علي جعفر العلاق: حياةٌ في القصيدة

 

الشاعر العراقي ينثر سيرته الذاتية في الحياة والقصيدة

12204646 10153667839544898 1642386068 n

  عن دار كنعان بدمشق 2015، صدر كتاب "علي جعفر العلاق: حياة في القصيدة"؛ وهو عبارة عن حوار مطوّل أجراه مع الشاعر العراقي شاعرٌ من أقصى المغرب العربي هو عبد اللطيف الوراري، وكأنّ الكتاب يجسد حوار المشرق والمغرب بين جيلين شعريين مختلفين أولهما ينتمي إلى جيل الستينيات بحداثته وعرامة أسئلته الإبداعية، فيما ينتسب الثاني إلى الجيل الجديد بطموحه إلى استمرارية التجديد ومجاوزة مآزق الكتابة الشعرية التي ترسخت خلال العقود الأخيرة.

  وقد افتتح الشاعر المغربي عبد اللطيف الوراري بتقديم أكد فيه الصفة الحوارية والبيوغرافية للكتاب وفي حضرة شاعر رائد ومُجدِّد تميزت قصيدته بفرادتها وسمتها الخاصّ. ومما جاء فيه: " لأربعة عُقودٍ من زمن التحوُّلات الصعب والمتسارع الذي كان يعبره طوفانٌ سياسيٌّوثقافيٌّ هائج، كان علي جعفر العلاق يقف هنا والآن، يضع حياته في القصيدة،ويتجاوب مع نداءاتها في ذاته، والأمكنة التي ارتحل إليها، والوجوه التي صادفهاوصادقها. كانت القصيدة، في نظره، هي ما يؤسّس هويّته باستمرار، لتظلّ ترياقاًلعبوراته وملاذاً له من جُمّاع الدمامة والزُّور والاغتراب. بخصوصية شديدة، حدّدهذا الشاعر الواسطيّ علاقته بالقصيدة باعتبارها سماءً مبتلّة بالفضة، أو امرأةًتنبثق من جرح في الريح، فيما هو يرتفع بآلامه وآماله إلى مستوى الرؤيا خفيفاً،مُشعّاً، ومفتوناً بحزنه العظيم عبر دبيب اللغة البلّورية الصافية. وبالقدر الذيكان يحفل فيه بالإصغاء إلى ذاته في زمنها، كان يُلقي بالاً وارفاً على تجارب الآخرين بوصفه ناقداً ومُفكّراً في قضايا عصره." (ص5)

 تتمفصل أقسام الكتاب الثلاثة الواقعة في نحو مئة وخمسين صفحة من القطع المتوسط، تبعًا لفصول سيرة الشاعر الذاتية والشعرية والثقافية على نحو يؤاخي بين طابعها الكرولوجي وبنائها المعماري الجمالي.

  وهكذا يتحدّث الشاعر المحسوب على جيل الستينيّات الشعري فيالعراق، بلغته الشعرية الرقراقة المشبوبة بنباهة الصدق، عن تجربته في الشعر العابرة للأشكال جميعها، وعن أسرار قصيدته وكيف ينقلها إلى حيّز المكتوب، وعن بغداد بين زمنين، وعن تعلُّقه بأُمّه وشفافيّة الحزن لديه، ثُمّ عن استخدامه لأقنعة التاريخ والأسطورة في تعميق رؤيته الملحمية للعالم، وعن الربيع العربي الذي لم يُنْتج ربيعاً حقيقيّاً واحداً. كما يتحدّث، في سياق آخر، عن رؤيته النقدية للشعر، وعن قصيدة النثر، وعن جيل الستينيات في الشعر العراقي وما تلاه، وعن طبيعة العلاقة المتوترة بين القصيدة والمنهج، وعن المعرفة الشعرية ومضايقها. وبعد هذا وذاك، يتحدّث العلاق عن طفولته التي قضاها بمحاذاة نهر دجلة الذي علّمه الشجن والإيقاع، وبين أغاني البدو والرعاة الجنوبيين، وفي أسرة كان طفلها النبيه، وأخرى صار ربَّها الحاني.

وقد اختتم الكتاب بملحق هو عبارة عن مقالة مقطعية كتبها الشاعر علي جعفر العلاق تحت عنوان:"تأمُّلات في كتابة القصيدة"، وهي رسالة لكل شاعر حقيقيّ ، بغضِّ النظر عن عمره أو مكانه.

