فدوى طوقان: رسائل حبّ إلى سامي حداد

 

Rasael hop

صدر عن دار أزمنة في عمان (يناير 2020)، رسائل جديدة للشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان (1917-2003)، وهي "رسائل حبّ" تبادلتها مع الشاعر والإعلامي الأردني- الفلسطيني سامي حداد، ويعود تاريخها إلى أواسط السبعينيّات؛ أعوام 75 و76 و77.

   وجاء على غلاف الكتاب  الذي يقع في 154  صفحة من القطع المتوسط، كلمةٌ من المقدمة التي كتبها الشاعر والناقد المغربي عبد اللطيف الوراري، ما يلي: "هذه الرسائل هي شرط كينونة ودليل شهادة حيّة على قصة وجود شاعرة إنسانيّة مؤثرة مثل فدوى طوقان، وعلى قصة حُبّها الصادق الذي يجمع في ثناياها جمال الأنثى إلى هشاشتها الشفيفة ورؤيتها الحسّاسة، ثُمّ على محيطها وعصرها المصطخب بالأحداث والأكاذيب والخسارات الجماعية؛ ولهذا من غير المقبول أن تبقى "طيّ الكتمان" في أدراج النسيان أو في عداد السجلّات المحروقة.

ليس في رسالة من هذه الرسائل ما يشين إلى صورة فدوى ويسيء إلى شخصيّتها الرمزية العظيمة، وإنّما ليس فيها إلا ما يُكبرها في وجداننا ويقوّي اعتزازنا بها وتوقنا إلى سماع صوتها من جديد، وبالتالي نعاود اكتشاف أطراف جديدة من حياتها الشخصية والعاطفية وأسلوبها الشعري، وذلك من غير إسفاف أو بدافع ثرثرة وفضول."

    ويكتشف قارئ الرسائل أن الشاعرة فدوى طوقان ضمّنت مراسلاتها جوانب مهمّة من سيرة حياتها العاطفية وشعرها ومواقفها من الأشياء والوجود، وهذا مبرّرٌ آخر يُضاف إلى قيمة هذه الرسائل.

وللإشارة فقد صدرت قبل عامين رسائل أخرى مع ثريا حداد (دار طباق، رام الله 2018)، وهي إلى جانب رسائل الحبّ تلقي أضواء جديدة على حياة الشاعرة الفلسطينية وسيرتها الذاتية.

 

حبّ فدوى طوقان سامي حدّاد

معن البياري

العربي الجديد

2020/1/24

سامي حدّاد (80 عاماً) في العنوان أعلاه، هو الإعلامي الأردني الذي عرفه الجمهور العربي سنواتٍ على شاشة "الجزيرة"، وقبل ذلك في "بي بي سي" مذيعاً ومقدّم برامج متنوّعة، عقب عمله في الإذاعة الأردنية التي التحق بها في العام 1961، وكان شاعراً وله ديوان منشور. قال، قبل سنواتٍ، إنه يعكفُ على كتابة مذكّراته التي سيضيء فيها على سيرته المهنية، وعلى خفايا مقابلاتٍ أجراها مع ملوكٍ ورؤساء ومشاهير. لم تصدُر المذكّرات بعد، وربما لم تكتمل كتابتُها. وإنما أشهر سامي حدّاد، في كتابٍ من نوعٍ خاص، مقطعاً (قصيراً؟) من سيرتِه، اشتمل على مفاجأةٍ مثيرةٍ. ليس الكتاب له، ولا هو الذي أعدّه، ولا قدّم له. وإنما يخصّه فقط، إنه رسائل من الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان (1917 – 2003) إليه. صدر بعنوان "فدوى طوقان .. رسائل حُبّ إلى سامي حدّاد" (دار أزمنة، عمّان، 2020). اكتفى صاحبُنا بأن وفّر الرسائل لشقيقٍ له، ثم راجعها وقدّم لها في الكتاب الناقد المغربي، عبد اللطيف الوراري، الذي يُخبر، في واحدٍ من هوامش تقديمه الحَسن للرسائل، أن سامي تردّد بدايةً في أن يفتح صندوق الرسائل الذي مضى عليه وقتٌ طويل.

