عبد اللطيف الوراري يسترجع سيرته لكن لا يقول كلَّ شيء

16

صدر عن منشورات سليكي أخوين- طنجة 2016، وبدعم وزارة الثقافة، كتابٌ جديدٌ تحت عنوان «ضوء ودخان: شذراتٌ من سيرة ذاتية».
تمتدّ وقائع السيرة إلى ولادة الكاتب وطفولته في مسقط رأسه في إحدى قرى دُكّـالة، حيث عاش يتيما ودخل الكُتّاب، قبل أن يهاجر هو وعائلته إلى الشمال للتعلم واكتشاف واقع المدينة الجديد. وهناك، عبر أمكنة واقعية وأخرى متخيّلة، يروي السارد بضمير المتكلم، وباسم العلم الشخصي، فصول المعاناة التي عاشها وأفراد عائلته نتيجة الظروف المستجدة وضائقة يد المعيل الوحيد، إلى أن يأتي الشِّعر مثل «هبة ربانية» تُنْسي سارد السيرة هول الواقع الذي استبدله بمتعة بدايات كتابة الشعر الذي اعتبره بمثابة «سلوى وعزاء».
فالسيرة الذاتية، هنا، تستعيد شريطا من لحظات من ماضي الشخصية، يتخللها دفق من العواطف والهواجس وأحلام اليقظة. وهي مع ما فيها من بوح واعتراف، لا تخضع لـترتيب كرونوجي صارم يحدُّ من بعدها البيوغرافي الحميمي والشذري المفتوح. وعلى هذا النحو يمزج السارد السيرذاتي بين اللغة الوصفية والشعرية تبعا لتطور أوضاع السيرة الذاتية، وأشكال تدبير الذات لكينونتها في العالم وعلاقاته بالآخرين (الأب، الأم، الجد، العم سعيد…).
وهكذا تنفتح على عالم فسيح ومرجعي يتضاءل شيئا فشيئا حتى يتركز على ذات السيرة. وهي سيرة ذات بقدر ما هي سيرة شخصيات تأثرت بها هذه الذات في محيطها، إن لم نقل إنّها سيرة جيل بأكمله فتح عينيه على واقع كان يتحول باستمرار.
إن الكاتب وهو يسترجع سيرته لا يقول «كل شيء» ولا ينصاع إلى البحث في دروبها عن التفاصيل، ولكنّه وفي الوقت نفسه لا يتعمد إخفاء أيِّ شيء لقناعة تبدو عميقة بأن كل لحظة طيلة تلك الحياة، تستحقّ الاحتفاء: «لتشتغل أمّي من جديد في معمل النسيج كأيِّ أسطورةٍ كُتب عليها أن تعيش الوحدة مرة أخرى، ولكنها لا تمل من مفاجآت السرد وتوالي البرق فيه» أو: «وأين اختفى عندما كانت أسناننا تصطكُّ من برد الليالي القارس بمقربةٍ منها، ونعدم ما نتدفأ به؟».
شهادات
وفي علاقة السيرة بالزمن والذاكرة، كتبت الأديبة والباحثة الأكاديمية العالية ماءالعينين: «طيلة هذه السيرة/ الحياة المليئة بالمنعرجات والمطبّات، لا تشعر بأن هناك عنفا أو علاقة قسرية مع الذاكرة، رغم أنها لم تخل من قسوة وألم، بل ربما كانت أغلب مراحلها الأولى عنفا جسديا ونفسيا بليغا. وفي أقسى لحظات العودة إلى «الماضي» ظلت اللغة متمنعة عن استدرار «العطف» أو السقوط في ظلمات النقمة وليّ عنق البؤس للإثارة».
وأضافت: «إن الكتابة عن الذات، مهما بلغت درجة عمقها وقوّتها، لا تعني بالضرورة رغبة أو حتى قدرة على التصالح مع الماضي وربما الحاضر، وهذا بالذات ما يبدو قويّا في هذه الشذرات وتتخلله التماعة هدف صغير بطعم الحلم سجّله ذلك الطفل الذي كانه في مرمى الحياة دون أن يتوقف عن استكمال لعبه معها…».
أما الشاعر والقاص أحمد بنميمون، فقال في شهادته: «قرأت «ضوء ودخان» فلم يَرُعْني فيها ما ذكره عن معاناته في مراحل حياته الأولى من يُتْمٍ شخصيٍّ ووجوديٍّ، وتقلب في مراحل دراسية كان فيها منذ حفظه القرآن والتحاقه بصفوف المدرسة، وما كان يبديه من تفوق في المستويات، ولا حتى اختياره الشعر في وسط لم يكن يعرف أي معنى لهذه الكلمة، لكن الذي راعني فيها هو حديثه الذي لا يمكن أن يكون إلّا صادقا عن لقائه أول مرة بالشِّعر حين استوقفه كتاب «ميزان الذهب»، وكيف قرأه، وهو يحلُّ جداوله ليمتلك منذ البدء حصانة لن يضيع بعدها على درب الشعر، وليصبح أحد أقوى أصواتنا الشعرية بعد أن عرف كيف يطعمها بما ادخره عبر سلسلة تجارب مؤلمة في الطفولة، التي لم تجد ملعقة ذهبية تملأ فمه بما يلذ ويطيب، ولكنها كانت حافلة بأشواك كثيرة ووَرْدٍ أقلَّ إلا ورد الموهبة». واستخلص قائلا: «ما يبهر من سيرة هذا الشاعر هو مسار كفاحه».
ورأى الشاعر والمترجم نورالدين الزويتني أن عبد اللطيف الوراري «ليس فقط ساردا لسيرته الخاصة، ولكن أيضا بوصفه شــاعرا يغوص إلى عمق تلك الأحاسيس الخام التي يمتزج فيها الخاص مع ما هو جوهري وكوني، أي ذلك النــــبع الروحـــــي الذي يمتح منه الشعراء والفنانون».
وزاد: «في هذا السرد الدافق بدفء غديرٍ خـــــريفيٍّ لا نقــــرأ فقط مرحلة مهمة وتأسيسية من حياة هذا الشاعر المميز، بل نتقرّى ملامح مرحلة تاريخية مهمة من مراحل المغرب الحديث؛ سنوات الحلم، والسنوات العجاف، وسنوات الرصاص، ليأخذنا الفصل الأخير على حين غرّةٍ، عندما تكون لذّة السرد قد استغرقتنا حتى تمنّيْنا انسيابه إلى ما لانهاية».
تتكون سيرة «ضوء ودخان» من نحو عشرين فصلا يتقاطع فيه السردي بالشعري، وقد أهداها الكاتب إلى أُمّه بما يشبه اعترافا بفضلها العظيم. لوحة الغلاف للرسام بول كلي.

