السيرة الذاتية والشِّعر

أن يستلهم الشاعر سيرة أناه تخييليّاً عبر تقنيّات جديدة يستوجبها السرد

 

السيرذاتي والشعري:

تغيّر المشروع السيرذاتي وتغيّرت معه في تحديد صيغ هُويّته وأشكال أدبيّته، في سياق إعادة الاعتبار لنصوص وخطابات كانت مقصيّة من الأدب عموماً، ومن أدب السيرة الذاتية تحديداً، بما في ذلك جنس الشعر. وإذا كانت السيرة الذاتية أو المذكّرات، طوال القرنين التاسع عشر والعشرين، لم تفتأ تنزلق نحو الشعر، فيتداخل الأوتوبيوغرافي مع صوت الأنا الغنائي وقد يلتبس أحياناً مع ما يحيل صراحةً على المعيش، إلا أنّنا اليوم بصدد واقع آخر. فالحدّ الشعري بات يمثل جزءاً أساسيّاً في إعادة تحديد السيرة الذاتية، وإقرار قيمة النزوع المتسم بالمرونة، عوضاً عن الطابع الدوغمائي الذي طبع مفهومها وربطها بخلوص النثر. فلم يعد النثر قَيْداً في تحديد جنس السيرة الذاتية، وهو ما أقرّ به فيليب لوجون نفسه في نبرة دالّة: «في الميثاق السيرذاتي، قلتُ – يا للبدعة – إنّ السيرة الذاتية تكون نثْراً، إذ أنّ نحو 99 في المئة من الحالات جرت على ذلك، غير أنّ ذلك بالطبع لم يكن صحيحاً». وهو ما توقّف عنده، بإمعان، في الفصل المعنون بـ»ميشيل ليريس. الأوتوبيوغرافيا والشعر» من طبعة جديدة لكتابه «الميثاق السيرذاتي» (1996).
غير أنّ سؤال السيرة الذاتية والشعر لم يطرح بِقوّة إلا في الندوة النقدية التي انعقدت في مرسيليا (جنوب فرنسا) تحت عنوان: «حصّة السيرة الذاتية داخل الشعر المعاصر: أيّ تجديد؟» (تشرين الثاني/نوفمبر 2000)، وفرض على المتدخّلين من نقاد وشعراء أمثال إيف شارني، إيمانويل لوجيي، جان ميشيل مولبوا، شارل جوليي، باتريك كيشيشيان، ميشيل ديغي، دومينيك راباتي.. بحث مسألة العلاقة بين الشعر والسيرة الذاتية اليوم، والتفكير في الوشائج التي تجمع بين ذات الكتابة والذات الواقعية، ومسألة المسافات بكلّ معاني الكلمة: المسافة بين الممارسات الكتابية والأوضاع النظرية، بين الذات والنفس بحدّ ذاتها، بين الذات واللغة.
وكان من جملة الأسئلة التي دعتْهُمْ إلى التأمل في وظائف الشعر وهو يواجه القول السير ذاتي، وفي حدوده أيضاً: أيّ حصةٍ من السيرة الذاتية تحتمي بها القصيدة وتحتملها؟ هل للنظام السير ذاتي من معنى في الشعر؟ وإذا كان التخييل يلقي بنفسه في قلب الجهاز السير ذاتي، ولم يعُدِ الصدق باعتباره ضامن القول، كما تشير إلى ذلك نصوص الآونة الأخيرة، فما المآل الذي يصير إليه الملفوظ السيرذاتي عبر القصيدة؟ وما فاعليّته في ظلّ الإلحاح الراهن على الصوت والجسد كعلاماتٍ تؤشر إلى تجدُّد التقليد الغنائي العريق والعودة إليه؟ وماذا يحصل داخل العبور من الشكل شعراً إلى الشكل نثراً من وجهة نظر وضع الذات التي تكتب: الذات كأثر، مُتعدّد، وتنظيم لأصوات مُتشظّية؟ وما هي الثيمات والسجلات التي ستكون بالنسبة لنا خارج الشعر، أو حتّى التي على الشعر أن يقاومها أمام تضخُّم الأنا المرضي مع ما يصاحبه من مجموع الاستيهامات والنوادر؟ وفي إعادة بناء الذات التي تضيع تلقاء نفسها في نسيج اللغة، هل من الممكن قول الأنا عبر اللغة، أو بشكلٍ أكثر جذريّةً إعداد «تاريخ الأنا» من داخل ملفوظات اللغة الشعرية التي أنتجتها؟
اِستطاعت أعمال الندوة أن ترسم النطاق الراهن لاستراتيجيّات الكتابة الشعرية في علاقتها بالمشروع السيرذاتي، بموازاة مع النقاش الذي فتحه هيغو فريدريش وكيت هامبورغر، واستندا فيه إلى التحليلات النقدية المعاصرة للسيرة الذاتية والذات الغنائية؛ ومع ما كانت تمارسه الحداثة من إغواء على حقل الأدب، ومن بلبلة في المقولات: إنتاج النثر الغنائي، نثر القصيدة. فلم يعد هناك فصل بين أجناس وأشكال ما سمح بواقع ممارسة مفتوحة للأشكال كان يتنامى باطّراد: استعمال السجلّات الأجناسية والتقنيات المقترضة من السينما والفيديو والمعلوميات استعمالاً مختلفاً، الممارسة المفتوحة التي تبحث (داخل القلق أو داخل اللعبة) ضرورتها، وتبدو أنّها تقلص الحدّ بين التخييل والواقع.

