ندوات

::

قراءات بلا ضفاف:

ندوة حول الأدب المغربي وحساسيّاته الجديدة

إيلاف:

من تزنيت (جنوب المغرب): شهدت مدينة تزنيت (جنوب المغرب)، أيام 13-17 نونبر 2007، ملتقى ثقافيّاً ضمّ، عدا الورشات الموازية، قراءات في الإبداع المغربي الجديد تلتْها ندوة بمشاركة عددٍ من النقّاد وكتّاب الشعر والقصة القصيرة.
هكذا تعرّف جمهور المدينة، عن كثب، إلى انشغالات هؤلاء الكتّاب ونواياهم الجماليّة وهم يستمعون إلى نصوصهم الإبداعية وتأملاتهم الفكرية، إذ قُدِّمت قراءات قاربت الإبداع المغربي الجديد كالقراءة النّافذة التي قدّمها، بحرصه على الإستقصاء، النّاقد يحيى بن الوليد بخصوص الديوان الجديد للشّاعر محمد الصابر"الجبل ليس عقلانيّاً"(مطبعة فضالة/المحمدية ــ 2007)، الذي يمثّل استمراراً لتجربة الشاعر المحسوب على "جيل الثمانينات"، وإن كان هناك "شغل شعريّ" يبرز أكثر في تعامله المتروّي والحادّ مع اللّغة، وتبئيره للرّؤية المتحرّرة من "الأصوليّة الأدبية" بتعبير الشّاعر نفسه، الذي أمتع الحضور بنصوصه المجنّحة مثل "النعش"و"ترويض الألم". كما تمّ تقديم تجربة القاصّ أنيس الرّافعيّ في متتالياته مابعد السردية "علبة البّانْدورا" (من قبل القاصّ والرّوائيّ حسن البقالي الذي قال: "يكفي الرّافعي قصّاً أنه "حمّل " التّمثال ما لا يطيق"، في إشارة منه إلى هوسه بجماليّات التّجريب داخل جنس القصة القصيرة، وأضاف "فكلّ شيء في القصة القصيرة ليس على ما يرام بالنسبة لأنيس الرافعي، لذلك وجب الهدم القديم، وإعلاء هيكل آخر بناءً على تخطيطات هندسية ورياضية لا تترك مجالاً للصدفة" متحدّثاً عن الذّات الساردة في الفضاءات المغلقة داخل المتتاليات، وعن إنتاج اللّغة لبلاغتها الخاصّة.ولم يكن تجريب الرّافعي ليحول دون إمتاع الحضور بنصوصه الطريفة في كتابة المختلف سرديّاً.
والتأمت، في اليوم الموالي، ندوة "الحساسية الجديدة وجماليتها الإبداعية" تقاسم فيها المشاركون القول بأنّ الإبداع المغربي في الشعر، والمسرح، والقصّة القصيرة، والسينما يعرف نقلاتٍ نوعيّة وتجارب جديدة.
فمن جهة، تحدّث الناقد المسرحي عزالدين بونيت عن هذه الحساسية التي تسود المسرح المغربي، وقال: "إنّ المشكلة المسرحية تنتقل، لأوّل مرّة، من العمل الإبداعي والجماليّ إلى العمل المؤسّساتي" مثيراً الانتباه إلى الاهتمام بالهامش، والأقليات، والمتون المنسية وذلك في سياقات المستجدّات التي نمرّ بها في ظلّ العولمة. أمّا الشاعر والنّاقد عبد اللطيف الوراري فقد تحدّث في سياق مداخلته "في راهن الشّعر المغربي وحساسياته" عن التجربة الجديدة التي يعرفها الشّعر المغربي منذ التسعينيّات من القرن الفائت وحتى اليوم، والتي تميّزت بصعود قصيدة النثر، والتركيز على الذّات، والعناية بالهامشي والمعيش اليومي، و الحضور الكثيف للشّعر النسائيّ وتوسيع متخيّل القصيدة، مُستعيضاً عن مصطلح "الجيل" بمصطلح "الحساسية". فيما أنصت الكاتب إبراهيم أولحيان إلى النص القصصي النسائي الّذي فرض وجوده في الآونة الأخيرة، وتميّز بخصائص لافتة همّت البناء والّدلالة، مركّزاً على تيمة الجسد في كتابات زهرة رميج ووفاء مليح ولطيفة لبصير، التي تكشف عن "حساسيّة" مختلفة في رؤيتها إلى الأشياء.
ومن جهة أخيرة، تطرّق الباحث السينمائي عبدالمجيد البركاوي إلى "الحساسية الجديدة في السينما المغربية"التي ساهمت فيها رؤى إخراجية وجماليّة مغايرة في نظرها لتقنيّات العمل السينمائي لعددٍ من المخرجين المغاربة أمثال نبيل عيوش، وأحمد أولا السيد، وليلى مراكشي وغيرهم متوقّفاً عند تجربة المخرج فوزي بنسعيد في شريطه اللّافت "ألف شهر".
ولم تمرّ الورقات المقدّمة دون أن يتدخّل الجمهور في الاستفسار والتعقيب والاعتراض ممّا أشعل حماس قاعة خزانة محمد المختار السوسي الوسائطية، المضيفة للفعّاليات التي أقيمت تحت شعار:" قراءات بلا ضفاف: الحساسية الجديدة وجمالياتها الإبداعية"، ورعاها ملتقى الشعلة للكتاب يومي 13و14من شهر نونبر، واستمرّت حتى يومه 17 منه.
وقد أجمع على أهميّة مثل هذه الفعّاليات الثقافية لإعادة بعث النّقاش حول خصوصيّات الأدب المغربيّ، وجماليّاته، ومآزقه، إلى جانب مساءلة دوره في تغيير المجتمع والتّاريخ والثّقافة، وذلك في ضوء المتغيّرات وجلائل الأمور الّتي تحدث الآن في المغرب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

شعراء ونقاد يتحدثون عن مغامرة الشعر المغربي اليوم

Getattachment 3

القدس العربي: طوال أيّامٍ ثلاثة بفاس العامرة، 21 و22 و23 من ماي 2010م، نظّم بيت الشعر في المغرب، بشراكة مع وزارة الثقافة وتعاون مع مجلس مدينة فاس وجامعة سيدي محمد بن عبد الله و كلية الآداب و العلوم الإنسانية - ظهر المهراز، أمسيات فاس الشعرية؛ وهو التقليد الشعري الأهمّ الذي استنّهُ البيت منذ سنوات، لأجل إيلاء التعبير الشعري ما يستحقّه من عناية في المشهد الثقافي المغربي، وتقييم مسارات الشعر المغربي والأوضاع التي يمرّ بها راهناً.
وكانت دورة هذا العام ذات اعتبار، أوّلاً لأنّها طرحت لأوّل مرة في تاريخ نقد الشعر المغربي مفهوم الحساسية لمقاربته وتتبُّع مسالك جماليّاته في النصوص، بعدما كان مفهوم الجيل هو المهيمن في دراساته لسنوات طوال، وثانياً لأنّها جمعت التجارب الشعرية والنقدية بمختلف حساسيّاتها ومرجعيّاتها جنباً إلى جنب، في صفاء نادر لا يوحي إلّا بصداقة الشعراء وأخوّتهم.
من فناء متحف البطحاء بمعماره المغربي الآسر، افتتح رئيس بيت الشعر نجيب خداري أمسيات فاس الشعرية بكلمة موجزة أكّد فيها على قيمة مثل هذه الفعاليّات الثقافية في ردّ الاعتبار للشعر والشعراء في المغرب، وعلى سيرورة العمل الجادّ والحيوي الذي التزم به البيت وراهن عليه للغاية نفسها، في مجمل الأنشطة والمبادرات التي استنّها وطوّرها. ومن جهته، أوجز عميد كلية الآداب و العلوم الإنسانية  بفاس الأستاذ الجامعي ورئيس البيت الأسبق عبدالرحمان طنكول كلمته بقوله: "لا للسخافة، لا للابتذال ولغة الخشب، ونعم للمستقبل وابتكار لغةٍ جديدة"، مشيراً إلى أن الذين حضروا وجاؤوا إلى فاس لإحياء الأمسيات، هذا هو لسان حالهم.
  إنطلقت أولى جلستي الدورة الأكاديمية حول "الحساسيات الجديدة في الشعر المغربي الحديث"، في فضاء المكتبة الوسائطية الكلئنة في قلب فاس الجديدة،  بمشاركة الشعراء والنقاد عبد اللطيف الوراري، عبد السلام المساوي، محمد غزال، محمد أيت لعميم. ويوسف ناوري، وأدارها الشاعر والناقد نبيل منصر.