هي 24 رسالة، قصيرة، وبعضها قصيرٌ جداً، بعثتها الشاعرة إلى زميلنا الإعلامي العتيق في السنوات، 1975 و1976 و1977. اعتبرها الوراري رسائل حبّ، وله ذلك، لأن في سطورٍ غير قليلةٍ ما يشفّ عن حبّ، صريحٍ أحياناً، غير أن الأوضح منه هو الصداقة المحبّة، أو المنزلة الأعلى من الصداقة، المنزلة الأدنى من الحبّ الذي لا تلقى فيه تعبيراتٍ عن هيامٍ ووجدٍ والتياع. هناك مقاديرُ من حبّ خاص، وصافٍ، تعرفُه، أنت قارئ رسائل فدوى طوقان، من حديثِها عن انتظاراتها في المساءات، وكل يوم، الصباحاتِ لتسمع صوت سامي حدّاد في الإذاعة. ولا أظنّ أن الشاعرة الشهيرة كانت تُجري رقابةً على مفرداتها، بشأن مشاعرها، عندما تُخاطب سامي، في الرسائل، بالعزيز الصديق، سامي الغالي، العزيز سامي، الصديق العزيز سامي، العزيز الأثير سامي، سامي، سامي العزيز، عزيزي سامي. كانت تختار عباراتها من المساحات التي يقيم فيها سامي حدّاد في جوانحها. إنها تبدأ واحدةً من الرسائل: "سامي.. أشتاق إليك"، ثم تذهب إلى الحديث عن الأدب والفن والشعر والسياسة. ليس في الرسالة أيّ إتيانٍ على لوعة عاشقةٍ تجاه معشوقها، ولا عن تباريح حبّ وهوى، ولكن الرسالة تختتمها كاتبتُها: "مرّة أخرى، أشتاق إليك.. أشتاق كثيراً". تكتب إلى سامي، في اليوم الأول من عام 1976، رسالةً تبدأ: "سامي العزيز.. أنظر، إنك أول كلمةٍ أكتبها، وأول إنسانٍ أتحدّث إليه في صباح هذا اليوم الجديد، فكل عامٍ وقلبك مليءٌ بالمسرّة والحب والتفاؤل والأمل".

لا تتوفر رسائل سامي إلى فدوى طوقان التي تكتب إليه مرّة "يعذّبني شوقك إلي..". وتؤشّر في موضعٍ آخر من الرسالة نفسِها إلى ما في قولٍ له، في رسالةٍ منه، من "إيحاءاتٍ عاطفية". وتكتب إليه أيضاً في فقرة تالية: ".. أما عن المراسلة والمعاملة بالمثل، فأرجو أن تثق بأن قلب صديقتك المحبّة يلغي دائماً في معاملاته مع أحبابه كل القواعد الحسابية. إن الذين يحبّون، يا سامي العزيز، لا يقدّمون إلى أحبابهم فواتير الحساب". تُخبره، في رسالةٍ سابقة، أنه لا همّ لها، في هذه الأيام، إلا أن تعرف أنه بخير. وفي رسالةٍ أسبق: "اكتب لي قبل أن تذهب هذا المساء إلى النوم، هذا رجاء". وتشير، في أخرى، إلى أشواقِه (كما كتب إليها)، وتكتب: "الشكر لك على ذكرك إياي في الربيعين المنتشرين حولك. أما أنا فحيثما كنتُ هبطَ ظلّك، وأغرقني في ربيع دائم".
بدا في الرسالة الأخيرة أن فراقا سيحدُث بين الاثنين، وتكتب فدوى طوقان إلى سامي حدّاد إنها لم تؤمن يوماً بأبدية العلاقات البشرية، فكل ما له بداية له نهاية. لا تُخبرنا الرسالة بسبب هذا الحال، وليس مهمّاً أن نعرفه، نحن قرّاء الكتاب الشائق، والأصل أنْ لا ينكتب وأنْ لا نعرفه. الأهم، أساساً، في قراءة هذه الرسائل معرفة فدوى طوقان أكثر. تحكي في رسائلها عن قصائد لها كيف كتبتْها. تحكي عن شعورِها بالوحدة والوحشة. هذه إضاءاتٌ طيبةٌ في درس فدوى طوقان، شعرِها وسيرتِها. وقد أصاب عبد اللطيف الوراري في أن من أسباب قيمة هذه الرسائل أنها تضمّنت جوانبَ مهمّةً من سيرة حياة فدوى طوقان وشعرِها ومواقفها من الأشياء والوجود. وأصاب أيضاً لمّا كتب إنه ليس في أيٍّ من الرسائل في الكتاب ما يشين إلى صورة فدوى، وإنما فيها ما يقوّي اعتزازنا بها..
شكراً سامي حدّاد، إذن، .. ودائماً.

