّ هذا اللقاء الذي تمّ بينهما كان ضروريًّا، فبعد الموهبة وشطحاتها لا مندوحة من خبرة ووعي وتأمُّل هي متاع الناقد نفسه. لنقل إنّ هناك تجاوبًا بين الشعر والنقد، هو تجاوب فعاليّتين تتحاوران في الذهاب-الإياب داخل معماري الكتابي نفسه، ولا تقعان على طرفي نقيض. فكل منهما يلبي حاجةً نفسيةً، علاوةً على ما ينهضان به من أعباء المعرفة والتأمل والبحث.

  في كتابتي الشعرية سعيت أن يكون لي صوتي بين أبناء جيلي، مثلما اهتممت في منجزي النقدي بأسئلة الشعرية العربية قديمها وجديدها، وبتجارب الشعر العربي الحديث والمعاصر التي كانت تنادي عليّ من أمكنة بعيدة، وحاولت عبره أن أجدّد النظر في مسائل الإيقاع والحساسية الشعرية الجديدة والسيرة الذاتية في الشعر. وقد انخرطت قبل سنوات قليلة في الاهتمام بالمشروع السيرذاتي داخل مجال الشعرية العربية نقداً وتقييماً، وهو يهمّ مجموع أمشاج السيرة الشعرية وأنواعها الكتابيّة من قصائد وسير ذاتية وثقافية ورسائل ويوميّات.

- ما هو تقييمك للأدب المغربي المعاصر؟

   يعرف الأدب المغربي في وقتنا الراهن حركيّة لافتة للنظر والإعجاب، سواء في المجال الشعري أو السردي بكلّ صنوفه وأجناسه التعبيريّة. بل يمكن القول إنّ ما يُكتب عندنا يشكّل القاعدة الصلبة للثقافة العربية المعاصرة، ويقدم صورة مشرقة عنها في ظلّ زمان رمادي يعبث بأجمل رموز حضارتنا وقيم تعايشنا المشترك. الحضور الذي يمثّله فاعلو هذا الأدب، والجوائز التي ينالونها، والاعتراف القويّ الذي استحقّوه من القاصي قبل الداني، ليس إلا علائم فوق الإطراء على دليل عافية وبشارة خير.

- ما موقفك من الأجناس التعبيرية المستحدثة، مثل الومضة القصصية، الهايكو المغربي..؟

   أرى أنّ أدبنا المعاصر يغتني بالأشكال أو التعبيرات الفنية الجديدة التي يستلهما في حواره مع الثقافات الأخرى الوافدة من أوروبا واليابان وأمريكا وغيرها، وهو ليس انتقاصًا من أصالة هذا الأدب وعراقته كما يرى البعض أو يغمز به، بقدر ما هو ضرورة لإثرائه وتحديثه باستمرار وتجديد رؤاه الإبداعية ومواقفه من العالم المصطخب الذي يحيا فيه.

- هل أنت متفائل بخصوص مستقبل الكتاب الورقي في ظل النشر الرقمي؟

  ليس إلى حالة العمى والاطمئنان الساذج؛ فرغم أن الكتاب الورقي ما زال يغري قرّاءه ويمارس فتنته عليهم برائحة الورق وطباع الوصال والحميمية، إلا أن النشر الورقيّ بكلّ توابعه مثل تيسير النشر والاقتناء وسرعة الانتشار، عدا أروقة المكتبات الإلكترونية الضخمة، يمثّل تهديدًا حقيقيّاً ومتنامياً للورقيّ، وإلا لما علت شكاوى دور النشر في الآونة الأخيرة، وشكاوى المبدعين من أعمال القرصنة قبل أن تنزل الكتب نفسها إلى السوق. ولهذا، لا بدّ من دعم الكتاب الورقي من الجهات المسؤولة على قطاع الثقافة ومواكبته في كلّ مراحل نشره وتداوله، ومن تشريعات عاملة تحترم جهد المبدعين وتُجرّم مثل تلك الأعمال المشينة التي تنتشر مثل بقع الزيت التي تحدّ تدفق النهر، ومثل نيران المفرقعات الصينية التي تريد أن تحجب ضوء الشمس.

 * الملحق الثقافي لجريدة (بيان اليوم)، عدد الجمعة 14 فبراير 2020.