في بدء مداخلته التي عنونها بـ"عن الشعر المغربي المهجري: منفى الكتابة وأسئلة التجربة"، أشار الشاعر والناقد عبد اللطيف الوراري إلى أنّ ثمّة تعالُقٌ دلاليٌّ، في اللغة العربية، بين مفردات المنفى والهجرة والاغتراب، إذ بينها قرابة واضحة دلاليّاً ونفسيّاً: هناك معنى التنحّي والبعد والنزوح عن الوطن من جهة، وهناك معنى الطّرْد والنّفْي من جهة ثانية. وهذا التّعالُق هو نفسه الذي وجده في أدبيّات المنفى، مُحيلاً على إدوارد سعيد ومنظّري ما بعد الدراسات الاستعمارية. ومتسائلاً عن أدب المنفى أم أدب المهجر، قال الوراري إنّه عبر التاريخ الثقافي، كان هناك دائماً حيّزٌ محفوظ لأدب المنفى بتعبيراته المتنوّعة والنوعيّة في الأدب العربي، من عصر إلى آخر، ومن تجربة إلى آخرى، ذاتية وجمعيّة؛ بدءأ من طلليّات الشاعر الجاهلي، ومروراً بكتّاب وشعراء ذاقوا النفي حنظلاً وكتبوا عنه، ثمّ بالمهجر اللبناني إلى أميركا في الربع الأوّل من القرن العشرين، وصولاً إلى ظاهرة المهجريّة حيث تعدّدت المَهاجر، بدايةً من الربع الأخير من القرن العشرين، وانخرط المئات من الأدباء في الكتابة باللغة العربية أو باللُّغات الأجنبية، وقد امتزجت في كتاباتهم هموم أوطانهم بالواقع الذي يحيونه في الدول المضيفة. وبما أنّ المنفى مفهوم مُلْتبس وفضفاض وغير قارّ ويوحي بمدلول سياسي وإيديولوجي لايمكن أن تعميمه على كتاّب المهجر وشعرائه أجمعين، آثر الناقد أن يأخذ بمصطلح «أدب المهجر»، لأنّه يتّسع لأدب المنفى، ويشتمل حتّى على معاني والغربة والنفي والحنين إلي الوطن والإغتراب بالمعني الوجودي، وهي المعاني التي ظلّت ملازمة له، والموتيفات التي وسمته كظاهرةٍ أدبيّةٍ خلال النصف الأول من القرن الماضي وما بعده بتأويلات جديدة. وقال: "يُعاد اليوم طرح السؤال المتعلّق بأدب المهجر، بقوّة وداخل تفسيرات خصبة وحادّة. وصار دراسوه يتحدّثون عمّا أسموه بـ«المهجرية الجديدة» في الأدب العربي، بعد أن هاجر المئات من الأدباء والكتّاب بلادهم إلى دول وفضاءات وعوالم جديدة، في أوربا وأميركا الشمالية وأستراليا. وقد تأثّر هؤلاء بالثقافة والمحيط الاجتماعي الجديدين، ممّا وسم كتاباتهم الشعرية والنثرية في مجملها بسماتٍ خاصّة وجديرة للانتباه. لكن صيغة السؤال تبدو مختلفة هذه المرّة، فالبحث عن سمات وخصائص في نصوص هؤلاء المهاجرين الجدد، قد لا يتأتى بالقدر نفسه من السهولة والوضوح التي استطاع بها دارسو الأدب تحديد سمات أدب المهجر الذي نشأ في بدايات القرن العشرين". وفي هذا السياق، أثار عبداللطيف الوراري موضوع ظاهرة المهجريّة في الأدب المغربي، مركّزاً على أربع تجارب شعريّة مغربية (عبد الإله الصالحي، طه عدنان، محمد مسعاد واحساين بنزبير) تُقيم في المهجر الأوربي، مُنْصتاً لنوع التمايزات بينهم في شكل الكتابة وانبناء الذّات واللغة والمتخيّل والتيمات، ولنوع الموقف الذي يتّخذه كلُّ شاعرٍ من ذاته ومن الآخر، وكذلك من الشعر نفسه.

وركّز الشاعر والناقد عبد السلام المساوي، في مداخلته التي لم تبتعد عن روح الأولى، على تجربة طه عدنان كما تمثَّلها في ديوانه "أكره الحب"، وقال في مستهلّها: "وإذا كان الشاعر طه عدنان قد افتتح تجربته الإبداعية المتمردة بالمغرب إلى جوار زملائه رشيد نيني وياسين عدنان وسعد سرحان في حركة شعرية أطلقت على نفسها "الغارة الشعرية"، وهو اسم يحمل أكثر من دلالة، وبشَّر بتوجه جديد في مفهوم الشعر وكتابته، فإن هذه التجربة ستغتني أكثر بعد استقراره في بروكسيل، ليجد نفسه في قلب العولمة وعواصفها العاتية، حيث التكنولوجيا أصبحت بديلاً عن العلاقات الإنسانية". وأشار المساوي إلى أنّ في ديوان طه عدنان (أكره الحب) "مفارقة تصور هشاشة الكائن في واقع أصبح كل شيء فيه عرضة للتسويق والماركتينغ، بما في ذلك القيم والأخلاق والمشاعر والرمزيات. إنه عصر العولمة الذي أُعْلِيَ فيه من شأن الآلة لتصبح حاكمةً على الإنسان متحكمة فيه"، وقال: "إن هذا الديوان ليضعنا في صميم تجربة أدب المهجر، إلا أنه أدب مهجري بطعم آخر يختلف تماماً عن أجواء أشعار جبران ونعيمة وأبي ماضي.. إنها تجربة تشبه نفسها متفاعلة ومنفعلة مع "مهجر جديد".. مهجر بطعم العولمة". واعتبر الناقد أنّ ما يميز تجربة (أكره الحب)، هو الإمعان في تأجيج متخيل الصور الشعرية بأشكال السخرية التي تطول الذات والآخر والأشياء. وفي تجربة العيش في المهجر، لم ينس الشاعر رصد بعض اختلالات هذا العيش، وتتمثل في الكوابيس الحقيقية التي يعاني منها مهاجرون وجدوا أنفسهم بحكم ظروفهم الاجتماعية والأسرية في مهب عواصف الحقد والكراهية والتنكيل، يؤججها متطرفون عنصريون. وفي هذا السياق يستحضر الشاعر نماذج دالة في قالب شعري يميل نحو التكثيف الدرامي واستغلال التقطيع السينمائي في فقرات شعرية متوالية، لا يُعجزِها الإيجاز عن بناء مشاهد درامية متكاملة كما في قصيدة "نينو". وختم بقوله: "ولعل السخرية أن تكون ديدن شعراء قصيدة النثر ومسعاهم في فنّ كان لا بد من تطعيمه بروح العصر، وإثرائه بكل ما يمكن أن يجلب له الجدوى والفاعلية. لقد استعاد الشاعر طه عدنان بتجربته، في هذا الديوان، خاصية الالتزام في الشعر، لكن بطريقة تحفظ للشعر أدبيته، وتضمن للقارئ متعة لا تخفى".

 وفي قراءة مزجت بين المرجعين الصوفي والفلسفي، قارب الأستاذ الباحث محمد غزال إحدى أهمّ قصائد ديوان "قليلاً أكثر" لمحمد بنطلحة،  وهي قصيدة "الوجود والعدم"، من خلال شكلها المعماري. في بداية مداخلته التي شدّت أنفاس الحضور إليها، فكّك الباحث معاني أفعال: وجد ـ عدم ـ صدف، واستنتج أنّ "الوجود هواء، والعدم ماء، والصدفة صفير"، وعدّ الدالّ هو حرف المعاني الغائبة، فلا يذكر، كأنّه دالّ الدايزن الهايدغري. المعنى الحاضر ـ الغائب. الأثر المشترك بين الكلمات الثلاث: الوجود ـ العدم ـ الصدفة. إنّه نقطة الدائرة، به تفتح خطوط المعنى وأشكاله، متتبّعاً ذلك من خلال مقاطع دالّة من القصيدة، حيث تكسير الإيقاع وتنقيط المتعرّج المفتوح. وأوضح أنّ القصيدة في بنيتها الروحية مُثلّثة، جاءت على الشكل التالي: الوجود ـ العدم ـ الصدفة، وأن هذه البنية يحكمها ضرورة الصدفة. الصدفة إشراقة المجهول. يقول الشاعر محمد بنطلحة: "عثرْتُ عليها/ بالصدفة/ بين أوراقي/ بدون تاريخ. الخطُّ زِناتيٌّ. وفي الهامش:/ الوجود أريكةٌ/ والعدم صولجانُ". إنّ الشكل الذي يحكم معمارية القصيدة ـ كما ذهب إلى ذلك ـ هو الصدفة التي "لا تخاطب أبداً الأذن وحدها، بل الروح التي انبثق منها. فليست خيالاً خلّاقاً، بل فنتازيا، لا وهماً". وفي المقطعين الأخيرين من القصيدة، وبخصوص التموّج الذي فيها، أشار إلى أن الشاعر لا يقدّم حكمة بل سؤالاً، وقال: "ينجح الشاعر بنطلحة، في نهاية المشهد الكلي للقصيدة، بحشد توليفةٍ مكثّفةٍ في مشهد سردي. توليفة مأساوية ذات تركيب معقد جدّاً كمتاهة في صحراء: فكر ممزّق بين ثنائيات ميتافزيقية مزعجة(بدون تاريخ)، حركة إلى الأسفل توحي بالنزول إلى القبر(وفي الهامش). إحساس بالوطن الضائع، بما هو خطوط، نتذمّر بسرعة مقرفة عند قراءة حروفه، أرقامه، علاماته، رموزه (الخطّ زناتي). شعور يائس بالزمن المتعذّر استعادته (بين أوراقي). خروج في جنازة بوصفه الراحة الأبدية والسكون الدائم (الوجود أريكة). أخيراً، واخيبتاه، السيادة على العالم بالعصا (والعدم صولجان)". وعن الصولجان، قال إنّه رمزٌ كهنوتيٌّ في يد الكهنة ـ الوجه الكريه للحياة، وإن كان مادّياً ليس أكثر من عصا: "الصولجان إرادة مستقيمة، استقامة العصا، حازمة ثابتة، لا تتزعزع. خليط من تاريخ وذاكرة، دين ومدينة، فنّ وعبارة، وسائل وغاية". وعرض الباحث والمترجم محمد أيت لعميم بعض خصائص الكتابة الشعرية الجديدة بالمغرب، متسائلاً: هل حصل تطوّرٌ في الشعرية الجديدة؟ وهل أفرزت حساسيّات نوعية؟، وأشار ـ بعد توطئة لمّاحة أبرز فيها كشوفات قصيدة النثر العربية وما حقّقته على صعُدٍ فكرية وجمالية ـ إلى أنّ أهم هذه الخصائص: غياب العروض والاهتمام بالأوزان الخليلية، وتجاوز الغنائية، ثمّ الابتعاد عن الرؤية الإيديولوجية. وهو يحلّل نماذج من الديوان الشعري المغربي المعاصر، رأى أيت لعميم لدى حسن نجمي في ديوانه "على انفراد" حضوراً لتيمة العمى في استحضاره للشاعر الأرجنتيني بورخيس، ولدى طه عدنان حضوراً للإرث الشُّطّاري، ولدى محمد الصالحي اهتماماً بالكثافة والتشذير وإعادة الكتابة، ولدى ياسين عدنان شفوفاً عن الأدب القيامي، ولدى نبيل منصر حضوراًُ لفكرة الكتاب والكتابة. وختم الباحث مداخلته بقوله: "إنّ التجربة الشعرية الجديدة في المغرب متعدّدة المشارب والمراجع، ومتنوّعة في الاختيارات الجمالية، ممّا أكسبها تنوُّعاً واختلافاً؛ فهذه التجارب وإن جمعتها حساسية جديدة، فإنّها تختلف من شاعر لآخر".
 وهو يتنقّل عبر التاريخ الأدبي والفلسفي للقرن العشرين، قدّم الناقد يوسف ناوري مادّة مهمّة نقّبت في معاني الحساسية وما تفرضه من إحساس بالتغيّر الذي لا يطال الزمن فحسب، بل الذّات أيضاً. ومن خلال ديواني علال الحجّام وكمال أخلاقي الأخيرين قارب موضوع " الشعر المغربي والتعبير عن حساسيات الراهن".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ملتقى قصيدة النثر بمراكش