سيرة ذاتية لشاعر مغربي يطارد الأمل بذاكرة مجنحة

الكتابة عن الذات، مهما بلغت درجة عمقها وقوتها، لا تعني بالضرورة رغبة أو حتى قدرة على التصالح مع الماضي وربما الحاضر، وهنا تبرز السيرة الذاتية مستعيدة شريطا من لحظات من ماضي الشخصية يتخللها دفق من العواطف والهواجس وأحلام اليقظة. وهي مع ما فيها من بوح واعتراف، لا تخضع لترتيب كرونولوجي صارم يحدّ من بعدها البيوغرافي الحميمي والشذري المفتوح.

السبت 2016/12/31

صحيفة (العرب)

طفل ينتظر بزوغ الشمس (لوحة للفنان إيمان ملكي)

الرباط - ينثر الشاعر والناقد المغربي عبداللطيف الوراري، في عمله الجديد الموسوم بـ”ضوء ودخان.. شذراتٌ من سيرة ذاتية”، شذرات من سيرته الذاتية، منذ ولادته ونشأته بمسقط رأسه بإحدى قرى دكالة، حيث تيتّم وعانى فراق الأب ودخل الكُتّاب، قبل أن ينزح هو وعائلته إلى شمال البلاد لأجل أن يلتحق بالمدرسة حتى حصوله على شهادة الباكالوريا.

وهذا بالذات ما يبدو قويا في هذه الشذرات وتتخلله التماعة هدف صغير بطعم الحلم سجّله ذلك الطفل الذي كأنه في مرمى الحياة دون أن يتوقف عن استكمال لعبه معها.

وهناك، وعبر أمكنة واقعية وأخرى متخيّلة، يسرد المؤلف بضمير المتكلم، وباسم العلم الشخصي، فصول المعاناة والفقر التي عاشها مع أفراد عائلته نتيجة الظروف المستجدة وضائقة يد المعيل الوحيد، إلى أن يأتي الشِّعر مثل “هبة ربانية” تُنْسي، لبعض الوقت، سارد السيرة هول الواقع الذي استبدل به هول بدايات كتابة الشعر الذي اعتبره بمثابة “سلوى وعزاء”.

