في راهن الشعر المغربي: من الجيل إلى الحساسية

Ghelaf

 

ينحاز المؤلف في كتابه النقدي الجديد الموسوم بـ "في راهن الشعر المغربي: من الجيل إلى الحساسية" إلى إبدال الحساسيّة بعد أن ارتآه بديلاً أكثر إقناعيّة ومردوداً من مفهوم الجيل، وهو ما أتاح له استدماج مختلف فرقاء الشّأن الشعري: قدمائه ومحدثيه، شيوخه وفتيانه، مقيميه ومغتربيه، رجاله ونسائه، أي مختلف الأصوات الشعرية التي تسهم في صياغة اللّحظة الشعرية المغربية الراهنة، خارج اعتبارات القدامة والحداثة.. السّلف والخلف الشعريّين.. الذّكورة والأنوثة.. التي يمكن معها، مجزّأة، استحضار عناصر بذاتها من المشهد الشعري واطّراح أو إهمال عناصر أخرى لا تقلّ جدوى وأهميّة.

  والكتاب هو ثمرة إصغاء وتأمُّل ونقاش حول وضع الشعر المغربي المعاصر ورؤاه وجمالياته وآليات تدبُّره للكيان الشعري منذ ما يقرب من عقدين من الزمن- في المسافة الزمنيّة القائمة بين نهايات القرن الفائت وبدايات الألفية الثالثة. وهذا ما قاده إلى مفصلة مشروعه النقدي إلى فصول بحثية قطاعية تصبّ في بعضها البعض وتسفر، في المحصّلة، عن هيئة الكتاب الكليّة كما تجترح له سيماه وقسماته الدّامغة. فالخطاطة إيّاها تبتدئ بفصل مدخلي ينبئ عن المحاور التي ستتولاّها الفصول الموالية. فمن تحديد الراهن و المراد منه إلى التنصيص على الخاصية الفردية للإبداع الشعري المغربي مروراً بمسأليّات الرؤيا، الإيقاع، فضاء الكتابة، تشظية المكتوب، تأنيثه، فالإلماع إلى معطى المهجرية وفاعليّته في الزخم الشعري الذي يميّز هذا الراهن. ثم يختم بفصل شائق حول الحساسيّة بصيغة المفرد والأخرى بصيغة الجمع مُقرّاً باستشكال المفهوم وملفتاً إلى اقتضاءات الحساسيّة وأوجه تمظهرها الجمالي.

يتألف من مدخل وخمسة فصول عدا الخاتمة وثبت المتن والمراجع والمصادر العربية والأجنبية المعتمدة. والفصول هي:

الفصل الأول: في الراهن الشِّعري: تحديداتٌ وسماتٌ دالّة؛

الفصل الثاني: الإيقاع، الذّات وبناء المعنى: من اللُّغة إلى الخطاب؛

الفصل الثالث: أنا الكتابة وتخييلات الجسد في الشعر النسائي: بين البوح والتجريد؛

الفصل الرابع: المنفى، الغيرية وانشطار الهويّة في الشِّعر المهجري؛

الفصل الخامس: التجربة الشعرية الجديدة: حساسيّة أم حساسيّات؟ 

في تعدّدية الأدوار الشعرية..

عن دمقرطة التناول النّقدي

     بنعيسى بوحمالة

    لعلّها التفاتة رائقة هاته التي غمرني بها الصديق النّاقد عبد اللطيف الوراري وسنح لي، عبرها، أن أخطّ هذه الأسطر الوجيزة في حقّ مشروعه النّقدي المائز.. وكيف لا.. وأنا معنيّ، على الغرار منه، بالشّأن الشعري المغربي ماضيا.. راهنا.. ومآلا، قراءة.. تتبّعا.. وتناولا..