فدوى طوقان: رسائل (عاشقة)... ومواقف​

جريدة الأخبار اللبنانية، آداب وفنون

الأحد 2 شباط/ فبراير 2020

يزخر تاريخ الأدب العربي والعالمي بمراسلات بين الكتاب والشعراء. مراسلات تتجاوز العلاقة بين الشخصين، لتصبح وثيقة عن حقبة كاملة، باحتوائها آراء وأفكاراً سياسية وثقافية عدّة. من أبرز هذه المراسلات هي رسائل محمود درويش وسمح القاسم، وغسان كنفاني وغادة السمان. أخيراً، عادت الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان (1917 _ 2003/ الصورة) إلى الواجهة من خلال رسائل صدرت أخيراً عن «دار أزمنة» (عمان). الرسائل التي كتبتها طوقان للإعلامي الأردني الفلسطيني سامي حدّاد في السبعينيات هي ما تبقى من قصّة الحب بينهما. عام 1975 تعرّفا في لندن، ثم استمرّت الرسائل بينهما لثلاثة أعوام حتى سنة 1977. هذه الرسائل يحويها المؤلّف الذي صدر بعنوان «رسائل حب إلى سامي حدّاد»، وقدّم له الشاعر المغربي عبد اللطيف الوراري، فيما جمعها سمير شقيق سامي حدّاد. توالت اللقاءات بين طوقان وحدّاد، إلا أن الكثير من هذه القصّة بقي في الرسائل اليت تحوي ـــ بالإضافة إلى جانبها العاطفي ــــ عدداً من مواقف طوقان من الأشياء والحوادث التي كانت تجري حينها، كما تكشف عن جوانب مهمّة من سيرة حياتها الشخصيّة، والشعريّة. هكذا يختلط العام بالخاص، والثقافي بالسياسي، وتظهر نظرتها إلى قضايا عدّة من فلسطين والعالم العربي والاحتلال الإسرائيلي. علماً أن المؤلّف يلي مراسلات صدرت قبل عامين بين فدوى طوقان والكاتبة ثريا حدّاد شقيقة سامي حدّاد بعنوان «رسائل فدوى طوقان مع ثريا حداد» (دار طباق ــ فلسطين) تضمّنت ثلاثين رسالة بدأت عام 1961 بين الكاتبتين واستمرّت حتى وفاة ثريا عام 1996.

فدوى طوقان.. رسائلها إلى سامي حدّاد

 

عمّان - العربي الجديد

2 فبراير 2020

بدأت قصة هذا الحُبّ فـي العام 1975؛ بعد أن زارت فدوى طوقان إنكلترا والتقت بالإعلامي الأردني الفلسطيني سامي حدّاد، وسعدت بالتعرُّف عليه كما تذكر هي نفسها فـي رسالتها الأولى. ثم توطّدت العلاقة بينهما أكثر، عندما بادرت إلى مساعدة سامي أثناء إعداده رسالة جامعية عن شاعر العامّية الأردني نمر العدوان، إذ توسّطت له عند عائلة الشاعر من أجل جمع قصائده المُدوّنة فـي بعض الدفاتر الموزعة هنا وهناك والاطّلاع عليها.

بهذه العبارات، يكتب الشاعر والناقد المغربي عبداللطيف الوراري في تقديمه لكتاب "رسائل حُبّ إلى سامي حدّاد" الذي صدر حديثاً عن "دار أزمنة" في عمّان، ويضمّ رسائل بعثتها الشاعرة الفلسطينية (1917 – 2003) في أواسط السبعينيات؛ أعوام 75 و76 و77.

الرسائل تضمّنت "جوانب مهمّة من سيرة حياتها وشعرها ومواقفها من الأشياء والوجود، وهذا مبرّرٌ آخر يُضاف إلى قيمة هذه الرسائل"، بحسب التقديم الذي يشير أيضاً كيف "تحوّلتْ قصة الحُبّ الحالمة فـي لحظة إلى هزليّة مضحكة، ثُمّ إلى مأساة حكمت على كل شيء بالانتهاء.. إِلّا الذكريات الملوّنة: "كان مبعث حزني الصورة الكئيبة التي انتهت إليها صداقتنا الجميلة دون مُبرّر أو سبب. فقد كان كلُّ شيء على أكمل وجه من الوئام والتفاهم المتبادل. ثم، وبدون مقدّمات، توقّفتْ حركة الحياة بيننا"، كما تكتب فدوى في أطول رسائلها.