أعاد فتح النقاش النقدي بخصوص إشكالات القصيدة الكبرى ومدى قيمة منجزها الشعري

 

DSCI0299[1].JPG

في في جوّ ربيعي مشمس، ووسط فسيفساء قصور مراكش ورياضاتها المأخوذة بعبق التاريخ وسحره، تحلَّق شعراء ونقّاد في جلسات شعرية وتأمُّلية حول مائدة قصيدة النثر، خلال ثلاثة أيّامٍ من عمر الملتقى الدولي الأول لقصيدة النثر الذي نظّمه مركز الحمراء للثقافة والفكر بمراكش، تحت شعار 'قصيدة النثر والوعي الحر'. تمّ افتتاح الملتقى مساء اليوم الأوّل، 25 من شهر مارس الفائت، بكلمات الهيئة المنظمة وبعض جهات المدينة الداعمة، وهي الكلمات التي أجمعت على قيمة أن يكون هناك ملتقى شعريّ عربي في مدينة الشعراء عبر تاريخها، مثل مدينة مراكش التي عُرفت بميسمها الأمازيغي والعربي- الإسلامي، وأشارت إلى خصوصيات هذا الجنس الإبداعي المثير للجدل. وتلت الكلمات القراءات الشعرية التي أثّث فضاءها، من قصر الباهية إلى دار سي سعيد، شعراء من المغرب (فتيحة مورشيد، إسماعيل زويريق، وداد بنموسى، محمد بشكار، سعيد الباز، ياسين عدنان، محمد أحمد بنيس، نورالدين بازين، إلهام زويريق، عبد الحق ميفراني، نجاة الزباير، عبد الرحيم الخصار، رشيد منسوم، جمال أماش، مصطفى الرادقي، محمد الصالحي، خالد الريسوني، إبراهيم ديب)، والعراق (عبدالكريم كاصد، ورود الموسوي، علي البزاز)، والجزائر (بوزيد حرزالله، سعيد هادف). وقد جاءت النصوص المقروءة متفاوتة القيمة وممثّلة لكثير من الحساسيات داخل قصيدة النثر، وقصيدة التفعيلة أيضاً، وهي تمتدُّ من الثمانينيات إلى العقد الأول من الألفية الثالثة. وبموازاةٍ مع ذلك، شهدت فعاليّات الملتقى ندوتين نقديّتين حاول فيها المتدخِّلون، إلى حدّ ما، تأمُّل موضوع 'قصيدة النثر وحوارية الأجناس الأدبية'، غير أنَّها جدّدت النقاش حول إشكالات قصيدة النثر العربية عامة والمغربية خاصة، وأثارت بدورها الجدل حول وضعها الأجناسي كجنس شعريّ وكخطاب ليس في السياق العربي فحسب، بل الأوربي والأنجلوأمريكي.

في الندوة النقدية الأولى التي انعقدت صباح يوم السبت 26 مارس، التي سيرها الباحث عبدالصمد الكباص، لفت الناقد بنعيسى بوحمالة إلى أن قصيدة النثر فتحت إمكانات جديدة، بما في ذلك إمكان 'الكتابيّة' الذي قطع مع الذاكرة الشفوية في الشعر العربي، ووسم القصيدة بـ'التعددية' بصيغها ولغاتها ومرجعياتها المتنوّعة. وقال بوحمالة: 'إن هناك شعراء، من مثل أنسي الحاج ومحمد الماغوط ومؤيد الراوي وفاضل العزاوي وأنور الغساني، أبانوا عن مواهب مذهلة، وتمثلوا قصيدة النثر ولم يسقطوا في المرجعية الفرنسية كما حصل لدى شعراء مجلة (شعر) الذين أعادوا استنساخ مقولات سوزان برنار، مع أنّ ما كانت تُجسّده الحلقة البيروتية لا علاقة له بما طرحته سوزان برنار نفسها'. وأشار بوحمالة، الذي سبق له أن ألّف دراسة عن جيل الستينيات في الشعر العراقي، إلى أن شعراء هذه المرحلة انفتحوا على المرجعية الأنجلو- أمريكية، وانتقلوا مع قصيدة النثر إلى نصٍّ كتابيٍّ تعدُّدي. وانتقل الناقد إلى الحديث عن (شعريّات الهامش)، في بلدان المغرب العربي والخليج واليمن، التي بدت تُباشر عملها خارج مثلث المركز (القاهرة- بغداد- بيروت)، بل تقود حركيّة التحديث الشعري بشكل متفاوت القيمة. وبخصوص المغرب اعترف أنّه لا يمكن أن نتحدث عن عقد خالص لقصيدة نثر مغربية، وإن كانت الأخيرة لم تتجسّد كفعلٍ كتابيٍّ إلا منذ الثمانينيات مع المهدي أخريف الذي كان يوائم بين التفعيلة والنثر ورشيد المومني، ثمّ حسم الأمر في سنوات التسعينيات حيث عرفت اتساع رقعة الشعراء الذين انخرطوا في كتابة هذا الجنس، وداخل الإبدالات الشعرية التي كانت تمرُّ بها القصيدة المغربية الحديثة. ويبقى أهمّ ما أثار الانتباه في مداخلة بنعيسى بوحمالة هو قوله: 'كثيرٌ من شعراء قصيدة النثر نجحوا في كتابتها، ولاسيما من منطلق معرفتهم ومتحصّلهم من شعر التفعيلة. وفي المقابل، هناك كثيرون مرُّوا إلى قصيدة النثر رأساً، فسقطوا في مطبّات، إلى حدِّ تشكيك القارئ بجدِّية ما يصنعون، حتَّى أن ما يكتبونه لا علاقة له بالشعر. مجرّد إنشاءات. والخطير أن يصبح ذلك يُشكِّل معياريّة لقصيدة النثر المكتوبة الآن'. وتقدّم الباحث عبدالعزيز بومسهولي بمداخلة عميقة تستقرئ قصيدة النثر من منظور مختلف يستلهم العمق الفلسفي، وأشار في بدايتها إلى أن السؤال المهمّ ليس الماهية، بل سؤال الكيفية، أي انطلاقًا من اختيار هذا الشكل على قياس الغيرية (الوجود على خلاف الوجود)؛ ثمّ طرح أربعة مداخل أو أسس لقصيدة النثر، وهي:
ـ تجربة النثر في اعتبارها كيفية وجود، وذلك من خلال انبثاق تجارب شعرية مغايرة خارج السائد، تٌجيب عن انتظارات الراهن؛
ـ الاحتفاء بالتجربة البين- جسدانية، فوجودنا الحالي ليس هو نفس الوجود السابق ما قبل الحداثي، إنّه امتداد وتفاعل بين الأنا والآخر. وليست قصيدة النثر إلّا تعبيراً عن تجربة الجسد، ورغبةً مفتوحة على الجسد الآخر، بقدرما يُمثّل ذلك في صميمها الوعي الجسدي الحرّ بشكل أكثر تفاعليّة؛
ـ قصيدة النثر باعتبارها تجربة اليومي بامتياز، حيث يتمُّ ربط الشعري باليومي والمعيش كقيمة أساسية، ويُمنح الحاضر بدوره قيمةً عليا، فتنتقل القصيدة من لحظة الاعتياد إلى لحظة المغايرة؛
ـ تجربة إخضاع اللغة لمنطق جديد من التكلُّم، وهو ما جعل قصيدة النثر تعيد في تجاربها الأساسية بناء علاقاتها باللغة العربية وفق تحديد مغاير، إذا ما علمنا أنّ ما خضع له الشعر منذ ما يسمى بالعصر الجاهلي إلى مرحلة البعث والإحياء كان يجري بحسب التصوُّر العمودي للشعر. إن القصيدة انتقلت في توظيفها للغة من العالم 'الأعرابي' إلى أنموذجٍ للعالم الآن وفق تصوُّراتٍ ثقافية جديدة داخل اللغة تسمح بأن تلعب أدواراً جديدة في الوجود الإنساني، وأن تبتكر كيفيّاتٍ جديدة لوجود اللغة تستجيب لأفق انتظارنا، بمنأى عن المعيار البلاغي القديم الذي حجّم دورها في أن تكون لغة معبِّرة. ثُمّ تجربة الآخرية التي تغدو كبعد تأسيسي لقصيدة النثر. وانطلاقاً من هذه المداخل، أشار بومسهولي إلى 'أنّه من الممكن القول بأنّ قصيدة النثر هي طريقة تعبير جديدة، وليست شكلاً جاهزاً، بقدرما هي إمكانية مفتوحة على لا نهائي العالم النسبي المشترك بيننا'. فيما تحدّث الباحث عمر العسري عن مداخل الشعرية في قصيدة النثر، وهي مداخل تلتبس بمفهومي المكون والمستوى الذين يتداولهما النقد الشعري عند الحديث عن مفهوم الشعر وبنيته النصية معاً، منتقلاً من النظرية إلى الإجراء التطبيقي. ويشير الباحث إلى أنّ تلك المداخل (السردي، التصويري، التناصّي، الإيقاعي والبصري) لا تنفكّ عن شعرية المتخيَّل. ويخلص إلى القول بالتباس المداخل وتماهي بعضها ببعض في مقاربة شعرية قصيدة النثر.
وفي الندوة النقدية الثانية التي انعقدت صباح يوم الأحد 27 مارس، التي أدارها الناقد محمد آيت لعميم، ناقش الناقد حسن مخافي العلاقة المنسية بين قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، مؤكّداً أن قصيدة النثر في تجلّياتها الأولى، وداخل إسهامات جماعة شعر تحديداً، كانت استمراراً للقصيدة العربية الحديثة، وأن معظم الدراسات التي تمّت في هذا السياق تقفز على ذلك، وتربطها بأنماط الشعر الحر أو قصيدة النثر كما قعّدت لها الفرنسية سوزان برنار. ويتوقف الناقد عند نقط التقاطع بين القصيدتين، على مستوى بناء الإيقاع العروضي والتشكيل الرؤيوي. من جهته، نقل الباحث والمترجم حسن لغدش أنظار الجمهور، الذي لم يفد بكثرة على الملتقى، إلى واحدة من أهمّ نماذج قصيدة النثر بالمغرب، كما تجسّدت في تجربة الشاعر طه عدنان في مجموعته الشعرية 'أكره الحب'؛ ورأى أن العمل الشعري لطه منشدٌّ إلى قدر شاعرٍ مهجريٍّ لا ينفصل أفق قصيدته عن تجربته في اللغة والحياة والمنفى، فيما هو يعرض بلغةِ نقديّة عارقة سمات تلك القصيدة وملامحها الرئيسة. واقترب عبداللطيف الوراري من دراسة أنماط بناء الجملة الشعرية من خلال ثلاثة دواوين شعرية مغربية هي: 'محض قناع' للمهدي أخريف، و'نكاية بحطّاب ما' لسعد سرحان، و'أنظر وأكتفي بالنظر' لعبدالرحيم الخصار. ومهّد الوراري بقوله: 'إنّه في المشرق كما المغرب، كشكْلٍ شعريٍّ مختلف حتّى من اسمه، ويحوز جماليّات معارضة لجماليّات السائد، لغةً وإيقاعاً وتخييلاً. بدورها، وخارج أسبقيّة الوزن كواقعةٍ ثقافيّة كرونولوجيّة، وخارج تمثيلات الشعر وحدوسه النظرية السابقة، ووفق مبدأ 'الاختيار الحرّ'، أمكن لقصيدة النثر أن تنتج خطاباً شعريّاً مختلفاً، وتنتج داخله أنماطاً من البناء النصّي، وتعيد ترتيب فهمها للصفحة الشعرية ودوالّها وعلاماتها الأيقونية. هكذا صار حقيقةً أن تختار كلَّ قصيدة شكلها الخاصّ، وجُملها الخاصّة، وتلفُّطها الخاصّ، أي نحوها الخاص. لكلِّ قصيدةٍ نحوُها، وهذا النحو هو جزءٌ أساسيٌّ من إيقاعها، من دلاليّتها وفعّالية الذات المتلفّظة'. وتابع: 'على محلِّل الخطاب الشعري أن يصغي إلى كلِّ هذا، ويتأمّل الشعر في قصيدة النثر كبنية في اللا ـ بنية، أي بنية منذورة للتحوُّل من ذاتٍ إلى ذاتٍ، تأخذ تجلِّياتٍ لا حصر لها، ممّا يجعل بعضاً من عناصرها تزول، أو تتزحزح من مكانها، أو يضاف إليها، أو تُحطَّم الحدود بينها وبين عناصر أخرى من داخل البنية نفسها، أو من بنيات أخرى لغوية وغير لغوية'. ولهذا الاعتبار النظري، انشغل الناقد بتأمُّل ثلاثة نماذج تنتمي إلى حساسيّاتٍ وأجيالٍ مختلفة من عمر قصيدة النثر في المغرب، ووضع مكوّنات بنائها الخطّي والبصري في صلب الاستشكال، مهتمّاً في بعضها بطريقة بناء الجملة وعلامات الترقيم ضمن تشكيل الصفحة الشعرية، وفي بعض الآخر بتأويلها ضمن إيقاع الخطاب متوتِّراً بين نسق الأنا وفعاليّة المعنى'. وقدم الناقد عبدالغني فنان مداخلةً هي عبارة عن قصيدة نثر 'تأمُّلية في لا حول'، مُركّزاً على حوار بين الكاتبين الأرجنتينيين ذائعي الصيت خورخي لويس بورخيس وإرنستو ساباتو، فيما يشبه ذلك الحوار 'تنويعات حرة على اللامنتهى'. وأشار الباحث الجامعي، في تحليله للحوار بلغة فرنسية أكاديمية، إلى مفهوم النص أو الأثر المفتوح كما يُستشفّ من قضايا الكتابة عند الكاتبين الذين تعرَّفا على بعضها البعض في بداية الأربعينيات من القرن العشرين، وذلك عبر اجتماعات مجلة (سور). وخلال خمس جلسات بحث الإثنان وجهاً لوجه عدة أمور أدبية وثقافية: عن الأدب بشكل عام، وعن أهمية اللغة في عصرهما، وعن الكاتب الأميركي إدغار ألن بو، وعن ثربانتس ورائعته 'دون كيخوته، وعن ستيفنسون، وكافكا أيضاً. لقد خلق لقاء الإثنين حواريّة مفتوحة وطريفة قادت في النهاية إلى مآل فريد ونوعي يهمّ 'خصوصية قصيدة النثر' كجنس أدبي منفتح ومركَّب وتعدُّدي، هو شبيه بفرحة كافكا بجملته الشهيرة: 'أنظر من النافذة' .
واحتفاء بالشاعر سعد سرحان، صاحب 'شكراً لأربعاء قديم' و'نكاية بحطّاب ما'، والذي حمل الملتقى اسمه، تدخّل أصدقاؤه الشاعران ياسين عدنان وعبدالرحيم الخصار والفنان الحروفي لحسن فرساوي، في كلماتٍ مؤثرة موجّهة إليه أجمعت على قيمة سعد شاعراً وإنساناً، ولفتت إلى أن الحركة الشعرية في مراكش، منذ عقدين، تدين له بالكثير. وفي ديباجة الختام الذي تلاه الشاعر رشيد منسوم، لم يفت المشاركين التأكيد على القيمة الثقافية التي يخلقها الملتقى اليوم في مراكش، متطلّعين إلى أن يشكِّل احتفاءً سنويّاً متجدّداً يحاول تأمل مسارات قصيدة النثر عربيّاً، والاقتراب من إشكالاتها الكبرى، والإصغاء إلى منجزها النصي باستمرار
.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الدورة الـ 27 من المهرجان الوطني للشعر المغربي الحديث