  لأقل، بداءةً، بأنّ عبد اللطيف لينتمي، ولو أنّه يحترز من مبدأ الجيليّة، إلى الرعيل الشّاب المتأخر من النّقاد المغاربة الذي يتشكّل من أسماء كخالد بلقاسم، نبيل منصر، عز الدين الشّنتوف، أحمد العمراوي..؛ المسبوقين بجيل التأسيس الذي انضوى إليه كلّ من أحمد زياد، عبد الكريم غلاّب، عبد الله إبراهيم..؛ وجيل التجريب الذي ضمّ أسماء من قبيل محمد برّادة، إدريس النّاقوري، نجيب العوفي، إبراهيم الخطيب، وعبد القادر الشاوي..؛ ثم جيل المتابعة و التّجذير، إن شئنا، والذي سيقترن بأسماء من مثال بشير القمري، حسن بحراوي، سعيد يقطين، وكاتب هذه الأسطر.. قلت الرعيل المتأخّر الذي ستنسلُّ أسماء فاعليه، أو معظمها بالأقلّ، من المعطف الأكاديمي للشاعر محمد بنيس، تماماً كما انسلّت الرواية الروسيّة من معطف نيكولاي غوغول على نحو ما يرد في التّعبير النّقدي المسكوك.. وتنمسّ، بهذا القدر أو ذاك، بحرقة أسئلته الإبداعية وشواغله النظرية، وقبل هذا وذاك بهواه، الوثني أو يكاد، للشعريّة المغربية.. واقعا وممكنا..

   توازياً مع هذا، وفضلاً عنه، ولربّما يقوم هذا، وبامتياز، مقام عنصر ارتكاز أساسي وضارب في مشروعه النّقدي هذا، كونه يدلي هنا بتصوّراته و أفكاره حول الشّعر المغربي المعاصر، أو جانب وافٍ منه بالحريّ، من موقع المورّط، لكن الورطة الجميلة، في الممارسة الشعرية بالمغرب، إبداعاً ونقداً، بمعنى أنّه لا مناص لنا من احتساب كون النّاقد معنيّاً، دائما هنا وعن الآخر، بموضوعه قيد الافتحاص، أي بالوضعيّة الشعرية المغربية.. بحافزيّاتها التاريخية والسوسيو – الثقافية وكذا بتحقّقاتها ومُرْجآتها سواء بسواء.. إنه، بهذا، يكتب من موقع الشاعر/ النّاقد مستعيدا، على هذا النّحو، ومن خلال هذه المزاوجة، ذات الموقع المنتج، نظرا واقترابا، الذي سيستحكم في تناولات سلالة من الشعراء/ النّقاد، عالميّاً من نظير ألكساندر بلوك، عزرا باوند، ت. س. إليوت، سان جون بيرس، جان بول فاليري، وفيليب جاكّوتي..؛ وعربيّا ًكنازك الملائكة، أدونيس، كمال أبوديب، عز الدين المناصرة.. ومن هنا تلك النكهة الإبداعية الطّافحة في متن الكتاب، مفردات وتراكيب وتعابير، والتي تغدق على الصّرامة المنهجية رونقا وسلاسة لا يخلوان من جاذبيّة.. فإذ بدأ شاعرا أنجز الأعمال التالية: "لماذا أشهدت عليّ وعد السّحاب" (2005)، "ما يشبه ناياً على آثارها" (2007)، "ترياق" (2009)، ثم "ذاكرة ليوم آخر" (2013).. فهو سيردف إلى منجزه الشعري جملة من العناوين النقديّة هي كالآتي: "تحوّلات المعنى في الشعر العربي" (2009)، "نقد الإيقاع: في مفهوم الإيقاع وتعبيراته الجمالية وآليّات تلقّيه عند العرب" (2011)، وصولا إلى "الشعر والنثر في التراث البلاغي والنّقدي" (2013)، ناهينا عن مؤلّفه السّير – إبداعي الموسوم بـ "قصّتي مع الشعر" (نسخة رقميّة، 2013).