في رسالتها "أتراني هززتُ بقصيدتي النخلة؟" المؤرّخة في الثالث من تشرين الثاني/ نوفمبر 1975، تدوّن الشاعرة: "السؤال الملحّ والمحيّر هو: هل تقدر إسرائيل أن توقع بنا أذىً أكبر من هذا الذي نوقعه نحن بأنفسنا؟ مشدوهة أنا بما يجري، أبحث عن معناه فأعيا وأتعب عبثًا. المتآمرون علينا في الظلام ينزلون بنا إلى تحت ليقطعوا علينا طريقنا التصاعدي الذي بدأناه بعد أكتوبر 1973".

وتتحدث في رسالة "عزاء الينبوع" عن شعرها، حيث تسجّل "أجريْتُ بعض التغيير في القصيدة الأخيرة عن أريحا. من عادتي أن أترك القصيدة بعد كتابتها ثُمّ أعود إليها حيث تكون قد اكتسبت منظورًا زمنيًّا فأُبدّل وأُغيّر هنا وهناك. وها هي القصيدة بعد تنقيحها مع قصيدة ثانية كتبتُها بعد إرسال الأولى مباشرة".

تتنوّع المواضيع التي تتناولها فدوى سواء تلك التي تضمّن فيها آراءها حول أحوال العرب في زمن الهزائم، أو وصفها للحياة تحت الاحتلال أو تقييمها للأحداث السياسية هنا وهناك، أو تأملها في عصرها المصطخب بالأحداث والأكاذيب والخسارات الجماعية، لكن هذه المراسلات تظلّ ناقصة ما دامت ردود سامي حدّاد عليها لم تُنشر بعد، للوقوف على طرفيْ العلاقة وتفاصيلها وطبيعة تطوّرها وصولاً إلى نهايتها.

في رسالتها الأخيرة "سلامٌ من نسيم التيمز" التي تحمل الرقم 24، والمرسلة في صيف عام 1980، تدوّن فدوى:

 "ثلاث سنين من صمتٍ وغُرْبَهْ

فمـا أحلـى مصالحـة الأحبَّـهْ

 غفرنـا للزّمـانٍ الصعبِ ذَنْبَـهْ

 وكم جارَ الزّمانُ وكم تعـدّى

ثريا يا أُخيَّةُ، يـا حبيبــه

 لِأَهْـل العشـق أطْـوارٌ غريبـهْ

 طبائعهم مركّبــــــةٌ عجيبــه

 بها عُنْفُ الصراعِ كَـمِ اسْتبـدَّا

 هُمُـو حينًــا عـلى قلــقٍ مُحيـَّـرْ

 وحينًــا في انتشــاءٍ لا يُفسَّــرْ

 تنـاقُضُ حالهِــمْ أمـرٌ مُقــدَّرْ

 يدورُ عليهمو نحسًـا وسعـدَا

 وعالمهـم يظــلُّ رؤىً ووَهْمـا

 وقد تمسـي الحقيقـةُ فيه حُلْـما

عـلى أنّـا نحـبُّ الحـبَّ مهمـا

تقلَّـــــــبَ بحرُهُ جَزْرًا ومدَّا".

وتختم بقولها:

"نسيمُ السلْطِ في "جوبيـلي" بليلُ

 وشمسُ "شكيم" ليس لها أُفولُ

 وبستـان الرضـى حـانٍ ظليـلُ

 نزهِّـر فيه دحنونًـا ووردَا

 فـلا قــرَّتْ عيـونُ الشامتينـا

 ولا هنئـتْ نفـوسُ العاذلينــا

 سنبقى رغـم كيـد الحـاقدينــا

 نفيــضُ محبّــةً ونفيــضُ ودّا

 سلامٌ من نسيـم التيمز أَنْـدى

 وشـوْقٌ يـا ثريـا ليـس يَهْــدا

 هنا فـدوى، هنا سامـي المفدَّى

 صفـا لهما اللقاءُ وطـاب وِرْدَا".