وعلى هذا النحو يمزج السارد في السيرة الذاتية بين اللغة الوصفية والشعرية تبعا لتطور أوضاع هذه السيرة وأشكال تدبير الأنا لكينونة ذاته وعلاقاته بالآخرين (الأب، الأم، الجد، العم سعيد، مسعود..)، وتنوع حيوات عالمها المتراحب.

ومن البدء تأخذ السيرة قارئها، وهي تنفتح على عالم فسيح ومرجعي يتضاءل شيئا فشيئا حتى يتركز على ذات السيرة. وبقدر ما هي سيرة ذات، فهي سيرة شخصيات تأثرت بها هذه الذات، إن لم نقل إنّها سيرة جيل بأكمله.

حالة الفقد

يعبّر عبداللطيف الوراري في كتابه، الصادر عن “منشورات سليكي أخوين” بطنجة، بدعم من وزارة الثقافة المغربية، عن حالة الفقد التي عاشها الطفل الذي أضاع أباه ولما يجفَّ حليب أمه على شفاه أبنائها.

ورغم كل محطات الحرمان والمكابدة ظل الكاتب محافظا على انتشائه بلحظات الفرح والحب والدهشة. يربّت على الجراح التي كالها له الزمن ويزرع بين شقوقها بذور الشعر والأمل والمستقبل “يوما على ظهر يوم أدرج وأسقط/ ألهو وأبكي/ أمرض وأتعافى/ ثم سرعان ما تفتحت عيناي على عالم أتخيله أشبه بالسحر والخرافة: مساقط الماء/ مواسم الحصاد الذي لم ينقطع وما يعقبه”.

تجارب مؤلمة في الطفولة التي لم تجد ملعقة ذهبية تملأ فمه بما يلذ ويطيب، ولكنها كانت حافلة بأشواك كثيرة

الكاتب وهو يسترجع سيرته لا يقول كل شيء ولا ينصاع إلى البحث في دروبها عن التفاصيل، ولكنّه وفي نفس الوقت لا يتعمّد إخفاء أيِّ شيء لقناعة تبدو عميقة بأن كل لحظة طيلة تلك الحياة، تستحقّ الاحتفاء “لتشتغل أمّي من جديد في معمل النسيج كأيِّ أسطورة كُتب عليها أن تعيش الوحدة مرة أخرى، ولكنها لا تمل من مفاجآت السرد وتوالي البرق فيه”، أو “وأين اختفى عندما كانت أسناننا تصطكُّ من برد الليالي القارس بمقربة منها، ونعدم ما نتدفأ به؟”.

هذه شذرات من سيرة ذاتية ولكنها أيضا جماعيّة، وذلك بابٌ آخر مشرع على قراءات وعوالم أكثر إدهاشا وعمقا وتمثيلا لتجربة جيل كامل.

من منظوره، يرى الشاعر والمترجم المغربي نورالدين الزويتني أنه قد لا نبالغ أو نجانب صواب العنوان إذا نحن استبدلنا في مُخيّلتنا عبارة ضوء ودخان بعبارة سيرة الشاعر بصيغة التعريف، فأهم ما يطالعك في هذه الشذرات المكتوبة بحبر اللوعة والحنين والصدق والبساطة والشعر، هو صورة شخص لا يفتأ يتقمّصك رغما عنك بين هذا الفصل وذاك.

وهو يعرض أهم محتوى السيرة وتوتر الذاتي والجمعي فيه، الزويتني يقول “فهنا الولادة وطقوسها، اليتم، الشغب الطفولي، التنقل من جغرافيا إلى جغرافيا، ذكريات التمدرس الأولى، الأسواق الأسبوعية، كتاب ‘اقرأ’، العشق الأول وخيباته الأولى، انبثاق جذوة الشعر، كتاب ‘ميزان الذهب’، وغيرها من الأشياء والأحداث والمواقف التي يرسمها الشاعر والناقد عبداللطيف الوراري ليس فقط كسارد لسيرته الخاصة، ولكن أيضا بوصفه شاعرا يغوص في عمق تلك الأحاسيس الخام التي يمتزج فيها الخاص مع ما هو جوهري وكوني، أي ذلك النبع الروحي الذي يمتح منه الشعراء والفنانون”.