  هذا، أما وقد التأم وازع الحماس، إن لم نقل التّماهي الحميمي مع الموضوع محلّ الدّرس، من جهة، ومتطلّب المساءلة العلميّة للمتن المتراحب والشّامل لأسماء، حساسيّات، وخبرات تعكس الطّيف الشعري الآيل إلى عقود زمنية متباينة، مع التركيز، انسجاماً مع مقتضى الرّاهنية، على إصدارات شعرية تعود إلى تسعينيّات القرن الماضي، وأخرى، عديدة، ظهرت للتوّ، مثلاً في غضون الأعوام الأخيرة من جهة ثانية، سيعمد الناقد، إمعاناً منه في هذا التطلّب، إلى استثمار عدّة معرفيّة مغتنيّة سيّان من التراث اللغوي والنحوي والبلاغي والفلسفي تمثّلها مصنّفات كلّ من ابن الأثير، ابن سيّده، ابن طيفور، ابن منظور، وأبي نصر الفارابي..؛ أو من المرجعية النقدية العربية الحديثة.. أعمال كلّ من نازك الملائكة، عز الدين إسماعيل، محمد عبد المطلب، جابر عصفور، سيّد البحراوي، صلاح فضل، كمال أبو ديب، عبد الله الغذامي، محمد العباس، محمد مفتاح، عبد السلام المسدي، عبد العزيز المقالح، حاتم الصكر..؛ إضافة إلى مظانّ نقدية وثقافية غربية تنهض في مساقها أسماء فارقة، كعمّانويل كانط، ميشيل فوكو، جاك لاكان، جيل دولوز، رومان ياكبسون، إميل بنفنيست، هنري ميشونيك، إدوارد سعيد، جمال الدين بن الشيخ، رولان بارت، أومبرتو إيكو، جان كوهين، فيليب لوجون..؛ عاملا بهذا الاستثمار على منح عمله النّقدي أوفى ما يكون من التّماسك، الصّلابة، والصّدقية التّحليلية.

  وإذن، وانطلاقاً من العنوان، بما هو ميثاق متقصّد من لدن المؤلّف يُحدّد من خلاله نطاق اشتغاله النّقدي، الذي هو، أوّلا، راهن الشعر المغربي وما يفيده من استقطاع، بالدرجة الأولى، لشريحة نصيّة متأخّرة من الشعرية المغربية موصولة، على شاكلة ما أومأنا إليه قبل حين، بالمسافة الزمنيّة القائمة بين نهايات القرن المتصرّم وبدايات الألفيّة الثالثة، و، ثانياً، ضمن مكان متعيّن لهو المغرب ككيان جغرافي، تاريخي، وثقافي مخصوص. لكن في مقابل ماهيّة الجيل، بما هي ماهيّة إشكالية وخلافية، ما في ذلك ريب، ولو أنها أبانت عن نجوعها الوصفي والتشخيصي لكثاريّة من الظواهر والقضايا في حقل السّوسيولوجيا، والإنسانيّات بعامّة، كما إبانتها، كما لا يخفى، عن إجرائيّتها الملموسة في الدّرس والنّقد الأدبيّين، نلفيه ينحاز إلى إبدال "الحساسيّة" الأكثر انفتاحا ومرونة، بله استيعابيّة، ما دام، أي هذا الإبدال، يخوّل استدماج مختلف فرقاء الشّأن الشعري.. قدمائه ومحدثيه.. شيوخه وفتيانه.. مقيميه ومغتربيه.. رجاله ونسائه.. أي مختلف الأصوات الشعرية التي تسهم في صياغة اللّحظة الشعرية المغربية الراهنة، خارج اعتبارات القدامة والحداثة.. السّلف والخلف الشعريّين.. الذّكورة والأنوثة.. التي يمكن معها، مجزّأة، استحضار عناصر بذاتها من المشهد الشعري واطّراح أو إهمال عناصر أخرى لا تقلّ جدوى وأهميّة.