من السيرة الذاتية الشعرية إلى البناء الشعري:

في المجال العربي، وبدلاً من السير الشعرية الذاتية، أي سِيَـر الشعراء الذين يعرضون فيها قصصهم مع الشعر، ويُضمِّنونها تصوُّراتهم للقصيدة وتجاربهم الشعرية ومصادرها الكتابية والمعرفية («تجربتي الشعرية» لعبد الوهاب البياتي، «حياتي في الشعر»، لصلاح عبد الصبور، «قصتي مع الشعر» لنزار قباني..)، صار بإمكاننا اليوم أن نتحدّث عن نصوص شعريّة سيرذاتية، أو على الأقلّ يبرز فيها العنصر السيرذاتي بوضوح أكثر من ذي قبل؛ وهو ما يجعل القارئ يتعرّف على أمشاج من سيرة الشاعر وأناه الأصلية ضمن الشِّعر نفسه، وبالتالي يمنحه الشعور بثقته، إذ أنّ ما يكتبه «حقيقي» وينأى به عن شطح الذّات وتهويماتها.
وكان العمل الشعري «لماذا تركت الحصان وحيداً» (1995) لمحمود درويش، هو فاتحة النصوص الشعرية التي أخذت تستثمر المُكوِّن السيرذاتي، وترتفع به إلى أن يكون خصيصةً بنائيّةً. ولهذا، فلا غرو أن نجد أنّ أكثر هذه التحليلات تُركّز على هذا العمل لتبيُّن علاقة السيرذاتي بالشعري. ثم توالت هذه النصوص بعد ذلك، في شعر سعدي يوسف، قاسم حداد، محمد علي شمس الدين، وديع سعادة، أمجد ناصر، منصف الوهايبي، حسن نجمي، زليخة أبو ريشة، غسان زقطان، مبارك وساط، إبراهيم نصر الله، صلاح بوسريف، لينا الطيبي، أحمد الشهاوي، سعدية مفرح، وسكينة حبيب الله، تمثيلاً لا حصراً.
فالعنصر السيرذاتي داخل القصيدة المعاصرة يُشكّل مُقوّما ثيماتيّاً وجماليّاً بارزاً، ولم يعد الأمر يتعلّق بتوظيف أو إدراج أبيات شعرية داخل نصّ السيرة الذاتية. لقد باتت «القصيدة السيرذاتية» تُمثّل جنساً أدبيّاً ينتمي إلى السيرة الذاتية، وهي بمثابة نصوص، شذرات واستدعاءات مقطعيّة، يُميّزها استعمال «أنا» سيرذاتي مرتبط بالاسم الشخصي للشّاعر، كما يُداخل بنيتها السرد الذي يتواءم مع طبيعتها المفتوحة؛ وإن كان من الصعب، في أحيان ما، أن نحكم في ما إذا كانت هذه العناصر السيرذاتية مُستقاة من حياة الشاعر أو تاريخ شخصيّته. لكن المسعى الجمالي والإيحائي – أيّاً كان – يجب ألا يصرف اهتمامه عن قول الحقيقة، بل على أنا الشاعر، الأصلي والمتلفّظ في آن، أن يلتزم بمبدأ الصدق وطابع الواقعية في سرد تاريخ حياتها شعراً بما يقتضيه ذلك من بذلٍ فنّي وقدرة على التخييل، فيكون الشعر مثل نظيره النثر أَهْلاً لاحتضان السيرة الذاتية وكتابتها، وقادراً على استعادة حياة الأنا والوعد بالكشف عن ماضيها الشخصي، ولكن وفق ميثاق سيرذاتي- تخييلي مغاير جديد. فكتابة السيرة الذاتية في سياق الشعر تتطلّب من الشاعر أن يقول أناه ويستعيده بصدق وتعبيريّة نوعية من جهة، ومن جهة أخرى عليه أن يستلهم سيرته البيوغرافية من داخل رؤية أنواعية تتقيّد بقوانين الكلام الشعري وفضاء تكوّنه بقدر ما تنفتح على تقنيّات جديدة يستوجبها السرد.‏