سيرة الشاعر

تتساءل الأديبة والباحثة الأكاديمية العالية ماء العينين، وهي تقرأ سيرة الوراري “لماذا يفكر الأديب أو الإنسان عموما في كتابة سيرته الذاتية؟” وكتبت تقول “سؤال يراودني ويلح عليّ كلما أقبلت على قراءة هذا الجنس الإبداعي المخاتل. ولهذا أجدني دائما أبحث عن الجواب في ثنايا ما أقرأه. قد يكون هذا جزءا من السؤال الأكبر لماذا نكتب؟ وقد يعود إلى ‘قناعات’ منهجية حتى وإن لم تكن صارمة ولكنها حاضرة. لست من المؤمنين بـ ‘موت المؤلف’، وكثيرا ما أجدني في مهمّة البحث عنه من خلال ما يكتب، ولا أقصد طبعا ‘حرفية’ ما يكتب”.

أما الشاعر والقاص المغربي أحمد بنميمون، فقد كتب “قرأت ‘ضوء ودخان’ فلم يرعني فيها ما ذكره عن معاناته في مراحل حياته الأولى من يُتم شخصي ووجودي، وتقلب في مراحل دراسية كان فيها منذ حفظه القرآن والتحاقه بصفوف المدرسة، وما كان يبديه من تفوق في المستويات، ولا حتى في اختياره الشعر في وسط لم يكن يعرف أي معنى لهذه الكلمة، لكن الذي راعني فيها هو حديثه الذي لا يمكن أن يكون إلا صادقا عن لقائه أول مرة بالشِّعر حين استوقفه كتاب ‘ميزان الذهب’، وكيف قرأه، وهو يحلُّ جداوله ليمتلك منذ البدء حصانة لن يضيع بعدها على درب الشعر، وليصبح أحد أقوى أصواتنا الشعرية بعد أن عرف كيف يطعمها بما اذَّخره عبر سلسلة من التجارب المؤلمة في الطفولة التي لم تجد ملعقة ذهبية تملأ فمه بما يلذ ويطيب، ولكنها كانت حافلة بأشواك كثيرة”.

 سيرة الاحتفاء

د. العالية ماءالعينين

مدونات المصدر

2017/ 09/ 12

لماذا يفكر الأديب او الإنسان عموما بكتابة سيرته الذاتية؟ سؤال يراودني و يلح علي كلما أقبلت على قراءة هذا الجنس الإبداعي المخاتل. و لهذا أجدني دائما أبحث عن الجواب في ثنايا ما أقرأه.

قد يكون هذا جزءا من السؤال الاكبر لماذا نكتب؟ و قد يعود إلى “قناعات” منهجية حتى و إن لم تكن صارمة و لكنها حاضرة. لست من المؤمنين ب”موت المؤلف” و كثيرا ما اجدني في مهمة البحث عنه من خلال ما يكتب، و لا أقصد طبعا “حرفية ” ما يكتب..

عندما بدأت قراءة هذه الشذرات سيطرت علي قناعة او فكرة كانت تتضح معالمها و تكبر كلما تعمقت في ثنايا تلك الحكايات الممتعة..و هي التي جعلتني اعطيها هذا العنوان “سيرة الاحتفاء…”

الكاتب لا يحاول استرجاع الماضي و عرض تفاصيله و تذكر أحداثه، بل هي نظرة يلقيها عليه من خلال “حاضره” هذا الحاضر الذي يشكل “المحطة” التي توقفت عندها سيرةُ حافلةٍ و سيرةٌ حافلةٌ. محطة انتهت بها مرحلة لتبدا أخرى أكثر طموحا . و لكنه وصول بسلام و رضى و “غنيمة” تستحق الاحتفاء..

و لذلك و طيلة هذه السيرة/ الحياة، المليئة بالمنعجرات و المطبات لا تشعر ان هناك عنفا أو علاقة قسرية مع الذاكرة، رغم انها لم تخل من قسوة و ألم. بل ربما كانت اغلب مراحلها الأولى عنفا جسديا و نفسيا بليغا . و في أقسى لحظات العودة إلى “الماضي” ظلت اللغة متمنعة عن استدرار “العطف” أو السقوط في ظلمات النقمة و لي عنق البؤس للإثارة

و جدوه أسفل الجرف يضع رجلا على رجل و يده اليمنى تسند خده كانه حي و يريد ان يتفوه بكلمة. و ربما قالها و صعدت إلى الملكوت الاعلى
هكذا يعبر الكاتب عن حالة الفقد التي عاشها الطفل الذي أضاع أباه و لما يجف حليب أمه على شفاه أبنائها..

و رغم كل محطات الحرمان و المكابدة ظل الكاتب محافظا على انتشائه بلحظات الفرح و الحب و الدهشة…يربت على الجراح التي كالها له الزمن و يزرع بين شقوقها بذور الشعر و الامل و المستقبل..