حب واحتراق ورسائل غرام لا تنتهي.. ما سرّ عشق الأدباء للأديبات؟

بديع صنيج 

الميادين نت

  2020/ 03/ 13 

أنسي الحاج وغسان كنفاني وغادة السمان،ثم نزار قباني وكوليت الخوري وغيرهم .. لماذا يقع الأدباء في غرام الأديبات؟ ولماذا يتبادلون الرسائل؟

  • أنسي الحاج وغادة السمان 

«للرسالة سحر أبيض لا أسود، يتحوَّل فيها المرء إلى رقعة ملساء نقية إسمها الورقة، وتخطّ الروح فوقها رموز الصدق. الرسالة جموح القلب إلى المستحيل، وشهيّة الأشواق إلى تقمّص اللغة حتى البقاء»، هذا ما أوردته الأديبة السورية غادة السمّان في محاولة تقديمها الثانية لرسائل غسان كنفاني لها، تحت عنوان "وفاء لعهد قطعناه".

كأن السمان بعبارتها تلك تُحدِّد أركان جماليّات الرسالة الأدبية من صدق البوح وغزارة المشاعر وتخطِّي الزَّمن، بحيث تتأنسن الرسائل، وتتكثّف ملامح كاتبها، ويُصبِح صوته الداخلي أوضح وأعلى نبرةً، حتى أنها علَّلت نشرها ما خطّته يد كنفاني لها بالقول: «لأشهر صوته على الذاكرة كالخنجر»، وذلك ضمن مقالة نشرتها في مجلة "الهدف" البيروتية في تموز/يوليو عام 1979 في الذكرى السابعة لاستشهاد صاحب "عائد إلى حيفا".

وأكدت الكاتبة السورية حينها أن تلك الرسائل العتيقة لم تعد مِلكاً لأحد، وإنما تخصّ القارئ العربي كجزءٍ من واقعه الأدبي والفكري، كما أنها تدخل في باب الوثائق الأدبية أكثر مما تدخل في باب الرسائل الشخصية بعدما انقضى أكثر من ربع قرنٍ على كتابتها، إضافة إلى أن نشرها سيُسهم في إحياء ذكرى الأديب الراحل، وإبراز الجانب الإنساني من شخصيّته النضالية.

دافِع نرجسي

  • غسان كنفاني وغادة السمان

ترى غادة السمّان في هذه الخطوة أيضاً فضحاً للنفاق والزيف الاجتماعي الذي يصادر حق المرأة في التعبير عن ذاتها، ويقسرها على مُسايرة التقاليد وكِتمان علاقاتها الخاصة خشية المجتمع، لاسيما في «عصر التراجُع صوب أوكار تزوير المشاعر البشرية الجائِعة إلى الحرية»، كما تقول صاحبة "أعلنت عليك الحب"، مع عدم إنكارها لدافعها النرجسي من وراء نشر الرسائل، وهو ما عبَّرت عنه بقولها في مقدِّمتها: «ها أنا أستجوب نفسي في لحظة صدقٍ وأضبطها وهي تكاد تتستَّر على عاملٍ نرجسي لا يُستهان به: الفخر بحب رجل كهذا أهدى روحه لوطنه وأنشد ما معناه: مولاي وروحي في يده/ إن ضيَّعها سلمت يده، وأعتقد أن كل أنثى تزهو ولو سراً بعاطفةٍ تُدغدغ كبرياءها.. وأنا بالتأكيد لا أستطيع تبرئة نفسي من ذلك جزئياً»، لتعود وتؤكِّد مرة أخرى أن نشر تلك «الوثائق الأدبية» كان أمانة في عنقها، لأنها من حق المجتمع، وتدخل في باب أدب البوح والاعتراف.

وهذا اللون شبه مفقود في الأدب العربي وهو أحوج إلى التشجيع، فرسائل غسان كنفاني، كما تراها، هي جزء من أدبه الذي هو ملك للناس بعد موته، ولا يجوز أن يُكتم بل إن دافِع الوفاء الشخصي لغسان يقتضي رد جميله، كما تؤكِّد أنها بنشرها لتلك الرسائل تعارض الميل الدائم في الأدب العربي لرسم المناضل في صورة السوبرمان، وتحييده أمام السحر الأنثوي وتنجيته من التجربة، بحيث يتمّ تحويله من رجلٍ إلى تمثالٍ في الكواليس المسرحية السياسية، رافضةً أن تؤذي الحقيقة من خلال إبقاء تلك الرسائل طيّ الكتمان التي أهداها إليها «رجل لم يكن قلبه مضخَّة صدئِة». تقول السمّان: «كما أن للحقيقة سطوة ترفض مُجاملة الزيف، وركوعاً مني لسطوتها سأنشر رسائل زمن الحماقات الجميلة من دون تعديلٍ أو تحوير، لأن الألم الذي قد تُسبِّبه لآخرين عابرين مثلي هو أقل من الأذى اللاحِق بالحقيقة إذا سمحت لقلمي بمُراعاة الخواطر». 

