لماذا أشهدتِ عليَّ وعد السحاب؟

14732204 10207089037416616 267766002110653744 nصدرت المجموعة الشعرية عن دار أبي رقراق- الرباط 2005، وهي تضم أربعة وعشرين (24) نصّاً شعريّاً متفاوت الطّول، موزّعاً إلى خمسة أقسام تشكّل الرّؤية البانية للعمل: مرآة أبودا وما فاض عنها في اللغة الأمازيغية، أظلّني وارف الأنقاض، من رمل وزبد يكنسن جرح العتبات، التّغريبات، وما يشبه ناياً على كرسي الأعمى. وقد كتبت نصوص الدّيوان بين عامي 2000 و2005، كما يذكر الشاعر في افتتاحيته، وهو ما طبع فضاء القصائد بالتنوّع والاختلاف دلالياً وجمالياً حتى أنّ "الخيال صائر نحو الملح، والقلب في أثر خطاه مال جهة النشيج. المراثي دبت فيها أرض هلكى. وكأس الشاعر راودتها الطريق نحو آبار المعنى" مثلما جاء في تحية الناقد د. رشيد يحياوي للديوان. نقرأ من أجواء المجموعة هذا النص التدشيني تحت عنوان (وعد):

ما بي أرى جُرْحي

أخفَّ إليّ من سَقْف

اْلغُبارْ؟

أَهُشُّ في ليلٍ، على ظلًي

وأنظرُ في السّماء

كأنّ مِنْ حجرٍ

رُؤَى الموْتى تصيح،

أقول في نفسي:

خِفافًا تعْبر الطّيْرُ الطّريقَ

إلى سحاب سدوم نايات ٍ

وتأثرُ بَعْد عَيْنْ.

واريْتُ مرآتي التُّرابْ،

كأيً أَعْمى،

في دمي تغْفو نساءُ الاستعارة

يفترين عليّ:

كمْ رؤْيا، صباحَ اللًيْلِ، لـو

وصل الغريبةَ وارفُ الأنقاضِ

لَــوْ رَعَيا مياهًا

في الدّخائل

وﭐسْتحمّا مرّتيْنْ

 

المرآة وما فاض عنها في ليل الغريب

 الشاعر عبد اللطيف الوراري في مجموعته "لماذا أشهدت علي وعد السحاب؟"

 

عبدالرحمن التمارة

تمهيد:

   يرى خورخي لويس بورخيس أن التواصل التفاعلي مع النصوص الإبداعية عموما، والشعر خصوصا، ينبني على قصدية إدراك الدلالة، التي توفر لذة جمالية حتى وإن لم تحصل المعرفة بالمعنى النصي، يقول: "في نظري، المتعة تكمن في البحث عن المعنى، حتى لو لم نعثر عليه."(1). مما يعني أن قراءة الأعمال الفنية تحكمها ضوابط إبستمولوجية، وتؤطرها استراتيجيات جمالية. فـ"البحث عن معنى" نص أدبي يعد ممارسة معرفية تضبطها آليات منهجية (خطة منهجية، ومنهج نقدي) ومقومات معرفية (المعرفة المرتبطة بالخصوصيات النوعية للنص الأدبي)، وتعمقها تراكمات الفعل النقدي الذي من شأنه أن يسهل عملية "العثور على المعنى". وفي سيرورة البحث تلك تحصل "المتعة" لدى الباحث/القارئ، متعة يخلقها التفاعل المنتج مع المحمولات الدلالية للنص الإبداعي وأدواته الفنية التي يفرضها انتماؤه الأجناسي. من هنا نتساءل: ما هي العوالم الدلالية الظاهرة والمضمرة التي يبنيها ديوان "لماذا أشهدت علي وعد السحاب؟"(2) للشاعر عبد اللطيف الوراري؟ وعبر أية آليات جمالية تمّ بناء تلك العوالم؟

1. بنية العنوان: الأبعاد والدلالات

تتحكم في العنونة الموضوعاتية للديوان(3) ما يمكن تسميته بـ"جمالية الخرق"؛ لأن جعل العنوان جملة إنشائية –أسلوب الاستفهام- يبدو محكوما برؤية فنية قوامها تكسير رتابة الإبلاغ، وخرق بلاغة الإخبار، وتعميق دينامية التواصل مع القارئ. لهذا فمتأمل العنوان "لماذا أشهدت علي وعد السحاب؟" يجده منفتحا على عدة أبعاد ودلالات منها:

البعد التواصلي: فالصيغة الاستفهامية للعنوان جاءت معبرة عن سياق تواصلي بين الشاعر وذات أنثوية، كما تعكسه بنية الضمائر؛ ضمير المتكلم في "عليَّ" المقترنة بذات التلفظ/الشاعر، وضمير المخاطب في "أشهدتِ" المحيل على ذات الملفوظ/الأنثى. وكما تفرضه كل سيرورة تواصلية تتأسس على بينة السؤال والجواب. مما يجعل العنوان متجاوزا لبنية التواصل الضيقة نحو آفاق تواصلية رحبة مع المتلقي بشكل عام.

- البعد النفسي الانفعالي: فالسؤال/العنوان في عمقه الدلالي العام يكشف عن فراغ في الخلفية المعرفية والنفسية للذات الشاعرة؛ لأنه أولا يعبر عن جهل الذات بالأسباب الثاوية وراء جعلها موضع شبهة وتهمة، مما فجر داخلها انفعالا نفسيا حادا يستبطن الاستنكار والتعجب من فعل الذات الأنثوية. ولأنه ثانيا ينفتح على الإحساس بالظلم ، مما يصيِّر الذات متلبسة بالحيرة ومدثرة بالتيه. ولأنه ثالثا يوحي باستمرارية الذات في حزنها ومأساتها، مادامت غير قادرة على إدراك أسباب الظلم ودوافعه؛ وذاك ما يترك الكينونة الذاتية فريسة للألم والحزن.

- البعد الأخلاقي: حيث ينبني العنوان على النقض الأخلاقي المتعلق بالطعن الضمني في الفعل اللامشروع/ الشهادة الباطلة من لدن الذات الأنثوية تجاه الشاعر، فتعد البنية الاستفهامية صيغة فنية للتعبير عن الحرج الأخلاقي الذي وجدت الذات الشاعرة نفسها فيه. فإذا كان الوجه الخفي للعنوان يكشف عن علاقة حميمية بين الأنا والآخر، فإن ذلك يفرض ضرورة تجاوز بعض الأخطاء التي تقع فيها الأنا الشاعرة، والاستغناء عن استدعاء الشهود للتدليل على اقتراف الجرم والخطأ؛ باعتبار الكل دليلا على سعة حلم الآخر ورحابة تفكيره.

2. بنية اللاأدرية: التجلي والدلالة

تشكل موضوعة اللاأدرية عنصرا دلاليا مهيمنا في ثنايا الديوان؛ لأن الذات الشاعرة تجد نفسها في جميع القصائد مدفوعة لطرق أبواب السؤال/الأسئلة لرأب الصدع بين الجهل والتجاهل وبين المعرفة والإدراك. مما يجعل التساؤل جسرا للعبور نحو تحقيق الكينونة الإبداعية، وكأن الإدراك والدراية بالذات والمحيط بكل امتداداته يخمد جمرة الإبداع. لهذا، فرغم أن الشاعر ملم بتفاصيل مساره المفضي إلى المأساة، والمليء بمشاعر المرارة والألم فإنه لم يع ويدرك أصول مأساته، مما يجعل بينة اللاأدرية تطفو على سطح بعض السطور الشعرية، لتكرس ما يمكننا تسميته بـ"شعرية الحيرة":

ها الطريق انتهت بي

على كم وجيب وهاوية

ها دمي يتخثر دفلى

وأهمس في الريح: من أين قلبي ابتدأ ؟ ص13

تبدو المأساة –هنا- أكبر من الوصف، لأنه ليس ثمة أفدح من أن ندرك أزمتنا دون أن نستطيع تحديد أصولها، خاصة وأن تجاوز المعاناة بكل أنواعها يرتهن –كثيرا- باستئصالها من جذورها. لكن هذا لم يمنع الذات الشاعرة من رفع التحدي في وجه الخصوم الماديين والمعنويين، عبر منطق تدبير الأزمة إبداعا؛ فالذات –هنا- تجعل الشعر وسيلة للتعبير عن الاستمرار والكينونة، وإسفنجة تمتص الاضطراب النفسي الهدام، ولوحة تلتقط انسيابية الحياة الاجتماعية بأبعادها القيمية والفكرية، مما يفتح بنية اللاأدرية على شعرية الاندماج المقترن بالتحدي:

لي من الأرض قربة ماء

ومن حنطة الشعراء الذي يرجئ العبث الداخلي

ومن زبد الخفر الأنثوي روائح تسلمني، أبدًا، لضفاف

القصيدة عند الظمأ

أين من يتوعدني ؟ لا أحد. ص 18-19

يُظهر هذا المقطع بوضوح أن الشاعر يؤسس صورة ذاتية تبرز نظام علاقاتها وفلسفتها الخاصة تجاه الحياة والأنا والآخرين. فالعلاقة بالحياة تحكمها رؤية وجودية قوامها العيش البسيط، والحياة الهادئة العادية (لي من الأرض قربة ماء) التي تكفل الاستمرارية، باعتبار الحياة قيمة مضافة في ذاتها؛ لهذا فالشاعر لا يحكمه منطق التسلق، والفكر البورجوازي المتعفن. أما العلاقة مع الذات/الأنا فتحكمها رؤية سيكولوجية غايتها تغليب الراحة النفسية على التوتر، مما جعل الشاعر يشغل ثنائية المثير والاستجابة؛ حيث كلما استشعر اختلالا نفسيا (العبث الداخلي) كان الشعر أداة لخلق التوازن. ولأن الشاعر اجتماعي بالضرورة والطبع، فعلاقته مع الآخر/الأنثى -المحملة بجملة قيم مخالفة لما تعوده الشاعر- يحكمها منطق التفهم وحسن التدبير؛ حيث يصير الشعر مجالا للاندماج مع الأخر تخييليا حينما يتعذر التواصل معه عمليا. وهذه العلاقات جميعها دفعت الشاعر ليعلن التحدي في وجه خصومه إذا وجدوا أصلا (لا أحد)؛ لأن الوعي بواجبات الذات وبحقوقها يجعلها منزهة عن كل خطأ، كما يشعرها بالانتصار.

  ويبدو الشعور بالانتصار ظرفيا، لأن الكثير من المقاطع الشعرية تشعرنا بأن الذات الشاعرة يقتحمها الانهزام والألم، فتتجلى معالم الأسى بارزة حينما يقتحم الشاعر الإحساس القوي بالغربة النفسية والمكانية، ولما تتقوى النقمة على الحياة لحظة غياب الأجوبة الكفيلة بإخراج الذات من وضعها المأساوي، يقول:

يا غريبًا

أمّر اليتم على الرايات

هل تعرف أن الليل أمار بعادات الغريب ؟ ص 28

فمما لاشك فيه أن الشعور بالغربة يلازمه الإحساس الفظيع بالوحدة، لأن الاغتراب يحتوي "شعورا مؤلما بالعزلة والتشكك في النفس والإحباط" (4)، مع ما يستتبع ذلك من أزمة نفسية حادة، ورغبة قوية في إحاطة المتلقي بالمناخ النفسي المضطرب، وهذا ما يجعل بنية اللاأدرية تتجاوز الذات نحو الأخر الذي يبدو أنه غير ملم بعادات وطقوس الغرباء (هل تعرف أن ...)

وتحضر موضوعة الغربة قوية في الديوان، والمثير أنها ترتبط ببنية اللاأدرية في تعالق مدهش يدعم الأسى النفسي والألم الفكري، نقرأ في قصيدة "رباعيات على حاشية الغريب":

ولتكني.. ولتكن أجدرَ بي

يا غريبا فاض عن ليل الهباءْ

أنا سميتك ناري كي تراني، كي ترى

شجري يضرب في أرض الرحى، كم مرة.

ليتك تدري يا غريب. ص40

يحمل هذا المقطع دلالة الانفصال عن الأصل، فتنتقل الغربة إلى بعدها الفضائي لتغدو غربة مكانية مليئة بالمعاناة (أرض الرحى)؛ حيث التحول في المكان جعل الذات تصارع اغترابا نفسيا واحتراقا وجدانيا، كون الإنسان في هذه الوضعية كما يرى ريلكه- لا يحس بالألفة بشكل وثيق في هذا العالم المضطرب (5). بيد أن الشاعر ينبه إلى أن الغربة فعل متجدد باستمرار في الزمان والمكان، وهو ما يجهله الكثير من المغتربين. لهذا فالأمنية التي ختم بها المقطع السابق تعبر عن رغبة الشاعر القوية في الدراية بأن الإحساس "بانعدام أو افتقاد الشعور بالذات وبالعفوية والفردية" (6) من مظاهر الاغتراب والغربة.
وتنفتح بنية اللاأدرية على الشعور بالتيه، فالذات الشاعرة قد تدرك وضعها الوجودي والاجتماعي والنفسي، بيد أنها لا تعي أسباب ذلك الوضع بمختلف تجلياته:

أقعد خلف الباب أنظر

أين قلبي الآن ؟ ماذا صار بي ؟

رانت علي ذؤابتي كم لعنة وتفرقت أيدي سبأ

لا سور يجمعني علي. ولا غمام يكون لي نوارة في

أول الأحزان، ... ص 66

يظهر بوضوح أن هذا المقطع الشعري يرسم صورة مثيرة للذات للشاعرة؛ فهي أولا ذات وحيدة ومنعزلة تعاني بمفردها، ولا يشاركها أحد في حزنها وحسرتها. وهي ثانيا شاردة وتائهة لا تعي مسارات عالمها النفسي، ولا تدرك أفق تحولاتها الغريبة. وهي ثالثا مكلومة وجريحة تطاردها المآسي والأحزان من كل الجهات، ولم تظفر بلحظات سارة ومفرحة.

وفي ظل هذه الصورة تنبثق مشاعر الأمل في الخلاص من واقع المأساة والمعاناة؛ حيث الرغبة قوية في تبديد الغربة بالرحيل صوب الأصل والمنطلق، لأن الذات الشاعرة لم تعد قادرة على حمل الجسد المتعب، وبات في مقدورها – فقط - تحويل التيه والشرود إلى طاقة إبداعية دالة ومعبرة. يقول الشاعر:

يا ضوء الرحيل تجل

طال وكد المشي في طقس يعلم خفَّك الأرضي كل الشيء

هل نزفت ظلال التائهينَ

ليخلدَ الصوتُ الشريد إلى مداهْ ؟ ص 90

3. بنية التحاور: الأنماط والأبعاد

يدخل الحوار في صلب الفعل المسرحي، لذلك يكتسي حضوره في النص الشعري المعاصر "نزعة درامية". ويتجلى الحوار في بنية النص الشعري عبر نمطين:

"الشكل الأول يتمثل فيما نسميه الحوار [المباشر] (الديالوج).
والشكل الثاني يتمثل فيما يسمى بالحوار الداخلي [غير المباشر] (المونولوج)"(7)
يعتبر هذا التصنيف سندا منهجيا للاقتراب من تجليات الحوار وأبعاده في الديوان كما يلي:

*الحوار المباشر:

تفعيلا لشعرية التواصل يوظف الشاعر عبد اللطيف الوراري بنية التحوار بشكل كثيف في قصائد الديوان؛ سواء عبر طريق الحكي الشعري الذي يعتمد الألفاظ الدالة على الحوار بشكل مباشر: قال، قلت ، قالت، قيل، تقول.. أو بواسطة بنيات أسلوبية تدعم الأفق الحواري داخل النصوص الشعرية. لكن ما يهمنا هنا هو الأبعاد والدلالات التي تعبر عنها اللوحات الحوارية داخل النصوص الشعرية. يقول الشاعر:

قال لي وهو يضحك: ما أعجبها أكرهتني حتى على

ما أحب

قلت في نفسي: ما أعجبك، متى كان الطريق غاية

في الطريق، الطريق العنكبوتية المريضة، لا أحد يصل. ص 37

يتخذ الحوار – هنا- صورة الاستمرارية التواصلية التي تفجر التداعي، فالقول الموجه من الأخر تجاه الأنا (قال) يعبر عن فهم الأخر دون الرد عليه، لكنه فهم يدفع للحوار مع الذات (قلت في نفسي). مما يجعل هذا المقطع ينبني على شعرية الإدماج بين الحوارين الخارجي والداخلي، ويعبر رمزيا عن سيادة حوار الصم –بمعناه المجازي- في الكثير من المواقف الحوارية، لما يحصل التباين الفكري بين المتحاورين كما يبرزه هذا المقطع لما أبدى الشاعر استغرابه من أقول محاوره (ما أعجبك).

