Créer un site internet

Derek Walcott

طائر البلشون الأبيض

1200px derek walcott

ديريك والكوت (1930-2017) شاعر الأنتيل ومؤلف إلياذتها المعاصرة التي استوحاها من ملحمة هوميروس المعروفة، وقد صورت بحسّه الدرامي حياة الجزر وثقافتها وتاريخها الحديث في تلك المنطقة من العالم، بما فيها جزيرة سانت لوسيا مسقط رأسه ومهوى إلهامه. برزت موهبته الشعرية مبكّرًا منذ أن نشر قصائده الأولى في نهاية الأربعينيات، وقد استدان مئتي دولار من والدته الأرملة الشابة لنشرها بين دفتي كتاب، وكان عمره وقتذاك أربعة عشر عامًا. وقد لفت إليه جمهور الأدب مع صدور ديوانه «في ليل أخضر» (1962) ثم أطبقت شهرته الآفاق بعد نيله جائزة نوبل في الآداب عام 1992، عن مجموع أعماله الملحمية التي تضاهي نظيرتها عند الإغريق، بما في ذلك «أوميروس» تحديدًا. وكان ثاني كاتب زنجي ينال هذا التشريف بعد الشاعر النيجري وول سوينكا. وفي عام 2010 حصل على جائزة ت. س. إليوت عن ديوانه «طائر البلشون الأبيض»، الذي ترجمه غريب إسكندر مع مختارات أخرى إلى العربية تحت عنوان: هنا يكمن الفراغ» (دار التكوين- دمشق 2015). ولا يمكن لقراء الأدب المكتوب بالإنكليزية ألا يكونوا قد قرأوا لهذا الكاتب، إذ أصدر نحو عشرين ديوان شعر وثلاثين من أعماله المسرحية التي تثير كل منها بطريقتها الخاصة حياة جزر الكاريبي وثقافتها الغنية، حتى قال عنه الشاعر والروائي البريطاني روبرت غريفز: «يمتلك اللغة الإنكليزية أفضل من أي كاتب إنكليزي على قيد الحياة»، كما ذكّر النقاد بشعراء العصر الإليزابيثي. تيتم ديريك في سن مبكرة، واضطرّته أمه إلى أن يتعلم الخياطة قبل أن ترسله إلى المدرسة. وبما أنه كان يتحدث الإنكليزية، فقد فُصل عن الأغلبية الكاثوليكية والناطقة بالفرنسية، إلا أنه مع الوقت استطاع أن يتعلم لغات هذه الجزر، وكان لهذا الحادث المبكر تأثير في صميم عمله الشعري. تابع دراسته في جامايكا. ومن عام 1959 إلى عام 1976، أدار في ترينداد حلقة مسرح لعبت بعض قطعه المسرحية. وفي عام 1981، انتقل إلى الولايات المتحدة وعمل محاضرًا في جامعتي هارفارد وبوسطن. وفي عام 2009، سحب ترشيحه لمنصب أستاذ الشعر في جامعة أكسفورد بعد أن اتهم بالتحرش الجنسي.

بدأ والكوت تجريبيًّا، ثم سرعان ما توجه إلى استلهام الفلكلور الذي تضجّ به حياة جزر الأنتيل، فاستعمل لغة شعرية أكثر أصالة تمزج الإنكليزية بالتعابير الشعبية والرطانات المحلية مثل الكريول وتضم إليها الفرنسية واللاتينية. وفي شعره، نجد ثمة حاجة دائمة عند والكوت إلى التأليف بين التقليد الكلاسيكي الأوروبي، كالذي يعود إلى هوميروس وشكسبير وغيرهما، وبين الفلكلور الكاريبي. وهذا ما انعكس على أسلوبه الأدبي الذي بدا حديثًا وشديد التنوع ومستوحى من إبداعات كتاب عالميّين مثل إيميه سيزير وسان جون بيرس وبابلو نيرودا.
وهكذا توزعت ثقافة والكوت بين لغتين وعالمين، بقدر ما توتّرت كتاباته بين الشعر الغنائي الذي نثر فيها جماليات المكان الطبيعي وتفاصيل الحياة الغنية في هذه الجزر (طيور البلشون والكركي والنورس، أمواج البحر، الشطآن، الغابات، الطحالب، المستنقعات، الأحجار البيضاء، التلال الضبابية) وبين القصيدة المطولة التي تحاكم الحقبة الاستعمارية وتكشف عن تناقضاتها وما ترتب عليها من فقر وميز وعبودية، جنبًا إلى جنب المسرحية التي فتحها على مناطق أخرى مجهولة من هذا التاريخ البحري بحسه الساخر وبلاغة حواره الدرامي الذي يضم الاتساع والتكامل العضوي إلى الغنى المشهدي والتركيب المعماري، وأبطاله من عمَّال الموانئ والصيادين والمحاربين التائهين كما في ملحمته «كلب تيبولو» (2000)، التي تسرد البحث الروحي لبيسارو الذي يهجر جزيرته القدرية إلى باريس من أجل الرسم. 
ويبني والكوت عمله دراميًّا بشكل يجمع فيه بين مصيرين لشخصين كل منهما يبحث طريقة التعبير عن طفولته المفتقدة، ثم هناك في المنفى يُشخّص كلاهما شوقه المرتجف لاحتضان العالم.