ورغم رغبة صاحبة "الجسد حقيبة سفر" في الحصول على رسائلها إلى كنفاني لتقوم بنشرها إلى جانب رسائله لها، حتى تكون الحقيقة بوجهيها أمام القرّاء، إلا أنها لم تستطع لذلك سبيلاً، وإمعاناً في المُفاجأة قامت السمّان بعد رحيل أنسي الحاج بنشر رسائله لها، وإعلانها بأنها لم تكتب له أية رسالة لأنهما كانا يلتقيان كل يوم تقريباً في مقاهي بيروت، لتكون الحقيقة بوجهٍ واحدٍ مرة أخرى، مع اعترافها بأنها عجزت عن تمزيق رسائله الرائعة أدبياً، مُعتبرةً نفسها واحدةً من المُلهمات الألف للشاعر الذي لا يمتلك سوى حبيبة واحدة  هي الأبجدية، وحب لا يخونه طوال العُمر إسمه.. الشعر. 

سطوره معرَّشة ببخور الكلام

  • كوليت خوري ونزار قباني

من الرسائل التي ما زال القُرَّاء ينتظرونها بشغفٍ كبير، هي ثلاثون رسالة من نزار قباني أرسلها للأديبة السورية كوليت خوري بعد فراقهما إثر قصة حب عاصفة جمعتهما في خمسينيات القرن الماضي، وكانت صاحبة "أيام معه" أعلنت أكثر من مرة عن نيَّتها بنشر هذه الرسائل وفق تسلسلها الزمني مع 16 رسالة أخرى كانت تبادلتها مع قباني وحصلت عليها من إبنة الشاعر هدباء.

لكن المشروع ما زال في الأدراج، ورغم عدم قُدرتنا على التواصُل مع الأديبة، نُمِيَ إلينا أن وضعها الصحي ليس جيّداً، وأن هناك أحد أصحاب دور النشر البيروتية يُحاول ابتزازها بادعائه الحصول على رسائلها لنزار، لكنها تُعلن له باستمرار أنها لم تفعل شيئاً في حياتها تخجل من الإفصاح عنه، ومن ذلك إعلانها في ندوةٍ جاءت بمناسبة الذكرى الثامنة لرحيل قباني بأن رسائله تفصح عن إنسانٍ عاطفي ينضح بالحزن، ولم يكن يفهمه أحد سواها، وأن سطوره كانت «معرَّشة ببخور الكلام».

ذكريات ملوَّنة

  • Sami et fadwa

    الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان

أما ما أُفرِج عنه أخيراً فهو رسائل بالاتجاه المعاكس هذه المرة، من الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان إلى الصحافي الفلسطيني الأردني سامي حداد، وذلك ضمن كتاب "رسائل حب إلى سامي حداد" عن دار أزمنة في عمّان.

وجاء في مقدِّمة الكتاب بقلم الشاعر والناقد المغربي عبد اللطيف الوراري بأن تلك الرسائل التي كُتِبَت أواسط سبعينيات القرن المنصرم تضمَّنت «جوانب مهمّة من سيرة حياة طوقان وشعرها ومواقفها من الأشياء والوجود، ومن ذلك آراؤها حول أحوال العرب في زمن الهزائم، ووصفها للحياة تحت الاحتلال، وتقييمها للأحداث السياسية هنا وهناك، وتأمّلها في عصرها المُصطَخِب بالأحداث والأكاذيب والخسارات الجماعية».

هذا الأمر اعتبره الوراري مُبرِّراً آخر يُضاف إلى قيمة هذه الرسائل، إلى جانب تبيانها كيف تحوّلتْ قصة الحُبّ الحالِمة في لحظةٍ إلى هزليّةٍ مُضحِكة، ثُمّ إلى مأساةٍ حكمت على كل شيء بالانتهاء.. إِلّا الذكريات الملوَّنة، لكن «هذه المُراسلات بدورها تبقى ناقصة أيضاً ما دامت ردود سامي حدّاد عليها لم تُنشَر بعد، وبالتالي عدم إمكانية الوقوف على طرفيْ العلاقة وتفاصيلها وطبيعة تطوّرها وصولاً إلى نهايتها»، كما يشير الناقد المغربي.