يوما على ظهر يوم أدرج و أسقط. ألهو و أبكي. أمرض و أتعافى. ثم سرعان ما تفتحت عيناي على عالم أتخيله أشبه بالسحر و الخرافة: مساقط الماء..مواسم الحصادالذي لم ينقطع. و ما يعقبه..”

الكاتب و هو يسترجع سيرته لا يقول “كل شيء” و لا ينصاعإلى البحث في دروبها عن التفاصيل، و لكنه و في نفس الوقت لا يتعمد إخفاء أي شيء لقناعة تبدو عميقة بان كل لحظة طيلة تلك الحياة، تستحق الاحتفاء…” لتشتغل أمي من جديد في معمل النسيج كأي أسطورة كتب عليها أن تعيش الوحدة مرة أخرى و لكنها لا تمل من مفاجآت السرد و توالي البرق فيه

و أين اختفى عندما كانت أسناننا تصطك من برد الليالي القارس بمقربة منها، و نعدم ما نتدفأبه؟

إن الكتابة عن الذات، مهما بلغت درجة عمقها و قوتها لا تعني بالضرورة رغبة او حتى قدرة على التصالح مع الماضي و ربما الحاضر و هذا بالذات ما يبدو قويا في هذه الشذرات و تتخلله التماعة هدف صغير بطعم الحلم سجله ـ ذلك الطفل الذي كان ـ في مرمى الحياة دون ان يتوقف عن استكمال “لعبه” معها
هذه شذرات من سيرة ذاتية و لكنها أيضا “جماعية” و ذلك باب آخر مشرع على قراءات و عوالم أكثر إدهاشا و عمقا و تمثيلا لتجربة جيل كامل..

 

ضوء ودخان أو المرايا التي تتلاعب بها ظلال الزمان

رشيد أزروال

الضوء ضوء الكتابة، الدخان دخان الأيام الخوالي، الحياة مطية الأوجاع التي على أشكالها تقع. الذاكرة صبورة، مطالبة بمزيد صبر، عليها أن تحمل لدغات عقارب النوستالجيا المتربصة بها تربص المنون. مثخنة هي الذاكرة بالجروح القديمة كما هي ضاجّةٌ بالأوقات الجميلة الماتعة كأنما هي مرطبات لشفاه جافة ومشققة.

بلاغة الاقتصاد

  هذا الحنين الشاسع كسهول "دُكّالة" – موطن الكاتب- يترامى على الصفحات البيض ويتشكل لحماً وعظماً وروحاً منبعثاً من جديد نصّاً سيرذاتيّاً، تخاله رواية، تخاله نصا عصيا عن التجنيس الأدبي. ثمة خيط ناظم يربط مقاطع الحكي المخترق بأنواع كتابية متداخلة، هذا الخيط حبكة، ليست بالحبكة التقليدية (بداية- عقدة-نهاية)، وإن كانت السيرة الذاتية تنصاع لهذه التراتبية السلطوية، إلا من حملة معاول الهدم المستبصر الذي لا يهدم هكذا عبثاً، إنما يهدم ليبني بناء جديدا، يهدم التراتبية ليبني حرية النص في أرجاء الذاكرة والمخيلة المحايثة لها (في مقام السيرة) مثل حارس الجمال من قبحيات التقريرية. هدم التراتبية لصناعة أشياء رائعة تحت الأنقاض.

   لهذا يتشظى النص السيرذاتي مقاطعا تنحاز إلى الاقتضاب؛ فالذات الساردة تحفظ "نعمة اللغة العربية"، تدري دراية العارف أن تحصيل الندرة المشعة في عالم الكتابة يمر عبر اقتصاد اللغة: الاقتضاب كنز لا تفنى دلالاته، وأيضا كثافته تفتن بما هي فتنة معاصرة تتحاشى التطويل أو الإطناب. السيرة تريد قول كل شيء وتختار أن تقوله بأقلّ كلفة دونما استرسال. وعلى حد تعبير الأديبة والباحثة الأكاديمية العالية ماء العينين، فإن (الكاتب وهو يسترجع سيرته لا يقول كل شيء، ولا ينصاع إلى البحث في دروبها عن التفاصيل، ولكنه في نفس الوقت لا يتعمد إخفاء أي شيء لقناعة تبدو عميقة بأن كل لحظة طيلة تلك الحياة، تستحق الاحتفاء...). لقد قالت السيرة الولادة، وقالت التاريخ، والهجرات، والطفولة، واليتم، والأبوّة والعمومة. وقالت بأن ثمّة جدًّا فارع الطول كان يهدي حفيده الفواكه الجافة اللذيذة. قالت بأن الشعب خرج محتجّاً على الدولة التي جعلته يجوع، وأن العمّ سعيد جرح حيّ (وأن يكون الجرح حيّاً فهناك ألم كبير وعذاب)، كان ينضب حزناً وكمداً على رحيل الأحباء. حزن العم موغل في دماء القرابة. وقالت بأن مسعود القروي الذي ترك الحرث وأتى بالنسل والحصان، جُنّ لما مات حصانه/ سلواه في الغربة (المدينة غربة القرويين). فالتنقل بين القرى والمدن والبلدات قدر عائلي؛ من قرية النواصرة بدكالة إلى اليوسفية إلى الخميسات إلى سيد علال البحراوي إلى الخميسات من جديد. الأمكنة التي ربت العين الثالثة، عين شاعر يقترف السرد كما اقترفه في هذا المحكي السيرذاتي.