في الاحتفاء بالتجربة الشعرية لمحمد الميموني أحد رواد القصيدة المغربية الحديثة

الدورة الـ 27 من المهرجان الوطني للشعر المغربي الحديثالاحتفاء بهويّة القصيدة المغربية وأجيالها: اِحتضنت شفشاون، وهي بلدة أخّاذة تقع شمال المغرب، فعاليّات الدورة السابعة والعشرين من المهرجان الوطني للشعر المغربي الحديث، يومي 14 و15 حزيران/ يوليو 2012. حضرها أبرز ممثّلي القصيدة المغربية المعاصرة بمختلف أجيالها وحساسيّاتها المائزة، كما حضرها نقّاد ودارسون يتقدّمهم الناقد والأكاديمي المخضرم نجيب العوفي، وأعينهم قبل أدوات تحليلهم على التجربة الشعريّة عند محمد الميموني بوصفه واحداً من أهم روّاد الشعر المغربي الحديث ممّن بقوا على قيد الحياة، إلى جانب ابن بلدته ورفيقه في القصيدة الشاعر عبد الكريم الطبال. وقد انطلقت الفعاليّات مساء السبت في فضاء القصبة الأثري، بكلمة رحّب فيها مدير المهرجان الشاعر عبد الحق بن رحمون بالشعراء والنقاد والإعلاميّين الذين تجشّموا وعثاء الطريق وقيظها، من أجل الاحتفاء بالقصيدة، مُؤكّداً على حرص جمعية أصدقاء المعتمد على وفائها بالموعد السنوي للمهرجان الشعري الذي بات يكرّس نفسه كعلامة دالة على الهُويّة والانتماء إلى ثقافة مغربية مخصوصة، وما فتئ يسعى إلى ترسيخ قيم التعبير الشعري في الحاضر وفي سياق التداول الفنّي، بما يعنيه ذلك من تحصين لمدوّنة القول والخيال والذوق، والطموح إلى جعل القصيدة المغربية، بشتى لغاتها وأصنافها، مقاماً من مقامات الاحتفاء، كبديل عن الثقافة السائدة التي تروّج للمبتذل والساقط؛ قبل أن يُطلق عنان القول ومخيّلته لشعراء وشواعر تناوبوا على منصة الإلقاء فأبدعوا وصدحوا بالقصيد الذي رجّعت أصداءه أسوار القصبة التاريخية التي تعود إلى عصورٍ خلت، وهم: عبد الكريم الطبال، بوزيد حرز الله (الجزائر)، محمد الميموني، وفاء العمراني، حسن الوزاني، خالد الريسوني، صباح الدبي، يحيى عمارة، محمود عبد الغني، أمينة المريني، فاطمة بنمحمود (تونس)، أحمد بنميمون، ياسين عدنان، الزبير الخياط، محمد أحمد بنيس، جمال الموساوي، محمد المسعودي، محمد علي الرباوي، محمد عرش، ايمان الخطابي، عبد الحق بن رحمون، جمال أزراغيد، مخلص الصغير، فاطمة الزهراء بنيس، محمد بنيعقوب، عبد الله المتقي، عبد الجواد الخنيفي، عبد السلام مصباح، عمر العسري، محسن أخريف، علية الإدريسي، منصف بندحمان. وقد تخلّلت حفل الافتتاح وأمسيتي الشعر معزوفاتٌ موسيقيّة على آلة الأرغن وقّعتْها، باقتدار، أنامل الفنّانة الأديبة سعاد أنقار.