   اِعتماداً على الخيار، أو التمثّل، الذي يساوي بين الأسماء المكرّسة والأخرى الوليدة، سيسعى النّاقد، و الحالة هذه، إلى مفصلة مشروعه النّقدي إلى فصول – خانات بحثيّة قطاعيّة تصبّ في بعضها البعض وتسفر، في المحصّلة، عن هيئة الكتاب الكليّة كما تجترح له سيماه وقسماته الدّامغة. فالخطاطة إيّاها تبتدئ بفصل مدخلي، إن وددنا، ينبئ عن المحاور التي ستتولاّها الفصول الموالية.. فمن تحديد الراّهن و المراد منه إلى التّنصيص على الخاصيّة الفردية للإبداع الشعري المغربي مروراً بمسأليّات الرؤيا، الإيقاع، فضاء الكتابة، تشظيّة المكتوب، تأنيثه، فالإلماع إلى معطى المهجرية وفاعليّته في الزّخم الشعري الذي يميّز هذا الراهن. في الفصل الثاني سينهض النّاقد بتحليل العامليّة الإيقاعية مُتوسّعاً في التقاط القنوات الواصلة بين مكوّن الإيقاع وبين شعرية القصيدة ومُقارباً، بالتبعيّة، عائد إبدالي قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر على مستوى أيقنة الخطاب والارتقاء بنسقيّته. وضمن هذا الفصل سيخصّص حيّزاً ملائماً لمطارحة المنزع السّيري في الكتابة الشعرية.. قرائنه واشتراطاته و، بالتالي، حدود توفّق عيّنات من هذا المسلك الكتابي إلى تشييد حيوات تخييلية متنصّلة من مرجعها الأونطولوجي لكنها مضارعة، وباقتدار، لمنطقه الناّظم ولتجليّات مواظفته وسريانه. ولأنّ الكتابة النّسائية تبقى، سواء في النقد الأدبي أو في الدراسات الثقافية، مصدر لجاج لا ينتهي فما من شكّ في أن الناقد وهو يتوقّف عند هذا الأمر متسائلاً عن شعر النّساء، الشّعر النّسائي، وبتعبير رديف عن أدب المرأة وعن معناه، فإنما كان بصدد بسط مهاد تاريخي وثقافي وقيمي، وسيع ومتراكب، تستدعيه أيّما مقاربة لكتابة الأنثى، لذاتها الشعرية، النّائبة منابها في عرض القصيدة، وتلفُّظها لصور وإشارات تطول جسدها، آخرها المذكّر، والعالم بإملاءاته، بتلويناته، ومفارقاته اللاّتحصى.. والمثل فهو إذ يلتفت، ضدّاً على جفاء، إن لم نقل جحود، الدراسات النقدية للشعر المغربي المعاصر التي لا تكاد تحفل بالامتداد القائم لهذا الشعر في شتى المغتربات الجغرافية والثقافية التي تأوي جماعا من الشعراء المغاربة ظلوا مستمسكين بعقيدة التّعبير الشعري عن شرطهم المهجري الطّارئ في تفاعله مع موجبات الهويّة والموالاة الروحيّة لمسقط الرّأس وما تستتبعه هذه الموالاة من انفعالات نوستالجية ضاغطة.. إنه وهو ينكبُّ على هذه الظاهرة مُتحرّياً عن مدلول ما لمهجريّة جديدة وعن مدى قابليّة قراءتها ضمن الرّاهن الشعري فلكأنّما هو يسدي، علاوة على هذا، نوعا من تحيّة رمزية للفاعلين الشعريّين المغاربة الذين تتوزّعهم مناكب العالم وأرجاؤه. هذا ومادام قد انحاز إلى مفهوم الحساسيّة وارتآه بديلاً أكثر إقناعيّة ومردوداً من مفهوم الجيل، ولكونه افتتح الكتاب بالحديث عن الفرديّة والجيل والحساسيّة فإنه سيختم بفصل شائق حول الحساسيّة بصيغة المفرد والأخرى بصيغة الجمع مُقرّاً باستشكال المفهوم وملفتاً، في آن معا، إلى اقتضاءات الحساسيّة وأوجه تمظهرها الجمالي.