درب اليتم والآلام

  السيرة هنا سير بصيغة الجمع؛ هي سيرة ذاتية بقدر ما هي سيرة غيرية-جمعيّة. السيرة الفردية لمّا تكون عاكسةً لسيرة جمعية هي امتلاء، والنص الممتلئ بتيمات وبؤر توتر تغري بالسفر في الوقائع الهاربة بين متاهات الذاكرة التي تلح عليها شرنقة الخيال. الذاكرة فراشة بأجنحة قزحية، وكل جناح منها سيرة لوحدها.

   ما إن أتمّ الصغير عامه الثالث حتى فُجع بموت أبيه في حادثة سير، ترملت الأم الشابة، ورُزئت العائلة، ليعود إلى القرية / قرية النواصر بدكالة. حتى وإن كان الأعمام والأخوال والجد يعتنون به، فالعناية الأبوية لا نظير لها. هكذا ذاق مرارة اليتم، واكتوى بنار الفقد؛ فقد الأحبة مؤلم والأشد إيلاماً فقد الأب: "عرفت معنى اليتم واصطبرت عليه..". معرفة الوجع لا تقتضي الصبر عليه فقط، بل الاصطبار غاية الصبر، صبر على الصبر ذاته. عاش أيامه الأولى بعد الفقد هكذا: "يوماً على ظهر يوم، أدرج وأسقط، ألهو وأبكي، أمرض وأتعافى."

   هل شركاء اليتيم يتامى بدورهم؟ يتامى إذ يحسون بمشاعر الفقدان، يحسون بالمعاناة والمكابدة التي تفترس الصغير وإخوته وتنهش نضارة شباب الأم. هؤلاء الشركاء هم أفراد العائلة الذين خففوا عن كاهل اليتيم وطأة صقيع الفقد القارس، حملوا بعض الدفء وحاصروا ضراوة اليتم بالحنان والعطف، وإن كانوا هم أيضا ملدوغون به.  لهذا اقتسم الشركاء الوراريّون إٍرث اليتم، حتى بحيرة "ورار" التي يعود لها النسب كأنما هي بدورها اقتسمت بعض اليتم، وزالت عن الوجود. هكذا تحرر الولد من "ثقل الشعور باليتم ومن وطأة الخوف"، لأن الغياب حجّة.

  ليست الصورة رمادية تماماً، إذ تخللتها إشراقات تسر القلب وتسلي: "ثم سرعان ما تفتحت عيناي على عالم أتخيله أشبه بالسحر والخرافة: مساقط الماء، مواسم الحصاد الذي لم ينقطع وما يعقبه". اللسان كما لو كان محبوسا في قوقعة، يشكو الطفل من حالة لسانه: "شكوت من العيّ ولم يطلق الله لساني إلا بعد أن دخلت الجامع، وتهجيت بحروف منزل كتابه" (الجامع  باللهجة المغربية يعني الكتاب القرآني). اللغة العالمة تحرر الألسن، لغة عارفة هي كلام الله في كماله وجلاله، كيف للألسن أن لا تستقيم إذ يجري الكلام الإلهي عليها؛هي بركة القران. تحرر اللسان ليتحرر الإنسان، وأول الكلام لسان وآخره أقلام. أول العهد بلغة العرب كلام نزل من السماء، للسان أن يتلمظ العربية الرائقة ذات المرادفات الكثيرة والتراكيب المدهشة والإيقاعات الساحرة، لغة إيقاعية تشنف الآذان حتى لمن لا يفقه شيئا منها. لم يظفر اللسان وحده بحرية الحركة والانطلاق، الأنامل الصغيرة أيضا أجبرت مكرهة على "اكتشاف" الأقلام: "ولقد حملنا بين أناملنا المرتجفة أقلاما من القصب نظل نحكك بها ألواحنا الخشبية التي تتلألأ بحروف من صمغ حتى لا تكاد تبين."