الرسائل شخصيات معنوية

  • سيمون دو بوفوار وجان بول سارتر

أما ما يتعلّق بالدافع وراء احتفاظ الأدباء بمُراسلاتهم مع أقرانهم في الأدب، ورغبتهم بنشرها بعد الموت، فله العديد من الأسباب منها ذاتية الأديب ورغبته في إعادة تسليط الضوء عليه، أو لإيضاح صورة الأديب الراحل، أو صورته هو في عيون ذاك الأديب، مع التأكيد باستمرار على أن «الرسائل شخصيات معنوية حيّة، ومن الظلم أن تعيش حياتها في سجنٍ مُظلِم، حتى إذا رأت النور كان نصيبها التمزيق، ثم الموت»، كما يقول الباحث "سامي الكيالي" في دراسته "الرسائل الخاصة" ونشرتها مجلة "المجلة" في عددها رقم 48 وصدرت عام 1960.

كما أن للرسائل أثرها في الكشف عن الكثير من مكنونات الصدور، وقيمتها، بحسب الكيالي، فهي تعبّر تعبيراً صادقاً عن أحاسيس تختلج في ضمير كاتبها، وكلماتها تنسال من قلم مرسلها بصورةٍ عفوية، وكثيراً ما يبوح بأشياء قد لا يبوح بها إذا علم أنها ستُذاع وتُنشَر.

ولو أيقن أن أحداً غير الذي كُتِبت له سيطّلع عليها لآثر أن تظل حبيسة في صدره. وسر ذلك، بحسب الكيالي، أن «الإنسان يكتب إلى مَن اصطفاه بودِّه وائتمنه على سرّه، يشعر وكأنه يكتب إلى ذات نفسه»، وفوق ذلك فإن "الرسالة الشخصية هي انطلاق وتحرّر من كل قيد، وقد يلجأ الكاتب في غيرها إلى بعض التعمُّل والمُسايرة، أما فيها فلا، لأنها مرآة لروح الكاتب أكثر منها لأدبه»، كما يوضِح الباحث "عبد اللطيف الأرناؤوط" في كتابه "تأمّلات في رسائل الأدباء".

التّعرّي أمام الأشباح

  • كافكا وميلينا

وعلى ندرة الرسائل بين أدبائنا العرب، لاسيما تلك الموجّهة من أديبةٍ إلى أديب، إلا أن الغرب زاخِر بمثل هذه الأنماط الأدبية، وربما أن تحرّر مجتمعاتهم أبرز أسباب ذلك.

ذلك أن القارىء يرى الحميمية واضحة ومن دون مواربة، وثمة إعلاء لشأن الشهوة بكافة أشكالها، ومن ذلك رسائل الحب المُتبادَلة بين هنري ميللر وأناييز نين، وهناك ما يُوازيها في علاقة جان بول سارتر بـسيمون دو بوفوار المعروفة تاريخياً بوهجها العاطفي، وأيضاً رسائل الشاعر الألماني راينر ماريا ريلكه لمحبوبته لو أندرياس سالومي، وغيرهم الكثير ومنهم فرانز كافكا في رسائله إلى محبوبته ميلينا، التي أقرَّ فيها بأن الكتّاب يتعرُّون في رسائلهم، وكتب ذات مرة: «أن تكتب رسالة معناه أن تتعرَّى أمام الأشباح. وتنتظر هي هذه اللحظة بجشع. القبل المكتوبة لا تصل إلى وجهتها، الأشباح ترتوي منها في الطريق. بفضل هذا الغداء الشهيّ، تتضاعف بشكلِ مُذهِل».

أدب الرسائل على أهميّته، بات خاضغاً اليوم لطبيعة العصر ومعاييره الجديدة، إذ تم استبدال الورقة بالشاشة والقلم بالكيبورد، وفي بعض الأحيان الاستعاضة عن المشاعر الحقيقية بقلوب ملوَّنة، وصوَر مُتحرّكة، وكأن اللغة تبدَّلت، ورومانسيّتها الجميلة أخذت طابعاً آخر بعيداً عن رائحة الورق والحبر.

التعديل الأخير تم: 04/04/2020