  أخيراً، لا يسعني سوى أن أعترف بما أتاحته لي قراءة الكتاب من فائدة ومتعة وذلك دفعة واحدة.. فائدة استكشاف إسهامات أسماء شعرية كثيرة في تعهّد راهن شعري مغربي تميّزه ديناميّة هائلة يقطع بفضلها الشعر المغربي المعاصر مع عقود الكفاف والتحرّج.. ومتعة تشغيل تدابير وإجراءات نقدية تشهد على حصافة قرائيّة، بل استغواريّة، لطبّغرافيا مشهد شعري مترامي الأطراف وذلك توسّلاً بإواليات النص، اللغة الشعرية، المعنى الشعري، الإيقاع، الرؤيا، وغيرها من مستلزمات أيّما بناء شعري ذي كفاية جمالية. وفي كلمة فإن ما يضفي على الكتاب قيمته النقدية المضافة أن صاحبه لا يفكّ الارتباط نهائيّاً مع سالف الأسئلة التي صاغتها مقاربات أخرى للشعر المغربي بل نجده يؤكّد على انشغاله بها لكن على أساس أن ".. نستأنف التفكير في أهمّ القضايا التي يقترحها الشعر المغربي في راهننا، معرفيّا وجماليّا، من خلال تأمّلات ومقاربات نصيّة نقترحها للإصغاء إلى الفاعليّة الشعرية، راهناً، والإصغاء إلى هسيس الذّوات المبدعة واعتناق التواريخ النّاغلة في رحم النصوص" على شاكلة ما يرد في الكتاب.    

عن الاختيار المفهومي وصيغ تأويله:

عبد اللطيف السخيري

"القصيدة المغربية لا تقول شيئاً"، بهذه العبارة الوجيزة لخص سعدي يوسف واقع القصيدة المغربية. لم تعد هذه القصيدة بضاعة المشرق التي ردت إلى المشرق؛ بل صارت لا تُبين. فقدت ماركة الإفصاح والبيان، فصار قولُها صمتاً. بكماءُ مثل فتاة في كابوس لا ينتهي، تحرك شفاهها، تصيح بملء الصوت، فلا يرتد إلا الموت. فقدت حتى سمة الصدى لصوت كان يَقْدُم إليها من البعيد الذي يسكن شغاف الكلمة، ورعشة الإيقاع، يُشرقُ من المغرب، ويظل مشرقاً لا يغرب.
قولة سعدي يوسف لم يعتبرها أكبر المتتبعين سوى تنويعٍ على قولة الصاحب بن عباد، التي جعلها الشاعر والناقد عبد اللطيف الوراري مفتتحاً لكتابه الوازن معرفياً ومنهجياً ونقدياً، والمعنون بـ«في راهن الشعر المغربي من الجيل إلى الحساسية». البداية كانت بمذاق اللعنة التي رافقت الأدب المغربي منذ نشوئه، وطيلة ارتقائه، مطرودا من جنة الجمال، هامشياً.. في الانتماء الأقصى والأقسى.. له وضعُ الصدى للأثر.. عشقُ إيكو لنرجسٍ يتمرأى في مرايا الماء ليغرق وحيدا، فيصيرُ نسلاً من المتمرئين في مرايا ذواتهم، كما سعدي يوسف في منفاه اللندنيّ.

قدر الشعر المغربي هو البحث عن إثبات الوجود، ووسم الهوية على مرّ تاريخه، منذ العقد الفريد، ورسالة ابن المعلم الطنجي، ونبوغ عبد الله كنون.. في مواجهة صورة مكرَّسة لا تني تتجدد، بين التهميش وسُدَف الجهل التي تزاد حلكة كلما ضربت بأطنابها في ذاكرة أهله أنفسهم. غير أن الناقد عبد اللطيف الوراري يرى أن الأدب المغربي، ومنه الشعر، فرض وجوده بما لا يدع شكا في قيمته كمّاً وكيفاً، عبر مسار تاريخي ابتدأه بالربع الأخير من القرن الثامن عشر، وصولاً إلى الراهن. وهذا التراكم كان وراء بزوغ فاعلية شعرية مغربية تستحق التأمل، وإعمال الفكر النقدي المشروط بإوالياته التي تتنخَّلُ، أو عليها أن تتنخَّل متنَهُ المتكاثر بشكل مطَّرد. بيد أن النقد السائد يظل بعيدا عن وظيفته. وهذا يعني – بعبارة المؤلِّف- أنَّ «تجربتنا الشعرية تتكلم اليتم، وتواجِهُ العماء… من هنا يُجهلُ لحد الآن مما فيه اعتبارٌ داخل الراهن الشعري» .