في التجربة الشعرية عند محمد الميموني:

ومن قناعة ترسّخت لدى مُنظّمي المهرجان بأنّ الشعر المغربي صار يمتلك من المقوّمات الجمالية والتخييلية التي تحتاج إلى البحث والدراسة المستفيضة في كثير من تجاربه الشعرية، اختير خلال هذه الدورة محور 'التجربة الشعرية عند محمد الميموني' في ندوة نقدية شارك فيها الناقد والأكاديمي المخضرم نجيب العوفي، والنقاد الشعراء يحيى عمارة، وعبد اللطيف الوراري، ومحمد المسعودي، وعمر العسري. وكشفت مداخلاتهم جوانب متعدّدة من تجربة هذا الشاعر الرائد في تاريخ الشعر المغربي. ففي مقاربته المعنونة بـ (التجربة الشعرية للشاعر الكبير محمد الميموني)، وصف الناقد نجيب العوفي الشاعر المحتفى به بأنّه 'نَهْـرٌ شعريٌّ ميموني يمضي لوجهته الشعرية عميقا،ً وئيداً ودؤوباً لا يلوي إلّا على الشعر'، و'نَهْـرٌ رقراقٌ غارقٌ في حبّ مجراه'، وهو ـ بهذا المعنى ـ 'الشاعر النّهْري الذي الذي رأى وروى'. وبعد أن عدّه واحداً من مؤسِّسي ومشترعي القصيدة المغربية الحديثة، ضمن شعراء آخرين هو أكثرهم 'دأباً على الشعر'، إذ تمتدّ تجربته لنِصْف قرنٍ من الشعر، أي منذ طلائع الستينيّات إلى الآن، قدّم نجيب العوفي قراءةٌ كرونولوجيّة لمسار محمد الميموني الشعري، معتمداً على أعماله الشعرية الكاملة التي صدر عن وزارة الثقافة المغربية في جزئين. ورأى في لغة الشاعر خاصية الملاسة بوصفها مصدر قوّته، فهي السهل الممتنع الذي يجمع بين العذوبة والجزالة، إذ يختار مفرداته بعناية، وينضّد جمله برهافة، ويسبك صوره الشعرية بخيوط من حرير، وقال: 'على امتداد مساره الشعري الطائل والحافل كانت لغة الميموني تينع وتزهو من غير أن تفقد خاصيتها'. ولفت إلى أنّ 'سخونة المرحلة' التي قال فيها محمد الميموني الشعر آخذة بعنان ديوانه الأوّل (آخر أعوام العقم) تحديداً، حيث كانت المرحلة تستدعي بعض الخطابة والهتاف، وإن كان الشاعر نفسه واعياً بذلك، ومحاولاً التخفُّف من النبرة الخطابية في شعره؛ لكن ما أن خبا جمر الرصاص وذهبت أحلام التغيير، بدا الأفق رماديّاً أمام الشاعر، فطغت على شعره نبرة الأسى والحزن. وبهذا المعنى، وجد الناقد نجيب العوفي في الشاعر صفة من كان شاهداً بحقّ على مرحلةٍ ملغومةٍ من تاريخ المغرب، عبّرها ورصدها في شعره. إلى ذلك، رصد العوفي أربع تيماتٍ متداخلة ومتآخية في شعر محمد الميموني، هي: الوطن، الطبيعة، الذّات والحلم. وفي سياق ذلك، نعته بأنّه 'نيوكلاسيكي الثقافة'، و'الرومانسي الكبير' الذي تجد في شعره شيئاً من الشاعر الإسباني ـ الأندلسي غارسيا لوركا لغةً وحساسيّةً، و'السكرتير الشعري' لمرحلة من تاريخ المغرب الحديث؛ لكنّه أكد أنه مع طلائع الألفية الثالثة، سوف يدخل الشاعر في مرحلة جديدة سمّاها 'المرحلة الإشراقية- الغنوصية'، بعد أن 'حال الحال وتبدّل المآل' وتغيّرت المدينة في عين الشاعر، وهي المرحلة التي تتّسم ب'متاهة التأويل' حيث ترد على القارئ انخطافات الشاعر وإشراقاته الذاتية من كلّ نبع كريم.

وفي شهادته الموسومة بـ'شاعر الأشياء والكلمات'، تحدّث الشاعر يحيى عمارة عن محمد الميموني بوصفه 'يحمل تاريخاً شعريّاً كونيّاً'، فالمتون الشعرية التي كتبها تُعبّر عن ذلك، عدا أنّه 'خريطة شعريّة وحدها كمّاً ونوعاً'. وزاد أنّ 'شعر الميموني يعالج القضايا الجوهرية الكبرى التي يستند عليها، من خلال عناصر الحلم والذاكرة والزمان والمكان والمعرفة الشعرية العميقة'، مُقسّماً إيّاه إلى مرحلتين: مرحلة الشعر الإيديولوجي الذي يمثّله ديوان 'آخر أعوام العقم'، ومرحلة الشعر الفلسفي الجمالي الذي تعكسه دواوين الشعر التالية. وأشار عمارة، في سياق ذلك، إلى أنّ هذا الشعر يقوم على مجموعة من الثنائيّات الضدية، أهمّها: الظاهر/ الباطن، الإشارة/ العبارة، الواقع/ الحلم؛ عبرها كان الشاعر يبدع في العالم الذي يحلم به داخل توليفةٍ تجمع بين البحث والاستئناس بالأشياء. وبخصوص لغة الشعر، رأى أنّها لغة موحية تتّكئ على رؤية شعرية مُكثّفة تتداخل فيها مرجعيّات ومصادر كتابية متنوّعة: عربية، إسبانية وفرنسية. وترتيباً على ذلك، وصف القصيدة التي يكتبها محمد الميموني بأنّها حيّة 'لا تعرف الشيخوخة'، وأصيلة، وهي بمنأى عن أن تكون 'صدى' لغيرها في المشرق العربي كما زعم بعض الدارسين.

وبصدد 'تطوُّر التجربة الشعرية عند محمد الميموني'، استهلّ عبد اللّطيف الوراري مداخلته بالقول إنّ 'محمد الميموني هو واحدٌ من القلّة الهائلة في تاريخ الشعر المغربي الحديث، تلك التي استطاعت أن تضع شعرنا، بعد أن كان نسياً منسيّاً في طليعة الشعر العربي خاصة، والإنساني عامّةً، وفقاً لما راكمته من تجربة مخصوصة في الرؤية إلى الذات والطبيعة والعالم'. وبعد أن أشار إلى ما يثيره مفهوم (التجربة الشعرية) من غموض نتيجة استعمالاته الملتبسة في النقد العربي الحديث، قال الوراري إنّ ما لفت انتباهه في ديوان (آخر أعوام العقم) هو ذلك 'الوعي الحادّ والمبكِّر بالعالم الذي كانت تكتبه الأنا الشعرية بدون أن تسقط في شرك الإيديولوجيا التي كانت متفشّية بين أبناء جيله لدواعٍ سياسية واجتماعية، وإن كان الديوان نفسه لم يسلم من نبرة الاحتجاج والخطابة'؛ لكن ديوان 'الحلم في زمن الوهم' يظلُّ ، في نظر الناقد، هو بداية تشكُّل وعي جماليٍّ جديد داخل التجربة الخاصة بشعر محمد الميموني، وذلك عبر تذرُّعه بالحلم أو اتِّخاذ الحلم ذريعةً كتقنيّةٍ كتابية تُفكِّك مسلَّمات لغة الإيديولوجيا التي كانت تحتمي بها ذات الشاعر، وتعيد بناءها وقف منطق اللعب اللغوي والكنائي الذي يتسلّى مع النسق بقدرما يُفجِّره من الداخل. وقد مثّل الناقد على هذا الوعي الشعري بقصائد من الديوان نفسه، مؤكِّداً أن الشاعر يعمل على تكثيف هذا الوعي الحادّ والمصطرع داخل تجربة الحدود أو، بعبارة الشاعر نفسه، داخل 'المتاهة التي تُبدئ في كُلّ منعطفٍ وتُعيد'، بين وعي الأنا بتصدُّعها واغترابها في زمنها، وبين أن تغيب في 'حضرة الحلم'. وبناءً عليه، يذهب إلى أن 'الحلم في زمن الوهم' يُمثّل علامةً فارقةً أو برزخاً بين مرحلتين حاسمتين: أ ـ مرحلة التأثُّر الإيديولوجي من غير استغراق ولا تشبُّع؛ ب ـ مرحلة اصطراع الوعي الجمالي للتجربة بين مقترحين؛ ج ـ المرحلة الإشراقية حيث ترتفع أنا الشاعر بأشواقها وأحلامها وتجاربها، داخل متاهة التأويل، إلى مرتبة 'اليوتوبيا'. يوتوبيا الأنا. وختم الوراري مداخلته النقدية بقوله: 'إنّ محمد الميموني لا يكتب الشعر وكفى، إنّه يحلم عبر شعره بقدرما هو يضيء جوهر الحياة ويجعلنا قادرين على الانفعال بها'.

وأمّا الناقد محمد المسعودي فقد قارب (شعرية الدهشة وشغب السؤال في ديوان موشحات حزن متفائل)، متتبّعاً لمحات شعرية الدهشة في جل نصوص الديوان، من نسغ الارتباط بلحظة بدء تكون الطبيعة واستواء عناصرها، وارتباط الإنسان بها في طهرها وصفائها، وفي سموها ورفعتها. وقال: 'إنّ قصيدة محمد الميموني في 'موشَّحه' هذا تعزف على إيقاع تصوير الإحساس بالحنين إلى جمال الكون والطبيعة في لحظة صارت البشاعة فيها لغة كونية. ولعل تجسيد هذه الدهشة ذات النبرة الاحتفائية بالأرض والجبال وشتى مظاهر الطبيعة تتبدى في أكثر من صورة بين دفتي الديوان'. وقف المسعودي على متوالياتٍ نصّية تكشف اندهاش الشاعر بالطبيعة عبر إعادة اكتشافها واكتشاف حقيقتها وحقيقة ارتباط الإنسان بها، إذ إنّ الشاعر يخلق عوالمه المتخيلة عبر التعبير عن لحظة انخطاف أمام سحر الكون من حوله، وأمام تحول ذلك السحر إلى وقر يثقل روح الكائن 'المسكون بجني اللايقين' الهارب إلى خلاص فردي لا يستطيع بلوغه. وفضلاً عن سؤال الحياة والبقاء الذي تظهره رمزيّاً، 'تمضي أغلب نصوص الديوان مستثمرة طاقة السؤال وإمكانات السرد لبناء متخيلها، خالقة نوعاً من الجدة في الاشتغال الشعري. ولا تكمن هذه الجدة في الجمع بين السؤال والسرد، فحسب، وإنما تمتد إلى القدرة على توظيف طاقات شعرية أخرى من بينها الاهتمام بالتصوير في أبعاده الحسية والذهنية لتحريك مخيلة القارئ وتحفيز طاقة التأمل لديه للتفاعل مع النص الشعري'.