عبد اللطيف الوراري: أتبنّى مفهوم الحساسية في مقاربة التجربة الشعرية الجديدة

حاوره: محمد الديهاجي

كما هو في علمك، تغدو القصــيدة عند كل شاعر، بعد أن تنضج تجربته الشعرية، وتتخطى مرحلة الكتابة الحدوسية أو العفوية، أقول تغدو مشروعا يعكس تصور الشاعر للكتابة ومدى وعيه بها. فكيف تنظر للكتابة الشعرية كأفق في مشروعك الشعري؟

 - كنتُ مشدوداً، منذ بدايات قصيدتي الأولى، إلى ميلٍ في الإطالة والتثقيف والتنقيح، بزعمي أنّ القصيدة هي طول النّفَس، وأنّ الشعر صنعةٌ وفنٌّ. وهذا الفهم للقصيدة تأتّى لي من قرءاتي لتاريخ الشعر والشعرية عند العرب، وسعيتُ إلى تجسيده بصيغ وأشكال متنوّعة تتطوّر مع تحولات التجربة، بدون أن تنزاح عن جوهر ذلك الفهم. في ديواني الأوّل «لماذا أشهدت عليّ وعد السحاب؟»، والدواوين الثلاثة التالية: «ما يُشبه ناياً على آثارها» (2007)، و«ترياق» (2009)، أحاول قدر الإمكان أن أطوّر تجربتي، بدءاً من الغنائية التي أعمل عليها باستمرار بجذريْها العاطفي والرمزي، وانتهاءً برفْد المتخيّل الذي يدفع بالذّات إلى أقصاها في مخاطبة المطلق، عبر وجوهٍ وحيواتٍ وعوالم متعدّدة، بهذا الشكل أو ذاك. فلا يعنيني في الأشكال التي اُكبّ عليها بقدر عنايتي بإيقاع الذات والعمل عليه، داخل البناء النصّي، الذي ترفده موسيقى هامسة من الإيقاع، ويسهم فيه تنويع التراكيب، مثلما عنايتي بالتصوير الشعري وإدارته في إطار من الحوار الخارجي، الذي يستبطن الحالات الشعرية المختلفة، وهي تشفّ عن ذاتيّتي وشرطها الثقافي والوجودي. مع ديواني «ذاكرةٌ ليوم آخر» (2013)، عانيتُ من مرحلة عبور نفسي وجمالي من الطور السابق إلى طور آخر أكثر جدّةً وتنويعاً على همومي الشخصية. وقد عكست قصيدة «تقاليب ضوء» المكوّنة من مقاطع شذرية متراكبة، هذه الروح العبورية بامتياز. وهكذا، فإنّي اليوم أكتب شعراً مختلفاً، شعراً مائلاً إلى القصر، مقطعيّاً، متشظّياً وشذريّاً أُضمّنه أمشاجاً من حياتي المتخيّلة أكثر منها الحقيقية، انسجاماً مع تصوُّري للذات والزمن والكون. وفي نظري، أرى أن الوقت حان للقطع مع القصائد الطوال ذات البناء الغنائي أو الدرامي الشاهق، التي لا تتوافق مع طبيعة حوامل الكتابة الجديدة، إنتاجاً وتلقّياً؛ فالمُعوَّل عليه ـ هنا – هو الكتابة الشذرية أو الإبيغرامية التي سنحت لها اليوم سانحة ثمينة، لكي تنقل الشعر إلى عهد جديد، وتلقٍّ جديد، ومقولات جديدة.
يعيــــش المشهد الشـــعري المغربي اليوم، وضعا مشوبا بالالتباس بالنظر إلى الرواج الحاصل على مستوى الإصدارات والنشر الورقي والإلكتروني، بدون اعتبار، في أحايين كثيرة، للقيمة الفنية لما يكتب ، من جهة، ومن جهة أخرى نسجل توترا ملحوظا في العلاقة بين الشعراء وجمهور الشعر. ما تقييمكم لهذا الوضع؟

– إذا طالعنا نصوص التجربة الشعرية التي انخرط في كتابتها الشعراء، ابتداءً من أواسط التسعينيّات وعبر بدايات الألفية الجديدة، جاز لنا أن نستقرئ السمات الشعرية الأساسية التي ترتدّ إليها، ومن ثمّة وقفنا على حجم المغامرة التي ارتادوها بما تنطوي عليه من رهانٍ على الاختلاف والتعدُّد؛ فهم لا يكتبون بسويّةٍ واحدة، ولا يجمع بينهم فهْمٌ محدّدٌ للعمل الشعري، أو هم يشتركون في هذه الخصيصة، أو تلك، ويتنازعون هذا البعد وذاك. كما أنّ مصادر كتاباتهم تعدّدت جغرافيّتها، لتشمل كثيراً من آثار الشعر العالمي بلغته الأصلية أو مترجماً. ولا شك في أنّ ذلك ممّا يُغني الشعر المغربي المعاصر، ويصنع حيويّته، بالقدر الذي يعكس من خلاله صراعاً ضمنيّاً بين جماليّاتٍ متعارضة في كتابة القصيدة، وطرائق مختلفة لبناء الذوات ورؤاها إلى العالم.
ليس من شك فـــي أن ما يمــــيز هـــذا المشــهد اليوم، كما تفضلت، هو التعدد والاختلاف، وهذا معطى صحي وإيجابي بالنظر إلى حق كل شاعر في الاختلاف الشــعري، بمبرر اختلاف الحساسيات. فما هي أبعاد ودلالات هذا المفهوم (الحساسية) عندك؟