الناقد/ الشاعر:

إن المؤلِّفَ شاعر قبل أن يكون ناقداً، لذا فهو يعي أن جوهر الإبداع الشعري هو التجاوز الدائم للأقانيم والحدود التي يختطُّها الخطاب النقدي من نصوص غالباً ما تنتمي إلى الماضي، يُخَوِّلُ له بُعْدُه زمنياً، وتراكماته النصية ائتلافاً واختلافا.. يخول له كل ذلك القدرةَ على استنباط المعايير، وتَبيُّن الخصائص المائزة، وتصنيف تلك النصوص تبعا لمعيار ما إلى اتجاهات أو تيارات أو مدارس أو أجيال. ولهذا يظل الخطاب النقدي على مسافة من الشعر الراهن، منشغلاً بتأمل ذاته، ويُبَجِّل آلياته، ويتغيَّا انسجامه مع ذاته، ضارباً صفحاً عمَّا يعتملُ في الساحة الشعرية من تجارب لها ميسم الجِدَّة، وأشكال لا تني تُبَرْعِمُ مثل جُذْمُورٍ في اتجاهات الدهشة. نقد بهذا التوصيف يصير حجاباً؛ إذ يطمئِنُّ إلى صرير آلياته الصدئة، وينكُص على عَقِبَيْهِ أصم أعمى أمام كل حديث.

القيمة، وتسييج المتن:

من هنا قيمة هذا الكتاب «في راهن الشعر المغربي من الجيل إلى الحساسية (تأملات وقاربات نصية)». وهي قيمة مضاعفة لدواعي عدة. أولها: أنه دراسة نقدية صادرة عن شاعر ينتمي إلى الحساسية الجديدة في الشعر المغربي – وإن لم يصنف نفسه كذلك، ولم يجعل قصيدته موضوعاً للتحليل في متن الكتاب- وأهل الشعر أعلم بصناعته، وأعرف بمضايقه، وأجدر أن ينفذوا إلى معالمه البنائية والدلالية، ويرتادوا مجاهل تأويلاته. ناهيك عن الحكم بقيمته إبداعاً أو تهافُتاً. أما ثاني الدواعي فهو الشجاعة النقدية في مواجهة متن الشعر المغربي الراهن، وما يطرحه من إشكالات المعاصرة وحُجُبِها، وصعوبة تجميع المادة لاتساع منادحها، فضلاً عن قراءته والكشف عن خصيصاته المائزة. ومعلوم أن دراسة متن هذه سماته تتطلبُ تصوُّرا نقدياً، وعدة منهجية، تتوفر على كفاءة وملاءمة تخولان لها تأسيس معرفة بالمتن الشعري، في أفق تقويمه بمعنيي التقويم: بيان القيمة، وتقويم المناد في أفق فتح آفاق رحيبة للكتابة.
ويتجلى إشكال المتن الشعري الراهن في أن نهره لا يتوقف على التدفق، ترفده روافد شعرية، وشجُون من التجارب. وهذا يفرض اقتطاع لحظة منه، وتسييجها بسياج اصطلاحي (مفهوم الراهن وتبريراته)، ومكاني (المغربي). 

يقول الناقد في هذا السياق: « الراهن هو ما انتهى إليه زمن الكتابة في الشعر… وهو بهذا المعنى ما يفتأ يتغير ويتحول. إن الراهن لم يعد جيلا نعيشه، وإنما تخلُقه وتتفاعل داخله تجارب ورؤى وحساسيات مختلفة، متمايزة وغير متجانسة في تصورها للفعل الكتابي وتدبر طرائق إنجازه». وقاده التسييج – بحثا عن مزيد من الدقة والمردودية – إلى تحديد سمات الراهن الشعري في ثلاث، سمتين جوهريتين، هما:

٭ التعددية بدل الواحدية، من خلال التطور الكمي بالنشر والمساهمة الوازنة للشعر النسائي وظاهرة المهجرية.

٭ الفردية عوض الأجيال؛ إذ ساهم شعراء وشاعرات من أجيال مختلفة في تشكيل فسيفساء الراهن الشعري، مع هيمنة واضحة للاختيارين التفعيلي والنثري.

المداخل السبعة:

وقد اختار سبعة لدراسة الحساسية الجديدة وتجاربها، وهي: الرؤيا/ المغامرة العروضية/ فضاء الكتابة/ الشذرة والسخرية/ تأنيث الكتابة/ ظاهرة المهجرية/ حساسية جديدة.