  تقهقر النقد:

في الوقت الذي يكشف فيه واقع الممارسة الشعرية العربية عن بروز الخطاب السيرذاتي، إلا أنّ نقد الشعر لا يزال متقهقراً عن كشف هذا الخطاب وقراءته من أمكنة مختلفة تُعبّر عن هذا التحوُّل المُهمّ ضمن تحوُّلات جوهرية مسّتْ الخطاب الشعري المعاصر. وإلى الآن، لا نعثر إلا على دراسات قليلة من داخل نقد الشِّعر تلاحق، بدرجات مختلفة، ما يندّ من التماعاتٍ وإشاراتٍ وعناصر سيريّة في القصائد، ويُقارب تمظهراتها الفنية وتجسداتها النصية، لرؤية ما تعطي للقصيدة من طاقة السرد، وما تأخذ من شعريتها موضوعاً وبِناءً وإيقاعاً. وهنا، لا مناص من أن نشير إلى الجهود الطيبة لكلّ من محمد صابر عبيد، حاتم الصكر، محمد بونجمة، خليل الشيخ، خليل شكري هياس، فتحي النصري وسواهم. وتظلُّ الدورة الأكاديمية التي نظمها بيت الشعر في المغرب تحت عنوان «الأوتوبيوغرافي في الشعر المغربي المعاصر» (طنجة، أكتوبر/تشرين الأول 2013)، هي الأبرز بما تضمّنته من دراسات متنوعة لباحثين ونقّاد شعراء (حسن المودن، خالد بلقاسم، عبد الرحيم الإدريسي، محمد بودويك، يوسف ناوري، نبيل منصر، ، محمد المسعودي، حسن مخافي، أحمد هاشم الريسوني، عبد الغني فوزي، خالد الريسوني، علي أيت أوشان، محمد أيت حنا)، إذ ناقشت مفهوم السيرذاتي وشكل حضوره واشتغالاته النوعيّ في القصيدة، مثلما وصفت أوضاعه في الشعر المغربي المعاصر، من حيث فاعلية عناصره في بناء الخطاب بطريقة مخصوصة إيقاعاً وتركيباً، متخيّلاً ورؤى.
والطريف أنّ صعود السيرذاتي في الشعر العربي المعاصر يتنامى باستمرار، ويغري الشعراء من الجنسين باستثماره وإعادة بنائه تخييليّاً، ولا سيما في ضوء ما تشهده المنطقة العربية خاصة، وأركان المعمورة برمّتها، من انهيار الإيديولوجيات التوليتارية وما بقي منها يقاوم النزع الأخير.

التعديل الأخير تم: 05/07/2021