- في قراءتي للشعر المغربي المعاصر، أتبنّى مفهوم الحساسية، وأتوسّل به كأداة إجرائية في مقاربة التجربة الشعرية الجديدة، باعتبار أنّ الحساسية، هنا، نتاج سياق سوسيوثقافي ضاغط، تستجيب لمؤثّراته وتتفاعل معه باستمرار؛ ومن ثمّة يتركز تحليل مفهوم الحساسية على بيان أثر الإبدالات الجمالية، التي طالت فضاء القصيدة الحديثة، أو تلك التي اعترت المادة الشعرية في نصوص التجربة الجديدة. وبما أن الحساسية الجديدة ممتدّ في الزمن، فإنّ استعمال مفهومها وتصوُّرنا لها لن يكونا ذا دلالة، إلا عندما تكون مدة سريان التغير ممتدّة في الزمن، هنا والآن. وهي، من هنا، أبعد من أن تكون تعبيراً عن الموجة الجديدة التي يلحقها بعضهم بـ(الموضة)، ويكرّسها قدحاً أثناء حديثه عن التجربة الشعرية الجديدة. لقد أبان عدد غير يسير من شعراء التجربة الموهوبين، من خلال اجتهاداتهم واقتراحاتهم النصية، عن وعيهم باشتراطات الحساسية الجديدة، فانحازوا إلى شعريّتها المختلفة التي تقوم على تنوّع الرؤى وتمايزها، بنسب محدّدة، عمّا سبقها، وتكشف عن تحوُّل في الحسّ الجمالي، وفي مفهوم الذات والنظر إلى العالم، وفي تقنيات التعبير الفني للقصيدة خاصة، وللكتابة عامّة. وهكذا، فإنّ الارتباط بعامل الزمن لا يعني لنا من قيمة إلّا بمدى قيمة الأشخاص المتحرّكين داخله، ودرجة حضورهم فيه. وإذ أتحدّث عن حساسية جديدة في الشعر، فإنّما أريد التوكيد على قيمة التحديث والمغايرة والاختلاف التي صاحبتها وتبنّتْها، بدلاً من حساسية قديمة كانت ترهن الشعري بالأيديولوجي والرسالي في زمنٍ ما وحقبةٍ ولّتْ. أمّا هذه الحساسية الجديدة فهي ليس حساسية واحدة ومنسجمة، وإنّما هي بالفعل حساسيّاتٌ متعددة وغير منسجمة، قياساً إلى أنّ رؤاها ومرجعيّاتها وروافدها وطرائق تدبُّرها للكون الشعري وبنائه مختلفة إلى حدّ التعارض، وأنّ شعراءها لا ينضوون في جيل، ومدرسة وتيّار ما. إنّهم منذورون لذوات لا تُحلّق إلا لتُخفق، وأيادٍ لا تكتب إلا لتمحو. ويحقُّ لنا، بعد هذه السنوات القليلة، لكن المؤثرة، أن نتكلّم عن شعرية مغربية جديدة بما للزمن من استحقاقاتٍ، تأتي عبر ما تراكم في مجال النّوع الشعري والإضافات التي يشهدها الشعر المغربي بوصفه «شعر أفراد وليس شعر أجيال».

بالعودة إلى تجربتـــكم الشعـــرية، فـــي أي حساســـية يمكن إدراج تجـــربة عبد اللطيف الوراري؟

- أعتقد أن تجربتي الشعرية تنخرط في هذه الحساسية بجُمّاع ما فيها من مقترحات وأشكال صياغة ورؤى جديدة للذات وللعالم. ولقد تحدّثتُ عن هذا في نص شهادتي عن «التجربة الشعرية الجديدة في المغرب» التي احتفى بها بيت الشعر المغربي، يوم 19 ديسمبر/كانون الأول 2009 في الدارالبيضاء، عندما قلتُ إنّها: «تجربة تتنامى في عبورها الخاص، وفي انتباهها الخاص، منحازةً أكثر إلى كتابة تشفُّ عن ذاتٍ تعاني عزلتها، وتواجه هشاشتها، فيما هي تطفح بالحب والغناء والأمل في إعادة صياغة الحياة والتحرُّر من القيود».

*القدس العربي، الخميس 2 أبريل/ نيسان 2020