ولأن المقام لن يفي بتتبع تلك المداخل كاملة، وارتياد قضاياها المتناسلة؛ سأتوقف عند الاختيارات الاصطلاحية والمفهومية في الكتاب، لأنها تشكل الاستراتيجية التي قامت عليها تلك المداخل من جهة أولى، ولكونها – من جهة ثانية – تَنِمُّ على وضوح التصور النقدي لدى المؤلِّف، وتَمَكُّنه من العدة المنهجية ذات الخلفية الثرة التي تمتاح من التراث العربي قديمه وحديثه، ومن الرافد الغربي بمختلف حقوله المعرفية الأدبية والنقدية والفلسفية

الحساسية/ الذات/ الإيقاع/ المعنى:

ولعلنا لا نجانب الصواب إذا قلنا إن المفاهيم المركزية في الكتاب هي: الحساسية، الذات، والإيقاع، والمعنى. ينطلق الناقد من التدليل على عدم ملاءمة مفهوم الجيل لتناول تجربة الشعر الراهن في المغرب. على الرغم من الحظوة التداولية التي حظي بها لدى نقاد كثر، منهم محمد بنيس وعبد الله راجع، تمثيلا لا حصرا. الجيل تصنيف زمني يفترض اشتراكاً بين الشعراء المتجايلين في القضايا، والموضــــوعات، والأشكال التعبــيرية (الاختيارات الفنية)، انطلاقاً من روح العصر التي تخترق نتاجاتهم. وقد ساهمت الأحداث التاريخية وهيمنة الأيديولوجيا في اصطباغ نتاج الأجيال السالفة (من الستينيات إلى الثمانينيات) بسماتٍ جعلت من التصنيف الجيليّ مقبولاً منهجيا، إن لم يكن مفروضاً.. بيد أنه فقد – في نظر الناقد عبد اللطيف الوراري- طابعه الإجرائي، لأن التجــربة الشعرية المغربية الجديدة التي تشكل الراهن تتميز بـ:

٭ الشمولية التي لا يناسبها التحقيب العِقْدي.

٭ الشعر أصبح خارج المقياس الزمني (زمن الشعر عوض زمن الشاعر).

٭ الابتعاد عن النزوع الأيديولوجي، وما ذلك إلا لأن الكثرة الكاثرة منهم يَمَّمَتْ شَطْرَ «الرؤيا التي تُعْنَى باكتشاف العالم ومواجهته، عوضاً عن الموقف المباشر من السياسة والأخلاق والقيم».
على أساسٍ من هذه التبريرات اختار الناقد مفهوم «الحساسية» الذي اجتمع فيه من الخصائص ما يجعلُه ـ والعبارة للمؤلِّف- «أداةً إجرائية لمقارنة وتتبع مسالك جمالياته في النصوص، بعدما كان مفهوم الجيل هو المهيمن في دراساته لسنوات طويلة».

إنّ مفهوم الحساسية يختصُّ باتساع صدره ليشمل التجربة الشعرية الراهنة بمرونة وانفتاح يسمحان باندراج كل شعراء الراهن فيه، بغض النظر عن العمر والجنس والتجربة والجغرافيا… إلخ.
وفي تتبعه لجنيالوجيا المصطلح وتحديداته المفهومية، استند إلى مرجعيات غربية فلسفية مع بومجارتن وكانط وغيرهما، وأدبية مع الرومانسية والرمزية وتأملات بودلير.. أما في السياق العربي، فلم يحظ بالحظوة التداولية إلا مع إدوار الخراط، ونقاد آخرين كلويس عوض وعبد القادر القط وصبري حافظ… وغيرِهم. غير أن تحديد الخراط للمفهوم ظلّ ملتبسا، ويحمل في ثناياه بذور تفكيكه، لأسباب منها:
أولاً: أنه لم يُجاوِز التداول الطبي والفيزيولوجي، باعتبار الحساسية هي كما يقول: «كيفية تلقي المؤثرات الخارجية والاستجابة لها».
ثانيا: أنه سقط في المقارنة بين حساسية تقليدية وأخرى جديدة، بالاعتماد على مصطلح التجاوز ذي الصبغة التقدمية التي توحي بأن الحديث نفي للقديم.