ومن خلال (المداخل الشعرية في تجارب محمد الميموني)، سعى الناقد عمر العسري إلى محاولة تحديد بعض الجوانب من التجربة الشعرية لمحمد الميموني الذي مارس بقصائده، كما قال، دوراً مباشراً وحاسماً في تشجيع وتحصين الولادات المبكرة والنماذج اللاحقة من تجربة الشعر المغربي المعاصر، مركّزاً على مدخل اللغة الشعرية بكلّ ما تشتمل عليه من عناصر لفظية ومن علاقاتٍ وأدوات وأساليب بلاغية اشتركت في بناء القصيدة؛ فأشار إلى أن لغة الشاعر تبدو في تعابيرها وصورها لغة رمزية بامتياز، تتأرجح بين بعدين أسطوري وصوفي؛ فالبعد الأول كامنٌ في ما هو توليدٌ لوضعيّاتٍ إنسانية خارقة تتماهى، بشكل غير مباشر، مع نصوص قديمة، والبعد الثاني حاضرٌ عبر ذلك البياض الداخل في التجربة الشعرية. وبعد أن يتوقّف عند الرمز والتوازي كخصيصتين تميّزان هذه اللغة، قال العسري في ختام مداخلته: 'وبما أنّ القصيدة لدى الميموني نابعة من سفر طويل في التاريخ وفي الوجود، فإنّنا نشعر كذلك، وليس من باب الصدفة أو العفوية المطلقة، بأنّ قصائده تشكل لحمة واحدة تتكرّر بتنويعٍ لغويٍّ شفيف، وبإيقاعٍ مرن يتروّى في ظروف ممكنة ومستحيلة في آن'.

في ختام مداخلات الندوة النقدية التي احتفت بتجربته الشعرية على صُعدٍ كثيرة، قال الشاعر محمد الميموني: 'لم يخطر على بالي أنني أسترجع نصف قرن، وأتذكّر من أين جاء الجنون، ومن أين جاءت تلك اللحظة التي ألهمتني قصيدة طازجة، مرتجلة، تلقائية تتجاوب مع ما يجري حولي، على قدر فهمي لما يجري حولي في ذلك الزمان. كيف أتصوّر في أواخر الخمسينيات أن أكون موضوع نقاش كبار النقّاد ونخبة من المثقّفين المتتبّعين للشعر المغربي بصدق ومحبّة ومعرفة.. إن أقصى ما يمكن أن يحلم به شاعرٌ وصل من العمر عتيّاً أن يكون في ذاكرة الأجيال التي جاءت من بعده'.

وتجدر الإشارة إلى أن الشاعر محمد الميموني هو أحد روّاد الشعر المغربي منذ مطلع الستينيّات، وقد بدأت تجربته الشعرية منذ 1958 بنشر قصيدة في مجلة 'شراع'، إلى أن أصدر باكورته الشعرية 'آخر أعوام العقم' في العام 1974م، ثمّ توالت بعدها الدواوين: الحلم في زمن الوهم (1992)، طريق النهر (1995)، شجر خفي الظل (1999)، أمهات الأسماء (1997)، محبرة الأشياء (1998)، ما ألمحه وأنساه (2000)، متاهات التأويل (2001). صيرورات تسمي ذاتها (2007)، وموشحات حزن متفائل (2008). وكانت وزارة الثقافة قد أصدرت سلسلة أعماله الشعرية الكاملة في العام 2002م. وله أيضاً كتابان في النقد، هما: 'الشعر المغربي المعاصر: عتبات التحديث' (1998)، و'سبع خطوات رائدة: دراسة في الشعر المغربي المعاصر' (1999)، كما ترجم عن اللغة الإسبانية 'ديوان التماريت' للشاعر الإسباني فيديريكو غارسيا لوركا، مع دراسة وافية عنه، وفيها كشف عن مدى الأثر الذي خلفه الشعر العربي الأندلسي في الشعر الإسباني منذ عصوره الذهبية خلال القرنين 16 و17م. ويعدُّ الديوان آخر مجموعة شعرية كتبها لوركا قبيل اغتياله 1936م وهي السنة نفسها التي رأى بها محمد الميموني النُّور في مدينة شفشاون الجميلة بحقّ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ربيع الشعر بزرهون:

    الشعر العربي بالمهجر.. قضاياه وظواهره الفنية
Dsc02700
أسدل الستار على فعاليات مهرجان ربيع الشعر الذي نظمته جمعية ألأوراش للشباب فرع مولاي ادريس زرهون خلال أيام :8 ـ 9 ـ 10 من شهر أبريل 2013 بدار الثقافة تحت شعار: "الشعر العربي بالمهجر: قضاياه وظواهره الفنية". مثل المهرجان الدورة العاشرة، دورة الشاعر العراقي المبدع عدنان الصائغ. استهل بأنغام موسيقية أتحفت بها فرقة"دلاركو" الجمهور الذي حج بكثافة إلى القاعة كعادة أهل المدينة العاشق للشعر. جاءت كلمة رئيس الجمعية عبد الرحيم لحليمي مضمخة  بالشكر والترحيب بالشعراء والزجالين الضيوف وبالحضور، وبالداعمين لهذا المهرجان مذكرا بماضي المدينة الثقافي والديني والتاريخي. ثم عرج على الدورات السابقة التي احتفت بأسماء إبداعية محلية ووطنية وعربية مبينا دور الشعر في إبعاد الإنسان عن الرداءة التي صارت تغطي العالم اليوم . وذكر أن هذه الدورة تزيد ترسيخا لتقليد سنوي تعانق فيه المدينة الشعر، وتحتفي فيه بأسماء إبداعية ساهمت في إغناء المشهد الشعري الوطني والعربي. وفي الأخير ركز على دواعي احتفاء المهرجان بقامة شعرية متواصلة العطاء مغتربة بالمهجر ألا وهي الشاعر العراقي عدنان الصائغ.
إلى جانب القراءات الشعرية فصيحاً وزجلاً، أُقيمت ندوة شعرية لمقاربة شعار الدورة "الشعر العربي بالمهجر قضاياه وظواهره الفنية" التي أدارها الأستاذ حسن إمامي والتي شارك فيها االنقاد والباحثون: عبد اللطيف الوراري (الأدب والمنفى)، نقوس المهدي (الأدب المهجري: تاريخه وخصوصياته ومظاهره)، حسن لشقر(تمثل المكان عند الشاعر المغترب أدونيس)، محمد الديهاجي (الشعر المهجري: البوح الكتيم أم شعرية الشعلة عند عدنان الصائغ). وقد جاءت مداخلاتهم القيمة  للنبش في تاريخ أدب المهجر من الماضي إلى الحاضر وإبراز مظاهره وتجلياته  وخصوصياته الفنية والموضوعية مع الوقوف واستجلاء تجربتين معاصرتين: تجربة أدونيس،وتجربة عدنان الصائغ . وقد أثارت هذه المداخلات مجموعة من الأسئلة التي تهم خصوصيات أدب المهجر المعاصر وماهيته في ظل زمن العولمة وغيرها من الأسئلة الوجيهة والملاحظات التي عبر عنها المتدخلون.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

المضيق المغربية تحتفي بـتجربة إدريس الملياني الشعرية في ملتقاها الشعري الأول

ميدل إيست أونلاين:

Wp 20140322 11 14 17 pro

تطوان ـ نظم اتحاد كتاب المغرب (المكتب التنفيذي وفرع الاتحاد بتطوان) وجمعية العمل الثقافي بالمضيق الملتقى الشعري الأول للمضيق، وذلك يومي 21 و22 مارس/آذار، وقد اختار المنظمون في هذه الدورة تكريم الشاعر إدريس الملياني، نظراً لتميّز تجربته الشعرية.

وقرأ على منبر الملتقى في أمسيتين شعريتين أدارهما على التوالي الشاعرة فاطمة الزهراء بنيس والشاعر المعتمد الخراز، شعراء من مختلف الأجيال والحساسيات والرؤى، وهم: عبد الكريم الطبال، محمد الشيخي، إدريس الملياني، أحمد بنميمون، وفاء العمراني، أحمد لمسيح، محسن أخريف، عبد الجواد الخنيفي، أمل الأخضر، نجيب مبارك، جمال أزراغيد، محمد عابد، نسيمة الراوي.

بموازاة ذلك، انعقدت ندوة نقدية قدمت قراءات وشهادات حول التجربة الشعرية للشاعر إدريس الملياني شارك فيها النقاد: بنعيسى بوحمالة، نجيب العوفي، عبد اللطيف الوراري، محمد الميعادي وأحمد الدمناتي. وقد استهلّها الناقد نجيب العوفي بشهادة عنونها بـ "إدريس الملياني المليان شعرا"، ووقف فيها على "اللحن المانيفست التي تشدو به قيثارة إدريس الملياني"، الذي دافع دفاعاً باسلاً ضد كل أشكال الموت والرداءة والابتذال وكان يحلم بالمساواة بين الناس في "شبه صوفية شيوعية"، بحيث اعتبر الشعر بمثابة "بوصلة ومنارة هادية في الواقع وعالم الناس".  ورأى العوفي أنّ الشاعر بثقافته العالية هو ناثر جيّد إلى جانب كونه شاعراً جيّداً، يزاوج بين التراث والحداثة في تصوُّره للكتابة وتشييدها شعرا ونثرا؛ وهو منذ سنة 1966 خطّ بداية شعرية مؤسسة وأصيلة وملتزمة أيام كان الفكر الاشتراكي الأممي يغمر المشهد السياسي والثقافي ويشكل عامل جذب للشعراء، بقدر ما كانت تستفيد من منجز القصيدة العربية وتزيد عليه معرفة وكشفا، مشيراً إلى أن قصيدته قويمة العود بائنة عن "قصيدة النثر" التي عدّ كثيراً من كتابها يتحرّشون بالشعر، فدعا في نبرة ساخرة إلى "سنّ قانون ضد التحرش بالشعر على غرار قانون التحرش بالمرأة".