ينتمي الأدب الذي كتبه والكوت، تحقيبيًّا، إلى ما يسمى بالحقبة ما بعد الاستعمارية. وإذا كانت هذه الحقبة قد شهدت مراجعات نقدية ورجحت فيها نبرة الإدانة وتجريم الآخر ومطالبته بالتعويض، إلا أن والكوت يستخلص منها مادة وحي حقيقية لتأملاته السمحة والصافية، ولرؤيته الشعرية التى تنتبه لجوهر الإنسان الذي تكتمل هويته في الآخر المختلف بلا غلّ وروح انتقامية:

«أنا مجرد زنجي أحمر يحبّ البحر،
تلقيت تعليماً كولونيالياً جيداً،
في باطني الهولندي والزنجي والإنكليزي،
إمّا أنا نكرة أو أمة».

ورغم أن شاعر «حياة أخرى» فتح عينيه على طبيعة مترامية الأطراف وتناهت إلى سمعه أصواتها وحركاتها اللانهائية، فقد آثر العزلة وسفر التأمُّلات الداخلية التي عرّفته على أشياء هي فيه منذ آلاف السنين، مازجًا في عمله الشعري بين أصداء من سيرته الذاتية وأسرار هذه الطبيعة على النحو الذي يقود المخيّلة إلى أن تستثير عالمًا من الإحساسات الكامنة:

«إنّها في غرفتها، تلاطف الأشياء القديمة،
قصائدي تقلب ألبومها. حتى لو قصف البرق
مثل تحطم أطباق في السماء،
لا تريد أن تخرج.
ألا تعرفين أنني أحبك لكنني عاجز
عن إيقاف المطر؟ لكنني أتعلم ببطء
كيف أحب الأيام الكئيبة، والتلال المتبخّرة،
والهواء المشبع بثرثرة البعوض،
وأن ارشف دواء المرارة.
لذا، حين تبزغين، يا أختي،
فاصلة خرز المطر،
بجبينك جبين الازهار، وبعينيك عيني الصفح والمغفرة،
لن يعود كل شيء كما كان، بل سيكون حقيقيا».
وفي آخر دواوينه: «طـــــــائر البلشون الأبيــــض» يكشـــف والكوت عن ولعه بالتجريب على نحو يكتشف روحه المتوثبة التي لا تؤمن بالجامد والمسكوك في حياة الأدب، والشعر بخاصة. 
وربما لهذا السبب، لم يرغب والكــوت في أن يصبح شاعراً، بل بالأحرى صاحب «مختارات أدبية» ظل على الدوام يبحث عن الجملة الملائمة والكلمة المكتملة بين فجوات سيرته الذاتية: «لم أكتب ما أردت كتابته، وليس لديّ أي انطباع للوصول إلى نهاية الأشياء». إنها حياة تجدد نفسها مع الوقت، كلما تناهى إليه صوت أحدهم وهو يمشي في الجبل أو يأتي متسلّلًا من رحم البحر وتلاله الضبابية:

نصف أصدقائي ماتوا
سأخلق لك أصدقاء جددًا (قالت الأرض)
صحت: لا، أعيديهم إليّ
كما كانوا
جميعهم
وبكامل خطاياهم.
يمكنني الليلة سماع أصواتهم
تتسلل إليّ من خلال أمواج البحر
المتكسرة بين أعواد القصب.
فيما أمشي وحيداً
بين أوراق المحيط المضاءة بالقمر
أسفل الطريق الضبابي
ولا أستطيع التحليق
مثل بوم حالمة
تتحرر من ثقل الأرض.
آه، أيتها الأرض
أصدقائي الذين ابتلعتهم
أكثر من الذين سأحبّهم.