علي جعفر العلاق يخاتل سيرة النص في «حياة في القصيدة»

إبراهيم خليل

21j300 730x438

21 - سبتمبر - 2016

القدس العربي

1.

علي جعفر العلاق هو واحد من شعراء الستينيات الذين تجاوزا بعطائهم الإبداعي فكرة التصنيف الزمني، فمنذ بداياته المبكرة والغضة، كشف عن قدرات إبداعية تتجاوز جيله، والجيل الذي سبقه، وتقدم عليه. ففي الكتاب الذي ظهر مؤخرا عن دار كنعان للنشر في دمشق (2015) بعنوان «حياة في القصيدة» أبياتٌ نظمها في بواكيره تشف عن رؤية جديدة تتخطى المألوف، والسائد، لما ينبغي أن تكون عليه لغة الشعر، يقول في نموذج يعود نشره إلى عام 1973 :
أبحرتُ والجوعُ على مركبي يبكـــي وتهذي عطشًا مقلتانْ
أتيت نعشًا صــــــرْتُ قيثارةً محروقة يأكـل منها الدخانْ
تلتفُّ في أوتــارها عشـْــــبَةٌ من جرحيَ الطينيِّ، فوْقَ اللسانْ
ومن يمعن النظرَ في الأبيات، لا يلاحظ كثافة المجاز فيها فحسب، بل يلاحظ أيضا أن هذه المجازات، التي يتلو بعضُها بعضًا، مجازاتٌ حيوية، وجديدة، ومبتكرة، وليست كتلك التي جرى تداولها تداولَ قطع النقود حتى أصبحتْ مستهلكة، زائفة، أو كما يقال لها: استعاراتٌ ميّتة.
وفي هذا الكتاب، إذا تجاوزنا أيضًا ما أجاب به الشاعر على تساؤلات عبد اللطيف الوراري ـ من المغرب- حول الولادة والنشأة، في قرية من قرى الكوت، التي أصبحت محافظة واسط، والعلاقة بين الشاعر وأفراد الأسرة: الأم، والأب، والإخوة، والانتقال من جنوب العراق إلى وسطه (بغداد)، والتنقل التدريجي في الدراسة، والقصيدة الأولى، والتراث الشعبي الشفوي، وأثره في تكوينه الشعري، إذا تجاوزنا ذلك كلَّهُ، إلى ما له علاقة مباشرة بالشاعر العلاق، وشعره، وجدنا الكتاب ـ في مجمله- يُحدّدُ لنا تحديدا دقيقا بداية مساره الشعري، فأول قصيدة نشرت له كانت قصيدة «إلى صديقة مسافرة» 1964 وقد ظهرت في مجلة «العاملون في النفط» وكان الأديب الراحل جبرا إبراهيم جبرا، يومذاك، رئيس التحرير، بما طُبعَ عليه من ذوق رفيع، قادر على اكتشاف ما هو متميز لنشره، وقد كان تقديمه للقصيدة على غيرها من قصائد العدد مؤشِّرًا على إعجابه بها، وتفضيلها على سواها من أعمال لشعراء مشهورين. وتلك بادرة ترسّخ الثقة في نفس الشاعر الواعد، ولهذا طفقَ العلاقُ، وما برحَ، ينشر قصائده في «الأديب»، و»الآداب»، ومجلة «الشعر» المصرية، وغيرها، حتى كان عام 1973 حينَ ظهرت أولى مجموعاته عن دار العودة في بيروت، وهي بعنوان «لا شيء يحدث.. لا أحد يجيء».
تلك البداية حدَّدت للشاعر العلاق الاتجاه الذي ينبغي له أن يواصل السير فيه. فقد دأب على التحرُّر من أي أثر، أو تأثير، قد يتركه الشعراء الكبار في شعره. صحيح أنه قرأ بإعجاب شعر السياب والبياتي، وجبرا، وأدونيس، إلا أن هاجسه على الدوام هو ألا يقع تحت تأثير أيٍّ من هؤلاء الشعراء. وقد ألحَّ على هذا في كتاب له بعنوان «قبيلة من الأنهار» مؤكدًا على أن الشاعر الحقيقي هو الذي يحرص على عدم الانفصال عن التراث الشعري، وألا يكون صوته منفصلا عن صوت الأسلاف، وفي الوقت نفسه ينْبغي أنْ يكون له صوتُه الخاصّ، وتبعا لذلك اجتازت شاعرية العلاق جلَّ المُنْعرجات، من دون أن تغلب عليها شعريَّة أيٍّ من كبار الشعراء، فمن الشعر الشعبي، إلى شعر الشطرين، ثم إلى قصيدة التفعيلة، وأخيرًا قصيدة النثر، التي تلتزم التزاما شديدا بالقوانين الحرفية للشعر، لأن تغييب هاتيك القوانين عن القصيدة يجعل منها حديثا (سائبا) يفتقر لبراهين نصية ملموسة، وهذا للأسف ما هو شائع الآن « فالكثير مما يكتبُ محْسوبًا على قصيدة النثر،لا يمتُّ بصلةٍ وثيقةٍ لهذا الشكل الشعريّ، بمعناه المُحدَّد الدقيق».