ويحتفي الشاعر في بعض نصوص الديوان بالحوار المباشر، مثل نصي: "حيوات الميت" و "الشاهد كما جاء في كتاب الموتى".و من اللافت في النصين الاحتفاء بالموت والحوار، مما يفسح المجال لاشتغال المفارقة؛ لأن الشعر يتحول إلى حافز للذات لتجاوز الإحساس بالانتهاء، ويعتمد الحوارية برمزيتها الحركية والديناميكية الدالة على الشعور بالوجود والكينونة. جاء في قصيدة "حيوات الميت":

مرت بي، هنا، امرأة بساق من عجاج

قال: يحيا الميت؛ قالت: ليت هذا الحيَّ ميتٌ كي أدلّ

دمي عليه؛ قال: ما بي صرت أشبه بالمجاز. ص 52

واضح هنا الاحتفاء بالموت الذي ينأى عن دلالته العضوية، ويقترن بدلالته المجازية؛ لأنه يكشف تمزقا داخليا قوامه الشعور بالعزلة والوحدة والغربة. وهذا ما نلمسه في مقطعين داخل نفس القصيدة:

  • قلت: يحيا الميتُ

قالت: هاك ما أوسعت ثوبي من دمي أمْنًا

لتغفر لي، فقد نادمت طير العابرين... ص54

  • قال: يحيا الميت

قالت: للحبيب الموت، ... ص55

وجاء في قصيدة "الشاهد كما جاء في كتاب الموتى":

ضاقت الأرض. ضاقت بنا

قال راوي الجماعة: يا صحبة التيه لا يأس نحو الحقيقة

قلنا: إلى أين ؟

قال: إلى أن يصير لنا في الطريق مراقي الغيابْ. ص73

تكشف هذه الحوارات في بعدها الرمزي عن تكريس منطق الاختلاف المدعم الاستمرارية، بدل التطابق المؤجج الرتابة والسكون. كما تعبر عن ديموقراطية تدبير القول الشعري في أفق منح الذوات المتفاعلة مع الشاعر حرية التعبير عن أفكارها؛ لأنه مادامت ثمة شخوص مختلفة عن المبدع في هويتها ووجودها "ومادام من شأن هذه الشخوص أن تنطق وتعبر عن ذواتها فليتح لها الشاعر فرصة الكلام والتعبير" (8). وتنفي –الحوارات- فكرة سلبية في تفاعل الشاعر مع محيطه الاجتماعي، وتؤكد أن الإنتاج الإبداعي هو تجربة شعورية تعد "ثمرة للتفاعل بينه وبين العالم الخارجي"(9)

*الحوار الداخلي:

يظهر أن الحوار الداخلي في النصوص الشعرية "يبرز لنا كل الهواجس والخواطر والأفكار المقابلة لما يدور في ظاهر الشعور أو التفكير" (10)، لهذا فإن متأمل بعض المقاطع الشعرية في الديوان يقف عند بعض المواقف الدالة والمعبرة. ولضرورة منهجية سنكتفي بتحليل نموذج شعري واحد يحضر فيه ملفوظ دال على المونولوج، يقول الشاعر:

أهشُّ، في ليل، على ظلي وأنظر في السماء

كأن من حجر رؤى الموتي تصيح. أقول في نفسي:

خِفافًا تعبر الطير الطريق إلى سحاب سدوم نايات،

وتأثُرُ بعد عين. ص 43

يهجس المقطع بأن الذات الشاعرة اعتمدت المونولوج لما وجدت نفسها أسيرة الوحدة والعزلة، فكان الحوار مع النفس مخرجا للأزمة النفسية، وأداة للانفصال عن معاناة التمزق النفسي والفكري.
 