    شركاؤه في اليتم لم يجعلوه فريسة للفقد بالكلية، الجد الطويل القامة والجدة التي خففت عنه ألم الختان وغيرهم، ومشاركته في أعمال القرية من رعي غنم واحتطاب وجمع الروث للطهي وجلب الماء من البئر. هذه الأعمال شريكة أيضا في تبديد الوحشة التي كادت تنال منه نيل الكواسر، والشركاء هنا ليس بمعنى اقتسام الألم، فهؤلاء أنسوه الألم إلى حد ما.

   أصاب داء الهجرة القرية، تناقص أهلها مع مرور الوقت، وحتى عائلة العمّ سعيد دب فيها التناقص بعد أن صال وجال في عائلته الكبيرة: "بقي وحيدا يذرع الدار الكبيرة بعد أن انصرف عنه آل الوراري بقضهم وقضيضهم...). أضحت المدن تغوي القرويين، بيد أن العم سعيد المخلص للأرض باع أشياء وأشياء مرغما تحت ضغط الزوجة "المهذارة" وأبنائها، من الثور إلى الشاحنة. كنه أبى بيع هكتارات من أرضه.

   قررت الأم الخروج من القرية والالتحاق بأختها في مدينة الخميسات، وبعد المكوث ببيت الخالة بضعة أيام دبرت لهم بيتا مجاوراً لبيتها يقيمون فيه، وسط حي شعبي صاخب بأصوات الباعة والمشاجرات النهارية والليلية، وفي هذا الشارع المزعج وقعت حادثة سير كادت تودي بحياة الصغير. وبعد المعافاة من الحادثة اشترت الأم ثياباً جديدة للولد وأخذته لمحل التصوير، ثم دخل إلى مدرسة ابن سينا التي تحف الشارع المقابل لها أشجار الأكاليبتوس. المدرسة - ويا للمفارقة !- تتوسط "الخيرية" (دار الأيتام) والمستشفى. لهذا كان دوي صفير سيارات الإسعاف ونواح النساء الأمازيغيات والعربيات كذلك، يوقظ في أعماقه وأعماق أقرانه الإحساس بالموت. يوماً على ظهر يوم، تتسلل فكرة الموت إلى حجرات الدرس، وتزاحم الطلاب الصغار مقاعدهم وطاولاتهم الخشبية ومحابرهم المقعرة.

   فكرة الموت لا يبدّدها في ذهن الصغير إلا حلوى البائع المراكشي الأسمر "تيبجا" ومزاحه الأبوي، كان يشيع البهجة النهارية التي تجعل صفير سيارات الموت يتلاشى، غير أن الألفة الصباحية اختفت.. اختفت العربة وصاحبها، ليندسّ خبر محزن بين الزبناء الصغار.. مات "تيبجا".

سيرة جيل

    وضع الكاتب عنواناً دالّاً لهذا المقطع "الخبز يا مولاي"، يلخص مطالب الشعب من ساكن القصر، الخبز الممزوج بالسياسة لطالما كانت مدعاة للرصاص أن ينهال على رؤوس الجوعى، أذعنت الدولة لشروط النقد الدولي وسنت سياسة التقويم الهيكلي سنة 1984 التي ترفع بموجبها الدعم عن المواد الغذائية الأساسية وفي طليعتها الخبز. هكذا مست معدة الفقراء وهم غالبية الشعب، فخرج الشباب إلى الشوارع منددين بقرار الملك، فقابلهم جند الملك بالرصاص والخطف والمعتقلات السرية والعلنية. خرج من خرج معتوها أو معطوبة بعض أطرافه في أحسن الأحوال من شدة التعذيب، وهناك من مات تحت وطأته

 أو قتل برصاصة حاقدة.. ودفن المئات في مقابر جماعية سرية لم يكشف بعضها إلا منذ سنوات قليلة فقط، والباقي مطمور في بئر أسرار المخابرات. وكما أشار إلى ذلك الشاعر والمترجم المغربي تور الدين الزويتني، فالسيرة سيرة جيل كذلك في سيرة جيل: "لا نقرأ فقط مرحلة هامة وتأسيسية من حياة هذا الشاعر المميز، بل نتقرى ملامح مرحلة تاريخية هامة من مراحل المغرب الحديث، سنوات الحلم، والسنوات العجاف، وسنوات الرصاص..".