   ومن شأن هذا التحديد أن يُسهم في تأزيم فعل الكتابة، لأنه زاخر بأوهام سبق أن حددها أدونيس، ونخص منها وهْمَيِ الزمنية والمغايرة، وما يترتب عليهما من نفيية مجانية، وصراع جيلي.. ولا نرتاب في أن هذه المآزق كانت حاضرة في ذهن الناقد عبد اللطيف الوراري، لذلك زاد من تحديد مفهوم الحساسية، خاصة أن طبيعة المتن تفترض ذلك، بل تفرضه. أولا لأنه متن شعري (لا بد من أن نشير إلى أن أغلب الدارسين الذين اتخذوا من الحساسية مفهوما إجرائيا قاربوا متنا سرديا كالقصة والرواية)، وثانياً لأن له سماته الخاصة كالراهنية والفردانية…إلخ. يقول الناقد عن الحساسية: «فعالية الشعر وقدرته على الشعور بما يحيط به من المؤثرات، أو تغيير يطرأ على معاناته للوجود والرؤية إليه». وهنا يحضر عاملان جوهريان:
٭ السياق السوسيوثقافي الضاغط الذي ينتج حساسية جديدة..
٭ الإبدالات الجمالية التي تعتري القصيدة موضوعاتٍ وأشكالاً..
والإبدال كما حدده محمد بنيس (معتمدا على كون في كتابه: بنية الثورات العلمية) يؤالفُ بين النصي والخارج نصي، ويقوم على أسس منها: الانفصال، الاختلاف قبل الوحدة، التمايز قبل التفاضل. أما الحكم على التجربة الشعرية فيكون بالنظر إلى «درجة انخراط الذات الكاتبة في كتابتها» (مساءلة الحداثة).

   إنها العودة إلى مفهوم الذات، لكنها ليست الذات التقليدية المطمئنة إلى وحدتها والتئامها، وليست الذات الرومانسية المنطوية على ذاتها والهاربة إلى الطبيعة، بل هي ذات لها سمة التصدع والتشظي، تسعى إلى نحت رؤياها الخاصة للأشياء والعالم. ولا يتم لها ذلك إلا بالبحث عن إيقاعها، في شعرية مفتوحة، وسمها هنري ميشونيك بـ«إبستيمولوجيا الكتابة»، منفتحة على الفلسفة والتاريخ والمعرفة العلمية والمناهج، إلخ.

إن الإيقاع المقصود هنا، يتجاوز القياس العروضي، لأنه ـ حسب ميشونيك- هو الذي ينظم المعنى في الخطاب، خاصة في القصيدة التي تسعى إلى إبراز ذاتية الشاعر، (أكثر من الرواية التي تبحث عن بيان تعددية الذات). فالإيقاع ذو طابع شمولي، توقف الناقد عند اجتراحاته التحديثية في القصيدة التفعيلية، وقصيدة النثر التي تحتل وضعية مركزية في الحساسية الجديدة لكونها تسعف شعراء الداخل على بسط ذواتهم المتشظية، وشعراء المَهاجِر على تبصُّر هوياتهم المنشطرة والشعور بالمنفى، والشاعرات على كشف الجرح والبوح وتخييلات الجسد… وتسعف كل هؤلاء ـ وغيرهم ـ على استدماج الأتوبيوغرافي في القصيدة..

ونرى أن هذه الخلفية المؤسسة على الثالوث: الإيقاع والمعنى والذات، تمتلك من الكفاءة والملاءمة ما ويخول له الإمساكَ بالحساسية الجديدة في راهن الشعر المغربي من جهة أولى، وأضفت على مفهوم الحساسية طابعه الإجرائي، من جهة ثانية، كما تشهد على ذلك النماذج الغزيرة المحللة في غضون فصول الكتاب الخمسة.

* نُشرت بصحيفة (القدس العربي)، عدد 9 ماي 2018.

 

التعديل الأخير تم: 01/04/2021