وفي الوقت الذي عدّ العوفي الشاعر إدريس الملياني من جيل السبعينيات، رأى الناقد بنعيسى بوحمالة أن الأخير من الصعوبة القول إنه ينتمي إلى ذلك الجيل، طارحاً مشكل تصنيف الشعراء إلى أجيالواجترح بوحمالة للخروج من مأزق التجييل مصطلح "اللصوق الشعري"، معتبراً الملياني من "الشعراء الملاصقين"، بمعنى أنّه ينتمي إلى جيلي الستينيات والسبعينيات معا. وبخصوص المدخل الإيديولوجي والانتماء السياسي للشاعر، أشار الناقد إلى أن الشاعر كانت تربيته يسارية دون أن تعيقه ذلك عن التطور أو تسقطه في المباشرة والتبسيط، وبالتالي "ربح قصيدته كخيار جمالي وفكري في آن". أما عن منجزه الشعري، فقد كان شعر إدريس الملياني ذخيرة تراثية بقدرما كان منفتحاً على الحداثة ومنجزاتها الغربية، وكانت جملته تمزج بين العتاقة والحداثة. كما أنّه أتاح للشعرية المغربية أن تمدّ قنوات مع الشعرية الروسية، وهو ما أتاح لها أن تطلّ على مرجع غنيّ قلّما تم الانتباه إليه قياساً إلى المرجعين الفرنسي والإسباني.

وأما الشاعر والناقد عبد اللطيف الوراري فقد انشغل في مداخلته بـ "التناصّ وبناء المعنى" في شعر إدريس الملياني، وبالذّات في ديوانه "نشيد السمندل". وقال إنّ الشاعر إدريس الملياني "يتّخذ من طائر السمندل رمزاً اِستعاريّاً في بنية العمل، ويرتفع به إلى مستوى أسطرته بسبب ما تعانيه الذات وتُكابده بحكمة الخسارات. وهو ما يضعنا في مواجهة بينة كتابيّة ممتدّة في الزمن، تخترقها ملفوظاتٌ، وحوارات، واستشهاداتٌ، وصور وتمثيلاتٌ، وأقنعةٌ، وأمكنة، ووقائع من التاريخ القديم والحديث، وأنماط من صراع الوعي والرؤية في جدل الذات والآخر.

ورأى الوراري أن تقنيات التناص الموظّفة قد أثّرت على غنائية الشاعر فبدت "غنائية مركّبة" سواء على مستوى الرؤية أو البنية الشعرية، حيث الاستخدام المكثف للرمز والقناع والمونتاج والحوار الدرامي والسرد والسوناتا والمشهدية، واستدعاء التراث الأسطوري والديني والتاريخي المتصل بتيمات الموت والحياة والوطن والإنسان والحرية، جنباً إلى جنب مع متطلّبات ذات الشاعر على المستوى الوجودي والإنساني في بحثها عن خلاصها، مرتفعاً بها إلى مستوى أسطورتها الشخصية، وبالتزامها الإنساني إلى مقامٍ مُستحقّ".

وبعنوان "شعرية الأمكنة وفتنة الطفولة في شعر إدريس الملياني"، بحث الشاعر والناقد أحمد الدمناتي عن العلاقة الحميمة التي طفولة الشاعر كذاكرة استرجاعية ترصد، بلغة استعارية شفافة، التفاصيل الحياتية العابرة وتلتقطها بعين الطفل الذي كانه الشاعر. كما بحث التمازج العجيب الذي نعثر عليه بين سيرة المكان والذات الشاعرة بصورة تمنح المكان داخل قصيدة إدريس الملياني بعداً استعاريّاً/ استعاديّاً قادراً على إعادة إنتاج معاني الذات وصورها التي تتأرجح بين العادي والمنسي، اليومي والهامشي، الواقعي والميثولوجي؛ وبالتالي استعادة المفقود وإعادة بنائه نصّياً وداخل لغةٍ تحتفي بالتفاصيل الصغيرة.

وأما الناقد محمد الميعادي فقد انطلق من ديوان "مغارة الريح"، ليبحث في شعر الشاعر من خلال عنصر التلقي باعتباره "استراتيجية نصية"، راصداً ملامح النص الشعري الذي يتحول إلى شبكة معقدة من الرموز (الترميز الأسلوبي والإيقاعي)، وإلى تجلّ خطّي مفارق، وإلى بياض تخترقه الفجوات التي تنادي على قارئها الذي عليه أن يحاور النصوص (نص القراءة، أو نص السماع، أو نص المشاهدة، إلخ) ويتفاعل معها بحسب ما يقتضيه بناء كل نص. وقد اختتمت فعاليات الملتقى بتسليم جوائز الإبداع التلاميذي، ودرع الملتقى للشاعر المحتفى إدريس الملياني.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ندوة الرواية العرفانية عند عبد الإله بن عرفة:

       الأبعاد والدلالات

Riwaya 3irfaniya 01 f

عقدت كلية الآداب والعلوم الإنسانية عين الشق التابعة لجامعة الحسن الثاني في الدار البيضاء ندوة علمية دولية بعنوان “الرواية العرفانية عند عبد الإله بن عرفة: الأبعاد والدلالات” يومي 24 و 25 دجنبر 2014، الموافق فاتح شهر ربيع الأول 1436 هـ. وقد عرفت هذه الندوة حضوراً نوعياً بارزاً لكوكبة كبيرة من الأكاديميين والأساتذة والمثقفين والمتتبعين والطلبة. تضمن البرنامج الأكاديمي للندوة جلسة افتتاحية، وجلسة مخصصة للشهادات، وثلاث جلسات علمية.انطلقت الجلسة المخصصة للشهادات التي ترأستها الدكتورة كريمة اليتربي، وشارك فيها الأساتذة: د. عباس الجراري عميد الأدب المغربي، ود. عبد الله شريف وزاني، ود. مصطفى الجوهري، ود. مصطفى أمدي. وتناول فيها السادة المتدخلون جوانب من شخصية الأديب المحتفى به وتحدثوا عن القيمة الأدبية لأعماله المنوه بها. وذكّر الدكتور عباس الجراري الذي كان أول المتحدثين، المَواطنَ التي عرف فيها المبدع أولا من خلال تكوينه العلمي والأدبي، ومن خلال عمله الدولي كمسؤول في العمل الدولي عن السياسات الثقافية، وأيضاً من خلال اهتمامه بالموسيقى والمديح والسماع. وأخيراً بنبوغه في مجال الأدب والرواية، وقد وسم الدكتور الجراري هذا النوع من الرواية بأنها رواية روحانية وكونية، وأنها نمط جديد في الكتابة الروائية لم يُسبَق إليه المؤلف. وتحدث عما يميز هذه الرواية عن الأنماط الأخرى من الرواية التاريخية والواقعية وغيرها. وبيّن أنها تسعى إلى إيضاح العرفان عند أعلامه الكبار بلغة عربية متميزة ومشرقة مصدرها القرآن الكريم والتراث الثقافي الذي استوعبه المبدع بذكاء لافت وحرفية كبيرة، وبكون هذه اللغة مليئة بالمجاز والاستعارات والإشارات بحيث تدفع القارئ إلى عوالم تقربه من هؤلاء الأعلام الكبار وتسهل الوصول إليهم وإلى أعمالهم. ولأن هذا الطموح كبير وكوني فقد بيّن الدكتور عباس الجراري أن المؤلف أحسّ بصعوبة إدراك كل مراميه فوضع مجموعة من البيانات لكي يُعبِّد الطريق أمام الطالب الراغب والقارئ العاشق حتى يقف على العوالم العجيبة التي يشيدها. ثم بيّن الدكتور عباس الجراري أنه من الخطأ أن نصف هذا المشروع بأنه مغامرة إبداعية لأن الروائي ينطلق من مبادئ ورؤية واضحة وأهداف محددة ومنهاج لا يصح معها إطلاق لفظ المغامرة عليه، بل هو عمل إبداعي واع بمراميه وأهدافه. وخلص إلى أن المبدع قد قام بدوره في تقريب أعماله وتقديمها للقراء وليس عليه كما يقول الشاعر: عليَّ نحتُ القوافي من معادنها وليس عليّ إذا لم تفهم… ودعا الدكتور الجراري النقاد إلى الانكباب على هذا المشروع الروائي الجديد لقراءته وتقديمه للقراء وإبراز قيمته الأدبية والأخلاقية والحضارية. كما دعا الطلاب في شُعَبِ الآداب بمختلف لغاتها، وشُعَب الفكر الإسلامي والفلسفة والتاريخ وغيرها إلى قراءة هذه الروايات لأنها تقدم صورة متكاملة عن الحضارة العربية الإسلامية والتاريخ والفكر الإسلاميين وأعلامه الكبار، ليعرفوا أن في الإبداع المغربي، ومِنْ بَيْنِ علمائنا وأدبائنا مَنْ يمزجون بين التعبير الأدبي الفني الرفيع والفكر الفلسفي الإسلامي العميق في أعمال أدبية رائعة. وختم كلامه بالقول “وهي مناسبة لأحيي هذا المبدع وأهنئه على هذا التكريم المستحق، وأتمنى له مزيداً من التوفيق والسؤدد والتألق في هذا المجال وفي غيره. كما أهنئ جامعة الحسن الثاني وكلية الآداب والعلوم الإنسانية على تنظيم هذه الندوة العلمية الكبيرة التي تُشَدُّ إليها الرحال”.