طقوس الكتابة

ويميلُ العلاق للكتابة ليلا، فمعَ اندلاع شرارة النص الأولى، يستمر اشتعالها عابرًا تموجات الزمن. وهو لا يفتأ يراودُ النص، والنص يراوده، إلى أن تستقيم له لغة القصيدةِ، وتسْلُسُ، مراعيا ألا تكون جافة تفتقر لما يسميه لوعة القلب، مبرأة من الإحساس بالفجيعة، أو الإحساس بالفرح، أو بعيدة عن الأجواء التي تشدُّهُ إلى التراث الشفاهي، والإبداعي المدوَّن، وإلى التاريخ أو الأساطير. فاللغة الشعرية في رأيهِ لا تنفصل قطعًا عن التراث بتجلياته الميثولوجية والروحية. فأولُ الأقنعة التراثية التي تتخلل شعره كانت مستمدة من التراث، وتحديدًا من ابن زريق البغدادي.

الشعْرُ والأيديولوجيا

والعلاقُ، كغيره من الشعراء الكبار، يرفُضُ رفضًا قاطعًا وشديدًا تلك المعايير التي تقيسُ جودة الشعر بما فيه من أيديولوجيا. وإلى هذا يعزو تجنب النقاد الحديث عنه، وعن شعره، ذلك لأن التدافع لاحتلال موقع الصدارة، اعتمد منذ البدء على الولاءات الأيديولوجية، لا على الشعري. ولهذا ثمة نقاد حملوا إلى شجرة الإبداع اشخاصًا متشاعرين، غيرَ موهوبين، ووضعوهم على الذروة منها، على الرغم من أنهم جاءوا بهم من خارج الحلبَة، وتبعًا لذلك أصبحت لكل شاعر من هؤلاء قبيلة أيديولوجيّة، ومن لا يعد في هذه القبيلة حظهُ الإقْصاءُ، والتهميش. وهذا شيء لا يزعجُ العلاق كثيرًا؛ فالزمن، والتاريخ الأدبي، كفيلان بغربلة كل شيء، وَمَنْح الشاعر الحقيقي موقعه المناسب من التاريخ الشعري، في حين أن الآخرين، الذين جاءوا على أكتاف النقد المُجامل الرخيص، والنقد المتحيّز، والأيديولوجي، مصيرُهُم الهامِشُ. يقول في واحدةٍ من قصائده، عنوانها «مائدة الشاعر» ما يأتي:
من سأدعو إلى جلْستي
من سيُشاركني خُضْرةَ الروح
أو مَطَرَ المائدة
لا نبيذي نبيذهُمُ، لا هوايَ
هواهمْ، ولا تلكمُ الغيمَةُ الصاعدة
تستفزُّ طفولتهم،
شجرٌ خاملٌ، وأرائكُ من خَشَبٍ،
ونفاقُ قديمينَ
يا ورَقَ الضوء
يا دفءَ غزلانِهِ الشاردَةْ
أين أصْبحتما
إنَّ من لا يجيد فنَّ العلاقات العامّة، قد يجيدُ فنَّ كتابة الشعر الرقيق، ويجيدُ فنَّ الرسْم بالكلمات، وخلخَلْة القوالب المتحجِّرة للغة السائدة بمَجازاته المُبْتكرة، وإيقاعاته الأنيقة الرَخيمَة، التي تشنفُ الآذان، ويجري بها اللسانُ جرْيَ الألحان.

٭ ناقد وأكاديمي من الأردن

التعديل الأخير تم: 30/03/2021