شعراء وشعراء

القدر الجميل كان شعراً، حمل إليه "ميزان الذهب في صناعة أشعار العرب". للوهلة الأولى ظنّه كتاب طلاسم سحرية، ثم سرعان ما انغمر في خضم البحور وتفعيلات الأوزان، وأخذته القوافي إلى الروي والزحافات والعلل، لم يكن النظم وحده، بل المعجم وما استتبعه من صور واستعارات ومجاز، ثم لدغته روح الشعر، لدغة لا شفاء منها. القصيدة هبة ليست ملقاة في قارعة طريق يلتقطها أي عابر سبيل، هي تكورت مع الجنين في الرحم. إتقان علم العروض والتقفية كان سبباً في عداوات مضمرة سرعان ما طفت إلى السطح من بعض الأقران وأستاذ مادة اللغة العربية، ناهيك عن النفور الذي يواجه به الشعر من لدن أعدائه، رسخه منهج التدريس السطحي الذي يوغر في الصدور كراهية القصيدة، لذا لا مفر للشعر ومُحبّه الناشئ غير اللجوء إلى المكتبات واقتناء دواوين رباعيات الخيام بترجمة شاعر أم كلثوم احمد رامي، و"الملاح التائه" لعلي محمود طه أحد شعراء جماعة أبولو. كما استعار و"أغار" على دواوين "أغاني الحياة" لأبي القاسم الشابي و"ديوان إيليا لبي ماضي". أحسن الإصغاء إلى هذه الدواوين منحه أجنحة طار بها في سماوات الخيال، وتأثر بالمقروء من الشعر، وبالمسموع أيضا عبر الأثير مثل "مع ناشئة الأدب" الذي كان يعده الشاعر والإذاعي الفلسطيني وجيه فهمي صلاح من الإذاعة الوطنية بالرباط. تنوعت القراءات وتتالت الاكتشافات. اكتشف الشعر الحر مع سليل دجلة بدر شاكر السياب ونازك الملائكة ونزار قباني في ديوانه "أحلى القصائد" وجماعة شعر بمن فيهم أدونيس ومحمد الماغوط، وأخذته دهشة قصيدة النثر. هذا التنوع اغتنى بما قرأه من الشعر الفرنسي والغربي المترجم إلى العربية عبر مجلّات "الكرمل" و"اللوتس": من الغنائية إلى الرمزية إلى شعر الرؤيا إلى قصيدة التفاصيل، ثم التقاط الالتماعات العابرة في اليومي كساطور (في حدتها) أو كورقة شجر (في رقتها)ز لم يسقط الشاعر الناشئ في حبائل "العرشيات" التي كانت تستحوذ على شعراء العمود بالمغرب في حفلات عيد جلوس الملك على عرش أسلافه الموتى، من شعر المناسبات الذي يقتل نضارة القصيد ويصيرها نظماً لا روح فيه. يقول الشاعر المغربي أحمد بنميمون: "ما يبهر من سيرة هذا الشاعر هو مسار كفاحه، حتى تم لقاؤه بالسيد- الشعر، أو سيدتنا القصيدة التي نجح في إنقاذها مما رآها تتمرغ فيه على يد شعراء رسميين، فحلق مبتعدا بالشعر من حضيض كان يتهدده ويتهددها في آن، وانتصر للجمال لامتلائه بالقيم الرفيعة التي كانت سلوى له منذ البداية".

سؤال السيرة.. سؤال المضمر

المضمرات في السيرة لا يكفيها كتاب، المضمرات تختار أوقات ظهورها وشكله، قد تختار القصيدة كي تقول شيئا لم يظفر به السرد، مثل مقطع  من قصيدة "ليس لي الليلة ما أفعله":

"هذا دخان ٌ

يحجب الرؤية عن يومي

تسلّيْتُ مع الحوت

وعفو الخاطر استرجعتُ إيقاعاً."

الضوء ضوء الكلمات، ضوء الشعر والكتابة. الدخان دخان الأيام الخوالي. وهل يكون دخانٌ سبق السماء والأرض؟

*نشرت الدراسة بصحيفة (القدس العربي)، عدد الجمعة 19 أبريل 2019.

تحميل الكتاب

ضوء ودخان: شذرات من سيرة ذاتيةضوء ودخان: شذرات من سيرة ذاتية

التعديل الأخير تم: 01/04/2021