أما الدكتور مصطفى الجوهري فقد ذكر أولا أن هذه الندوة العلمية حققت سبقاً علمياً على مستوى المغرب والعالم العربي بتنظيم هذه الندوة. وبيّن الدكتور الجوهري أن الأستاذ عبد الإله بن عرفة يتميز بخصال أخلاقية عالية وخصال علمية كبيرة. كما بيّن أن الرواية العرفانية فَتْحٌ جديد في السرد الروائي، ونمط روائي جديد متمرِّد على السائد من الكتابات الروائية، اقتحم صاحبُه الصّعبَ وتميّز بالتجديد والتجدد الذي يقرن الإبداع بالتنظير في المغرب والعالم العربي. ثم ذكر أنه تعرَّف على الأستاذ ابن عرفة من خلال محطات كثيرة منها محطة المديح والموسيقى الأندلسية والسماع برفقة شيخ المادحين والمسمعين سيدي عبد اللطيف بنمنصور، والمحطة الثانية هي محطة النادي الجراري، والمحطة الثالثة هي محطة الإيسيسكو، والمحطة الرابعة هي محطة البحث العلمي والإنتاج الأدبي والفكري والثقافي. وخلص إلى القول بأن المبدع الدكتور عبد الإله بن عرفة أديب مبدع مجدد، وأن مشروعه انطلق من المشرق أولا حتى صار اسماً مرموقاً هناك قبل أن يصل إلى المغرب، وذلك أنه يصدر رواياته لدى دار الآداب التي لا تنشر إلا للأدباء الكبار. وهنأ المبدع في ختام كلمته، وبيّن أن تكريمه في هذه الندوة تكريم للإبداع المغربي الرفيع. ثم تناول الكلمة الدكتور مصطفى أمدي الذي بيّن أهمية هذا المشروع، ومركزية الأندلس في روايات الأديب عبد الإله بن عرفة، ودعا إلى الانكباب على هذه التجربة بالدراسة والترجمة.

وبعد ذلك انطلقت الجلسة العلمية الأولى تحت عنوان “الأبعاد الصوفية في الرواية العرفانية” التي ترأسها د. محمد البكري. وقد تناول الكلمة فيها أولا فضيلة الأستاذ عبد الله اكديرة، رئيس المجلس العلمي بالرباط، في بحث عنونه “رواية التصوف عند عبد الإله بن عرفة: تاريخ وإبداع”. وقسم بحثه إلى ستة أقسام تحدث فيها عن المعرفة والعرفان في روايات ابن عرفة، ثم انتقل إلى سبب اختياره للرواية في التعبير عن المعارف التي يبثها في أعماله، وتحدث ثالثاً عن الأعلام الكبار الذين اختارهم شخوصاً لهذه الأعمال، ثم تكلم عن أسلوب الرواية وحبكتها ولغتها العالية، وفي القسم الخامس تحدث عن مستقبل هذه الرواية ومكانتها عند جمهور القراء في المغرب والوطن العربي والإسلامي. وختم كلمته بالتأكيد على أن المبدع لم يسبق إلى هذا النوع من الفن الروائي، وله بهذا فضل السبق وحيازة الريادة. ثم أعقبه الدكتور صالح شكاك في بحث عنونه “قراءة في رواية جبل قاف: ذاكرة التاريخ ومسالك الحكمة” الذي قدم قراءة عاشقة لهذه الرواية ولغتها وعرفانيتها، أما ذاكرة التاريخ فتفوح بالأحداث والوقائع. فالتاريخ بالنسبة للمؤلف لا يعني قضايا وقعت وانتهت بل إنه يثمر في حياتنا. أما العرفان والحكمة فهو الفضاء الذي يتقلّب فيه. وقد كان البحث الذي ألقاه الدكتور شكاك نصا إبداعيا وجماليا بامتياز نحته من خلال قراءته لهذه الرواية تحت ولاية سر القاف، فجاء طافحاً بلغة ومعجم ينهل من كل الألفاظ العربية المتضمنة لحرف القاف. وبعد ذلك أخذ الدكتور أحمد زنيبر الكلمة وألقى بحثاً تحت عنوان “التاريخي والإبداعي في رواية الحواميم لعبد الإله بن عرفة”، وتحدث عن الدلالات التاريخية لحادثة طرد الموريسكيين التي خصصها لرواية الحواميم. وتساءل الباحث قائلا: كيف قام المؤلف بتذويب كل الإشكالات المرتبطة بهذا الحدث التاريخي في قالب روائي ممتع؟ ولماذا تعود الرواية لإحياء حدث تاريخي مضى وانقضى؟ وأجاب بقوله: حتى لا تبقى الرواية تاريخاً صرفاً فإن المبدع تخيّل قصة حب ذوّبها في نسيج هذه الأحداث التاريخية بشكل متواشج. وتحدث عن أقسام الرواية المسماة بالألوية السبعة في علاقة مع سور الحواميم. وكيف أن ثنائية الموت والحياة تشتغل في مجمل السرد الحكائي لهذه الرواية سواء في الأحداث أو أسماء الشخوص وغير ذلك. وقد بلغ المبدع القمة في الإبداع والتعبير حين صوّر لنا أنواع التنكيل والتعذيب التي تعرّض لها الموريسكيون في محاكم التفتيش. وينقل لنا فصولا وحوارات عميقة من الرواية في سجن من سجون الكنيسة بين شيخ مسلم وإصلاحي بروتستانتي. إن عودة ابن عرفة للتاريخ لم تكن مجانية وإنما لفتح كوات متجددة في راهننا عن طريق استرجاع التاريخ. كما وضح اهتمام الكاتب باللغة وتنوع المعاجم اللغوية المتعددة في متن الرواية، واهتمامه بنقل المشاعر الإنسانية المختلفة كالحب والكراهية والصداقة والخيانة وغيرها. كما تحدث عن عناية الكاتب بالسرد، والمزاوجة بين سرعة الإيقاع وبطئه بحسب الأحداث المصبوبة في السرد العام، وعنايته بالحوار لمناقشة قضايا حضارية وإنسانية ووجدانية وغيرها. وختم الباحث بالقول إن الكاتب قد برهن على مقدرة فنية تسافر بالقارئ نحو تخوم إبداعية وتخيلية عجيبة. لقد جمعت الرواية بين السيرة والحكي والتاريخ والحكاية والشهادة، إنها كتابة بالنور تروم الإبداع والإمتاع.

أما عبد اللطيف الوراري، فقد قدم بحثاً تحت عنوان “التخييلي والعرفاني في رواية ابن الخطيب في روضة طه”. وتساءل عن حقيقة الدعوى التي تربط الرواية بنشأة غربية في حين أن المستوى الذي وصلت إليه الكتابة الروائية في العالم تؤشر على أنها فن عالمي. وخلص إلى أنه لا معنى لفرض القوانين الغربية على كل إنتاج روائي، والخضوع لمركزية غربية تنكر على الأمم الأخرى أي أصالة وتلزمها بالمرور من نفس المراحل التي مر منها الأدب الغربي. وطرح الباحث قضية السيرة والتاريخ والمآزق النظرية الثاوية في معالجة هذه القضية. ودعا إلى هدم الحدود بين التاريخ والتخييل، والتعارض بين التاريخ والسيرة. وبيّن أن الخطاب التاريخي صنعة أدبية ليس بأقل تخييلا من الأدب. كما توقف عند مفهوم الحضور والشهادة التي يستعملهما المبدع في بياناته الأدبية. وتساءل الباحث: هل من حقنا الحديث عن التخييل العرفاني؟ ويجيب بأن التخييل يصل إلى مداه في التجربة العرفانية، وقد نجح المبدع في الوصول بهذا التخييل إلى القمة. لكن هذه الرواية ليست كأي رواية، إنها تفتح أمام المتلقي أفق انتظار، فلا هي رواية اجتماعية أو بوليسية أو واقعية، بل إنها رواية إشراقية نورانية وعرفانية تخضع لمفهوم آخر للكتابة هو الكتابة بالنور، ويتسم فيها السفر بين الواقع والخيال الخلاق. ورغم أن الأحداث الروائية تاريخية فإنها مرجعيتها لازمنية تستوعب في ديمومتها جميع الأبعاد الزمنية. لقد ترسّخ في وعي المبدع معنى هذه الرواية العرفانية من خلال بلبلة النظام الأجناسي بمزجه البارع بين أنماط سردية وحكائية متنوعة مستمدة بالأساس من مادة الروح ومن تجربة المبدع الروحية.

وفي اليوم الثاني للندوة، عقدت الجلسة العلمية الثانية بعنوان “أبعاد الرواية العرفانية”. وترأستها دة. فاطمة أعوانت. وبعد المناقشة، عقدت الجلسة الختامية حيث أخذ الكلمة المحتفى به، فبدأ بالشكر المستحق للكلية واللجنة المنظمة والأساتذة المشاركين والطلبة. ثم أجاب عن بعض الأسئلة العالقة، وبيّن بعضاً من اختياراته الإبداعية وتحدث على أهمية أن تتوفر للكاتب رؤية ومنهج وغايات. ثم بين مفهومه للعرفان فلم يحصره في نمط فكري بعينه بل لخصه في كونه “فناءً عن كل معروف” إلى درجة تتحقق فيها المماهاة بين العارف والمعروف والمعرفة. وبين كذلك تهمُّمَه بالتخليق أمام الانحرافات الأخلاقية المهولة التي تمر منها إنسانية القرن الواحد والعشرين والتفكك الأسري والتلوث البيئي والتسيب التقني، وخلص إلى أن الحوار بين الثقافات يمكنه أن يكون حول قضية القيم. ثم دعا إلى عدم الإغراق في المطالبة بالخصوصية الثقافية لأن ذلك يعني أن الكونية تصنعها أمم أخرى. كما تحدث عن المسألة اللغوية وعن حقيقة الأدب الذي ينبغي أن يكتب بعربية راقية أمام الفوضى اللغوية السائدة. وعرج على أن الرواية العرفانية قد حققت هدفها وأسست لجمالية عرفانية تتواشج فيها المعرفة بالسلوك، ويتحقق فيها الذكر مع الفكر، ويتساوق فيها التاريخ مع الحاضر، وأكد على أن الرواية العرفانية تطمح للنهوض بالأدب المغربي والعربي لها من الجدارة ما يؤهلها لبلوغ كونية جديدة.

وفي ختام الجلسة تم تكريم المحتفى به وقام السيد عميد الكلية بتقديم هدية للمبدع، ثم تحلق الأساتذة المشاركون والطلبة بالأديب الدكتور عبد الإله بن عرفة على منصة مدرج الكلية، في تواشج روحي فريد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

التعديل الأخير تم: 02/07/2021