 
4. بنية اللغة: المعجم والصورة الاستعارية

  تكتنز لغة نصوص الديوان ثراء دلاليا عميقا، لأنها تتوسل بالرمز لبناء عوالمها الدلالية؛ باعتبار الرمز يجرد اللغة من منطق التواصل الجاف، ويملأ الكلمات بحرارة دلالية مثيرة. والملاحظ أن اللغة الشعرية من حيث انتماؤها المعجمي تحيل على عوالم الغربة والعزلة والموت واللاأدرية...إلخ، وتعبر عن التنوع المرجعي في الحقول الدلالية؛ حيث تحيل على المراجع الطبيعية (السحاب، الليل، دفلى، البحر، الماء..) التاريخية (سدوم، بابل، أندلس..) والدينية (الجن، نوح، الروح، عزرائيل، الملائكة.. ) والأسطورية (أبودا، فاوست..) والأدبية (ديك الجن، الشعر، الشنفرى، هيغو..) والفلسفية (الميتافيزيقا، أفلاطون..) والاجتماعية (القرويات، الغريب، امرأة..)...إلخ. مما يكشف غنى وتنوعا في الأفق القرائي للشاعر، وقدرته على صهر لغة الحقول المتنوعة، بشكل فني، أثناء بناء نصوصه الشعرية.
وتشتغل بنية الاستعارة في الديوان لتمنح النصوص شعرية الصورة وبلاغتها، فيحضر التشخيص بكثافة باعتباره آلية فنية تنقل الحركة والحياة من الإنسان إلى الجمادات، وتحول المجرد إلى الملموس والمحسوس، مما يقوي شعرية الصور المدهشة. يقول الشاعر:

من فم الميتافيزيقا

صار جنب الليل يحدق في

طيور سوف تحمله إلى العتبات.. ص 38

إن ما يقوي التعبير الاستعاري في هذا المقطع هو ما أثاره فينا من تساؤلات وحقائق وجدانية. فإذا كانت لفظة الميتافيزيقا تنفتح على عوالم فلسفية وروحية تجريدية غريبة، فالغرابة تزداد حينما يدخلها الشاعر في سياق استعاري ينقلها إلى مستوى التجسيد المادي، فتمتلك أعضاء كائنات حية (فم) قابلة للمعاينة. وتبدو الصورة الاستعارية مفتوحة على شعرية التأمل؛ لأن الميتافيزيقا ترتبط في عقولنا ونفوسنا بالتأمل التجريدي. مما جعلها معبرة في السياق الشعري- على القدرة في تأمل الذات في علاقاتها وامتداداتها المتنوعة المنفتحة على الضياع والوحدة.

خلاصة:
تأتي نصوص ديوان "لماذا أشهدت علي وعد السحاب؟" للشاعر عبد اللطيف الوراري في سياق احتفاء متنوع؛ فهي أولا احتفاء بالذات التي تعاني وضعا مأساويا فكريا ونفسيا، وبالذات التي لا تمتلك الحقائق المطلقة وتغيب عنها الكثير من المعلومات، مما فسح المجال لهيمنة بنية اللاأدرية، وهذه الميزة تقوي أفق تلقي الديوان، لأنها تمنح القارئ فرصة للتفاعل مع الشاعر عبر محاولة الإجابة عن الكثير من الأشياء التي حاول الشاعر بذكاء فني أن يبرز جهله بها، وإن كان في الحقيقة يدركها بعمق وقوة. وهي ثانيا احتفاء بالآخر –الذي قد يكون جزءا من الذات- عبر قناة الحوار التي تجسد ديموقراطية الشعر، وتنقض الطرح الذي يختزل الكتابة الشعرية في التعبير الضيق عن المشاعر الوجدانية من منظور ذاتي. وهي ثالثا احتفاء باللغة في مستوياتها المعجمية والأسلوبي وصورها الفنية.

 
-الهوامش:

1. ضمن: كمال الخمليشي، الحداثة ونكبة المعنى، ترجمة، مطبعة النجاح الجديدة، البيضاء، ط1، 2004، ص 64.
2. عبد اللطيف الوراري، لماذا أشهدت علي وعد السحاب؟، شعر، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط، ط.1، 2006، وأرقام الصفحات في المقال التي لا تحيل على الهامش هي أرقام صفحات الديوان.
3. من المتعارف عليه أن النصوص الإبداعية غالبا ما تتوفر على عنونة مزدوجة؛ الأولى تخص الموضوع فتختصره بطريقة رمزية دالة، والثانية تهم التعيين الأجناسي.
4. ريتشارد شاخت، الاغتراب، ترجمة: كامل يوسف حسين، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1980، ص 50.
5. نفسه، ص 27.
6. نفسه، ص 189.
7. عز الدين إسماعيل، الشعر العربي المعاصر، دار الثقافة، بيروت، دون تاريخ، ص 293.
8. نفسه، ص299.
9. نفسه، ص 299.
10. نفسه، ص294.

 

التعديل الأخير تم: 01/04/2021